هل سيتقدم بوتفليقة إلى عهدة رابعة؟! شكّل هذا التساؤل المحيّر بالنسبة للمراقبين لكن كذلك للطبقة السياسية التي اعتصرتها حرقة الحيرة حالة أشبه بحالة ليلة الشك.. ومع ذلك، فإن كل المؤشرات الأخيرة تدل أن الجزائر تتجه نحو ما يمكن وصفه بمرحلة بوتفليقة الرابع.. كانت العبارة الشهيرة، وهي آخر عبارة للرئيس بوتفليقة قبل دخوله مرحلة المرض الطويلة والمثيرة للتساؤلات والتأويلات التي تكاد لا تنتهي والمضاربات المجنونة... "أننا جناننا طاب" وعنت يومئذ لدى الكثيرين، أن بوتفليقة سوف لن يترشح إلى ولاية جديدة، وفي الوقت ذاته أولّها المراقبون أن النظام قد انتهى إلى نتيجة مفادها، تأهب الجزائر للدخول في مرحلة تنهي خلالها كل تلك الفترة التي تميزت بسيادة الشرعية الثورية والدخول في مرحلة الجمهورية الثانية التي ستتأسّس في ظلّها تقاليد جديدة تسمح بظهور لاعبين جدد على صعيد قيادة زمام الأمور، وتناقل وقتها عدد لا بأس به من الفاعلين كلاما عن سيناريوهات قد يشارك فيها حزب آيت أحمد وآخرون كانوا محسوبين على المعارضة التقليدية والشرسة للوجهة الأمنية للنظام ضمن العملية الجديدة لإعادة صياغة اللعبة السياسية.. وأثيرت في ظل مثل تلك الأجواء بعض الطروحات التي راحت تشير إلى أن النواة الصلبة داخل النظام، وهي النواة التي طالما أوكلت لها قرارات الحسم في نهاية المطاف، قد حسمت ميزان القوة لصالحها وقد راهن البعض أنها ستدفع بالواجهة إلى الرجل الذي أعدّته لسنوات طويلة لأن يكون على رأس النظام، وهو أحمد أويحيى.. ومباشرة بعد النتائج التي حققها حزب جبهة التحرير، ظهرت في الأفق تأويلات جديدة راحت تتنبأ بأن عبد العزيز بلخادم هو من سيكون على رأس النظام وبين هذين الطرفين المتضاربين ظهر إلى السطح عنصر جديد أربك مختلف التكهنات التي سرعان ما أصبحت قيد التداول في سوق الحسابات والتخمينات السياسية، وهذا العنصر هو الاستبعاد المتزامن لكل من أحمد أويحيى وعبد العزيز بلخادم من واجهة الساحة السياسية ودخول الآفالان في حالة من اللاإستقرار نتج عنها صعود نجم عمار سعيداني الذي شكّل خطابه صدمة للذين كانوا يرون في القلعة الأمنية التي كان يمثلها الدياراس منطقة محظورة وتكاد تكون شبه مقدسة.. والأسئلة التي راح يردّدها الفاعلون والمراقبون تمحورت وقتها حول من يقف وراء عمار سيعداني، هل هي النواة المقربة من الرئيس وإن كان الأمر كذلك، فما هي الأوراق التي تحتفظ بها لتكون بمثل هذه القوة؟! وأيضا، إن كانت هذه النواة تتمتع بضوء أخضر من القوى العظمى صاحبة النفوذ، ومما زاد من ترسيخ هذا الاعتقاد هو التغيرات التي طالت جهاز الأمن وصعود نجم العميد قايد صالح، كرجل قوي وفاعل جديد ومؤثر في وجهة ميزان القوة. ولقد ذهب البعض إلى حدوث تغير عميق داخل المؤسسة العسكرية لم يُفصح عن عنوانه. ومما زاد من الغموض هو مرض الرئيس وركوده إلى صمت فصيح مما جعل المعادلة الجديدة تدل على مفارقة كبرى أضفت على المشهد