المتتبع لمسار اللغط السياسي المتصل بوضع البلاد حاليا، ومنذ الانتخابات التشريعية ل10 ماي 2012، حتما يجعل من قول الرئيس بوتفليقة بأن الأزمة التي تحدث عنها قادة عسكريون متقاعدون وقادة أحزاب سياسية وشخصيات وطنية، ”قولا فيه نظر”، فالرجل نفى أي خلافات في أعلى هرم الدولة، ما يعني أن ”كبار القوم” وهم أطراف النظام السابقون وبعض منهم حاليون، كانوا مجانبين ”الصواب”، فهم وفقا لهذه النظرة، إما يجهلون خبايا النظام الذي ترعرعوا فيه وإما أنهم يقومون بأدوار، وفي كلتا الحالتين، هم متهمون؟ خطاب الرئيس بوتفليقة الذي نفى فيه الأزمة بين مؤسسة الرئاسة وجهاز الاستخبارات وبين هذا الأخير ووصايته، قيادة أركان الجيش الوطني الشعبي، بمناسبة يوم الشهيد 18 فيفري، يضع تلقائيا، كل من تحدث عن صراع بين أجهزة الدولة النافذة، موضع اتهام، وفي بعض فصول ”الصراع المزعوم”، كما وصفه خطاب الرئيس، يقتضي الأمر إحالة أصحاب تلك التصريحات على العدالة، خاصة عندما يعتقد الرئيس أن ثمة محركات خارجية وأياد خبيثة تريد ضرب استقرار البلاد، ففي الأمر ”خيانة”. وبعيدا عن نمطية الرؤية القائلة ”بالأيادي الخارجية” كلما تخندقت الجزائر في أزمة داخلية، فإن ما شارف عليه الوضع من تعفن سياسي وآخر اجتماعي، يتطلب بالضرورة، ليس فقط وضع النقاط على الحروف، وإنما تحريك كل الكلمات من أجل وضع كل طرف في مكانه الحقيقي وفي حجمه الطبيعي، من خلال جهاز واحد هو ”العدالة”.. لكن الرئيس تكلم والعدالة لم تقل كلمتها لحد الآن، والاكتفاء بالكلام لن يغير من الوضع شيئا. مؤشرات الأزمة بدأت مع تشريعيات 2012، واستفحلت بعودة الرئيس بوتفليقة من العلاج بباريس، بتاريخ 16 جويلية 2013، وانفجرت في بداية فيفري الجاري بمجرد تصريح من عمار سعداني، ضد مدير الاستعلام والأمن بوزارة الدفاع الوطني، الفريق محمد مدين، وبغض النظر عن ”الصرخة في واد” المطالبة بالتحقيق القضائي في تصريحات سعداني دون أثر، فإن ”ذكاء” الجزائريين بمختلف أطيافهم، لم يخنهم في قراءة ما بمخيلة هؤلاء الذين يقفون خلفه، وطالما أن تفاعلات قضية سعداني مع ”الجنرال توفيق” طالت خروج جنرالات متقاعدين وشخصيات سياسية ”ثورية” من مغاراتهم إلى العلن، فإنه لا يمكن إدارة الظهر دلالة على وجود الصراع الذي ينفيه الرئيس، ثم من ذا الذي يستغبي معرفة مولود حمروش بشأن ما يجري في سرايا الحكم وتجاذبات الأجنحة، لما يدعو إلى إجماع وطني لتجاوز الانسداد، ويدعو إلى استقرار الجيش، ومن ذا الذي يرد كلام الثلاثي طالب الإبراهيمي ورشيد بن يلس وعلي يحيى عبد النور الذين أشاروا إلى الأزمة في بيانهم المشترك قبل أيام، رافضين إبقاء بوتفليقة في الحكم. إن لم تكن هناك أزمة، فعلا، فهذا يعني أننا نعيش وضعا معينا، لكن ماذا نسميه ”أهو استقرار؟” مثلا، والكل بمن فيهم أطياف الموالاة لا تقر بذلك، ولا يمكن أن يتحدث سعداني الذي يشغل منصب أمين عام لحزب، رئيسه بوتفليقة ذاته، عن الجنرال توفيق بتلك الحدة، ثم يأتي ويقول إننا نعيش الاستقرار ولا يجب أن نفرط فيه ونغامر بالبلاد برجل غير بوتفليقة، ثم وطالما أننا لا نعيش أزمة، لماذا ”عاقب” الرئيس أمينه العام في رسالتين متتاليتين للشعب؟ وكيف يتسنى للجنرال المتقاعد حسين بن حديد مهاجمة شقيق رئيس الجمهورية السعيد بوتفليقة الذي وصفه بأنه ”أخطر شخص في حاشية الرئيس”، كما هاجم قائد أركان الجيش ونائب وزير الدفاع ڤايد صالح. ولا داعي أيضا إلى ذكر الجدال الذي حصل بين وزير العدل السابق محمد شرفي وعمار سعداني، بعد أن اتهم الأول الثاني بمحاولة ثنيه عن القيام بمهمته، فيما يتعلق بفضائح شكيب خليل. قبل كل هذه الشوشرة، تحدثت أطراف عديدة عن ”أزمة” تمر بها البلاد، وهي من الأوزان الثقيلة حتى وإن كانت الأزمة في ذلك الوقت ”غير ثقيلة” ولم تطل صراعا معلنا بين الأجنحة، ومعروف أن زعيم الأفافاس المنسحب حسين آيت أحمد، ومولود حمروش وعبد الحميد مهري اتفقوا على مبادرة مشتركة سنة 2007، دعوا فيها إلى انتقال ديمقراطي سلمي، كما بعث الراحل عبد الحميد مهري رسالة إلى بوتفليقة في شكل مبادرة أيضا تتحدث عن المبتغى ذاته، لكن الرد الرسمي الذي قدم آنذاك على هذه المبادرات، كان مختوما بالتجاهل. ظاهريا تختزل الأزمة السياسية في البلاد في مضيق واحد هو ”عجز السلطة عن إخراج مرشح ”توافقي” بين أطيافها”، وإن كان الأمر غير ذلك، لماذا لم تخرج السلطة ”فارسها” ونحن على بُعد أيام فقط من غلق ”لعبة اعتزام الترشح” التي أحصت 105 معتزم ترشح، ليس من بينهم ممثل للنظام؟ وفي الظاهر أيضا، أن السلطة تعي ما تفعل، أو أنها ترسل إشارة إلى أنها تعي ما تفعل، وليس عصيا عليها تقديم مرشحها ساعة فقط قبل إقفال وزارة الداخلية مكتب استمارات الترشح، ولعل هذا ما استنتجه رئيس حركة مجتمع السلم، عبد الرزاق مقري، بأن هناك صفقة سياسية خطيرة تحضّر، قد لا يعرف لاعبوها بعضهم بعضا.. لكن أليس هذا هو الأخطر؟