الساعة الثامنة مساء، توقفت سيارة فخمة في أعالي العاصمة بالقرب من مسكن مولود حمروش، نزل منها شخصان ببدلتين كلاسيكيتين، الأول فارع القامة، قوي البنية وذو ملامح دقيقة يدعى الكولونيل ناصر، وهو في الحقيقة قد أحيل منذ وقت على التقاعد من طرف الجنرال توفيق عندما اكتشف أن له علاقات خفية ووطيدة مع آيت أحمد، إلا أن الكولونيل ناصر ظل مع ذلك يتمتع باحترام الجنرال توفيق وثقته نظرا لأنه قدم خدمات جليلة للاستعلامات عن خبايا حزب آيت أحمد، وكان قد لعب كذلك دور الوسيط بين جهاز الاستعلامات والضابط المنشق هشام عبود، عندما قبل هذا الأخير الصفقة التي عرضت عليه من طرف زملائه القدامى في جهاز الاستعلامات للإدلاء بشهادته حول الدبلوماسي المشتبه فيه من طرف الاستخبارات الفرنسية والعدالة الفرنسية على أن يكون هو المتورط في اغتيال المحامي مسيلي... وكان الضابط ناصر، هو من التقى بالضابط المنشق ليقنعه بالعودة من جديد إلى الجزائر متمتعا بالحماية والرعاية من طرف جهاز الاستعلامات، إلا أن الشيء الذي جعل الجنرال توفيق يحافظ على علاقته بالعقيد ناصر هو العلاقة التي ظلت تربطه بقوة برئيس الحكومة الأسبق مولود حمروش.. بحيث كان هذا الضابط السامي بمثابة الوسيط بين الجنرال توفيق ومولود حمروش، وكان يرافق الكولونيل ناصر، الرجل القوي في الأفافاس بطاطاش، إلا أن هذا الأخير يعتقد في أعماقه أنه مجرد صورة لرجل قوي، فالرجل القوي يظل آيت أحمد وذلك برغم ادعائه أنه لم يعد المشرف المباشر على الأفافاس... دق الكولونيل على الجرس، وإذا بصوت أشج ينفذ من خلال الأنترفون، "أهلا، أهلا.." وما هي إلا لحظات وجيزة حتى كان حمروش وهو يرتدي لباسا رياضيا يفتح الباب السميك، ويرحب بضيفيه اللذين عزمهما على عشاء غير معتاد... دخل رجل الأفافاس والضابط السامي الصالون بحيث كان في انتظارهما الجنرال رشيد بن يلس الذي لم يكن تجمعه بحمروش أية ألفة أو محبة، لكن تطورات الوضع السياسي منذ مجيء بوتفليقة جعلتهما ينسجان علاقة بينهما قائمة على التقارب المتبادل باسم محاربة الخصم المشترك.. لكن حمروش كان يخفي مشاعره الحقيقية ولم يلفظ ولو مرة بكلمة جارحة أو في غير محلها تجاه بوتفليقة، ولم يكن على الأقل على المستوى المعلن يعتقد أن بوتفليقة يعد خصما حقيقيا، بل بالعكس عندما التقى حمروش ببوتفليقة أكثر من مرة ظل هذا الأخير يغريه لأن يكون في صفه ضد المخابرات ورجلها العتيد الذي كان لا يحتفظ بالمحبة لحمروش، ولا يثق فيه باعتباره رجل طموح وكاد أن يقضي في سنوات حكومته على هيبة ومكانة الاستخبارات.. جلس الثلاثة بينما راح حمروش قبل وقت العشاء يعرض عليهم تناول القهوة والحلويات، فقال الجنرال بن يلس.. لا، لا، الحلويات ممنوعة علي.. أنا أعاني من "مرض السكري" .. ثم أضاف و "من قلة السمع" وأشار إلى السماعة التي كانت مثبتة في أذنه اليمنى.. راح كل واحد منهم يعلق على الأحداث ومجرى التطورات، وعندئذ تدخل الضابط ناصر وهو يبتسم "الجماعة سيعيشون هذه الأيام أحلك لحظاتهم" وبالطبع كان يقصد بالجماعة، جهاز الاستخبارات إلا أن الجنرال رشيد بن يلس، قلل من شأن هذا القول وأبدى شكوكه في أن يعيشوا فعلا أحلك لحظاتهم، واستطرد قائلا "إن خطأهم، أنهم وضعوا ثقتهم كلها في بوتفليقة، وفي رأيي أنهم استصغروا الأمر لأن يأتي يوم ويجعله قوة محل تهديد.. إنهم لا يعرفون من هو بوتفليقة.. في رأيي ذلك خطأهم الكبير، وهم أعتقدوا عندما وقفوا إلى جنبه في العهدة الثانية، أنهم وضعوه في جيبهم وهم في ذلك كانوا على ضلال مبين.. لقدجرد توفيق والجماعة من رأسهم المدبرة، سي العربي بلخير رحمه الله، ثم من كل المجموعة التي كان يعتمد عليها توفيق، ليجد في حقيقة الأمر نفسه وحيدا... والآن، وبرغم مرض بوتفليقة فإن هذا الأخير ليس من السهل أن يدع توفيق يتعشى به... ليس من السهل ذلك..." وقاطعه الكولونيل ناصر.. "نحن يا سي رشيد في وضع آخر" وبوتفليقة هو في حاجة إلينا قبل توفيق.. هل تظن أنه أصبح يمتلك نفس القوة التي كان يتمتع بها ؟! هل تظن أن المقربين منه قادرون أن يحلوا محله ؟!" ظل بطاطاش صامتا وهو ينظر إلى وجه حمروش الذي كان من حين إلى آخر يعلق على وجهه ابتسامه عريضة، وكان يبدو وكأنه أصبح في وضعية حسنة لم يعرفها منذ سنوات.. كان يعبث بالسبحة الصغيرة التي كانت بيده اليمنى، ولقد كان يقول لمن يستغرب وهو يراه بالسبحة الصغيرة، إنني أريد أن أتغلب من خلال هذه العادة الجديدة على عادة التدخين.. إلا أن من كان يعرفه عن قرب، يقول أن حمروش أقسم أن يتوقف عن تناول السيكار حتى لا يظهر أنه يقلد توفيق المعروف، برجل السيكار..