السياسي غموضا كبيرا أربك مختلف الفاعلين السياسيين، بحيث لم تعد البوصلة مرئية ولا إشاراتها واضحة.. واعتبرت مثل هذه الحالة ظاهرة غير مسبوقة وفي الوقت ذاته مثيرة للتخوفات.. في حين ربط البعض مثل هذه الإرباكات أن جناح الرئيس بوتفليقة قد تمكن من مباغتة الجناح التقليدي الذي كان يخطى لوقت طويل بالنفوذ وسارع في ترتيب مقدمات مشهد سياسي بدأ بالتغير الحكومي الجذري والذي كان يدل على ميل جديد لميزان القوة بالذهاب رغم المعارضات المتذبذبة والمترددة نحو عهدة جديدة للرئيس بوتفليقة تحت شعار الحفاظ على تماسك النظام والاستقرار. ومضمون العهدة الرابعة أراد مهندسوها من ورائها التغيير نحو ميلاد قوة جديدة تمكنت من كتابة بداية فصل جديد في حياة الحكم الجزائري. وهذه القوة النامية هي قوة قائمة على الجمع بين السياسة والمال وبين كسب المزيد من النفوذ داخل المؤسسة العسكرية ذاتها وداخل المؤسسات الحسّاسة الأخرى التي أصبحت تحت سيطرتها... ولقد أدركت هذه القوة الجديدة أن دخولها المبكر في مواجهة مع الأجنحة الأخرى الرافضة لعهدة رابعة قد يضرها، لذا ركزت على عامل الوقت، وبالفعل لعب إلى حد الآن عامل الزمن لصالحها، وهي في الوقت ذاتها قدمت ضمانا للنظام بالحفاظ على استمراره بدل إحداث القطيعة معه، وهذا بدوره قد يطمئن المتخندقين وراء الجناح غير المتحمس لعهدة رابعة بدون النفود الفعلي للرئيس بوتفليقة في عدم الانخراط في مواجهة ساخرة لإدراكهم أيضا بتلك الهشاشة التي أصبحت تميز كيانهم.. كما تم عقد هدنة مؤقتة بين الجناحين، (الجناح المصمم للذهاب إلى عهدة رابعة والجناح غير المتحمس) قد تكون لصالح بقائهما معا، أو على الأقل دون الدخول في لعبة غير محسوبة النتائج. علي بن فليس، هل غُرّر به مجددا؟! حافظ علي بن فليس منذ موقعة رئاسيات 2004 على صمته وانسحابه العلني من الساحة السياسية كونه مطلعا على ثقافة النظام ولم يبد طيلة صمته الطويل أي انتقاد لحكم بوتفليقة، وبالرغم أن العديد من السياسيين انتقدوا صمته عشية إعلانه الترشح رسميا لسباق رئاسيات 2014، إلا أن المقربين منه كانوا يرون في ذلك حكمة ودليلا على طول نظر وبصر ثاقب، فالرجل أصبح يتمتع في نظر الكثيرين بقوة استقطاب من قبل الكثير من الأطراف، سواء كانت هذه الأطراف في المعارضة أو داخل النظام، أضف إلى ذلك الأنصار الذين ينتظرون اللحظة المهمة من أجل الكشف عن انتمائهم الحقيقي من داخل حزب جبهة التحرير الموالي لعلي بن فليس.. لكن إلى أي مدى يكتسي مثل هذا الطرح جديته ونجاعته؟! يشير مراقبون آخرون إلى أن علي بن فليس أصبح يشعر بالقلق تجاه عامل الزمن، بحيث أصبح رجلا سبعينيا وأنه إذا ما لم يتقدم هذه المرة إلى السباق الرئاسي فإنه سيخسر آخر فرصة له لأن يعود إلى النظام. كما أن رسالته التي وجهها له أصحاب القرار والتي يمكن تلخيصها، أنه وإن كان لا يريد منهم دعما مباشرا، فإنه يتمنى أن لا يتدخلون في عرقلته، وكان الصمت الذي كان بمثابة الرد على رسالته تمت قراءته من قبل علي بن فليس على أنه ضوء أخضر.. ولقد اتخذ علي بن فليس قراره في لحظة قيل عنها إنها كانت تتميز بنوع من التوتر الشديد الغامض بين مجموعة الرئيس المصرّة على الذهاب إلى عهدة رابعة والمجموعة المرتابة من طموحاتها وتخطيطها والتي كانت تسعى إلى الفصل بين الرئيس والمجموعة الموالية له... لكن الأمر الذي حدث عندما قام علي بن فليس بالإفصاح عن نيته في الترشح هو عودة التطبيع بين الجناحين وبالتالي تراجع الخلافات بينهما ووصولهما إلى حد أدنى من الاتفاق حول الذهاب إلى عهدة رابعة وتقديم تنازلات جزئية من كلا الفريقين، وعند هذه المحطة كان علي بن فليس من الصعب عليه التراجع عن قراره في الترشح وبالتالي فإنه قد يجد نفسه في وضعية صعبة مليئة بالتحديات، فهو من جهة يدرك أن قرار ذهاب بوتفليقة نحو عهدة رابعة قد اتخذ وحُسم وتبدو مؤشراته واضحة على صعيد اصطفاف الآرندي وحزب جبهة التحرير برغم خلافاتهما الداخلية حول من يكون على رأس الأفلان ونقابة محمد السعيد إلى صف العهدة الرابعة، كذلك الموقف الذي اتخذته حمس والأرسيدي من خلال إعلانهما مقاطعة الانتخابات وتراجع حزب عبد الرزاق مقري عن دعم مرشح التوافق الوطني لإدراكه أن علي بن فليس لا يتمتع بمساندة العسكر، ولا بعض الأجنحة الموالية للنظام ... وسيكون من الصعب والمؤلم لعلي بن فليس الذي اتخذ مثل هذا القرار أن يجد نفسه في هذه اللعبة يلعب دور الأرنب السياسي على غريمه بوتفليقة وبالتالي قد يجد نفسه بالرغم منه بدور المساعد على إضفاء شرعية وصدقية لرئاسيات ينظر إليها المقاطعون والمناوئون لعهدة رابعة على أنها مغلقة ومحسومة مسبقا... وهذا ما يجعل البعض يعتقدون أن علي بن فليس برغم صمته الطويل والحذر البالغ فيه الذي أبداها طوال السنوات الماضية قد غرّر به من جديد، وهو الآن ليس أمامه من أجل إنقاذ نفسه سياسيا إلا الذهاب بعيدا في معارضته ليس لبوتفليقة فحسب، بل معارضته للنظام وهذا ما سيجعله في وضعية لم يحسب لها حسابا... فهل يكون علي بن فليس عازما وقادرا على مواجهة النظام الذي فضل الوقوف إلى جانب بوتفليقة والمؤيدين له بشكل علني وجذري؟! هل يتمكن علي بن فليس في أن يصبح رمزا لمعارضة جذرية للنظام ويتحمل مسوولية ذلك سياسيا؟! الذين يعرفون ثقافة الرجل السياسية يستبعدون ذلك، وبعضهم يراهن على أن بن فليس غير مؤهل لأن يكون هذا الرجل الذي يقبل بخوض المجازفة دون ضمانات، إلا أن البعض لا يستبعد أن يلعب بن فليس كل أوراقه أو بتعبير أدق ورقته الأخيرة لأنه وصل إلى دراية بات يعتقد فيها أنه ليس لديه ما يخسره. ويؤكد أصحاب هذا القول إن علي بن فليس أسرّ لمقربين منه، أنه هذه المرة سوف لن يتصرف مثل ما تصرف في المرة السابقة عندما خرج خال الوفاض من معركته الانتخابية ضد بوتفليقة.. إنه يريد هذه المرة أن يأخذ بالمقولة الشكسبيرية لبطله التراجيدي... "يكون أو لا يكون" وتلك هي المسألة كما يقول هاملت...