في 1999 عندما استخلف بوتفليقة ليامين زروال وجد على مكتبه هدية ثمينة وضعها الجنرال توفيق بدعم من عائلته العسكرية، وكانت هذه الهدية لا تضاهى من حيث القيمة السياسية والمعنوية، تمثلت في الإتفاق من جانب واحد مع الجيش الإسلامي للإنقاذ حول ترك السلاح والنزول من الجبل وكان مضمونها الأساس الإنخراط في مخطط الوئام المدني، العمود الفقري لمشروع المصالح الوطنية وهو جوهر الشرعية السياسية الجديدة لحكم بوتفليقة، ولم تكن هذه الهدية إلا تتويج مسبق لرئيس مدني، عاد بعد منفاه الإختياري الطويل إلى سرايا الحكم وعلى رأس السلطة دون فريق أو جماعة وهو في هذا الشأن حقق رغبة عميقة في نفسه، وهي العودة إلى السياسة كرجل إجماع، مخلص، ومهدي على الطريقة الديغولية.. ومن ثمة، كان بوتفليقة منذ أول وهلة حريصا أن يكون رئيسا غير منقوص الصلاحيات وغير مفتقر إلى السلطة الفعلية، مثلما حدث لسابقيه من الرؤساء الذين عقب حقبة هواري بومدين.. وبمعنى آخر، كان يريد أن يكون قيصرا حديثا بالمعنى الكامل للكلمة، إلا أن هذه الرغبة لم تكن بالسهلة، فلقد عرف تحقيقها مشوارا معقدا وطويلا تطلب الإنخراط في لعبة القط والفأر تارة، وفي لعبة استعراض القوة الخفية تارة أخرى... كان بوتفليقة وهو صاحب الحس المشكاك يراهن على عامل الزمن لأن يكون هذا القيصر الحديث، لكن كيف يمكن التوفيق بين لعبة القيصر والديمقراطية التي تعني التداول على السلطة من جهة، والتوفيق بين سلطة الرئيس المتشبع بالثقافة البونابارتية وبين سلطة المؤسسة الأمنية التي تعاظم نفوذها منذ رحيل الشاذلي بن جديد في بداية انفجار الأزمة الجزائرية؟! كان بوتفليقة يدرك منذ البداية أن من لجؤوا إليه، كانوا في حاجة إلى رجل كاريزماتي، مدني وصاحب تاريخ يحيل إلى مجد السياسية الجزائرية من شأنه حماية مصالحهم لكن كذلك يقف سدا أمام أية دعاوى لمحاكمتهم أمام المحاكم الدولية بسبب ما أثير من شبهات حول تورط بعضهم في المجازر التي حدثت في التسعينيات التي وجدت صدى إعلاميا وسياسيا لدى مجموعات الضغط المعروفة بأطروحاتها حول "من يقتل من في الجزائر" لذا كان بوتفليقة مقابل هذه الخدمة يطرح شروطه أن كون صاحب المركب دون منازع، فكانت عقيدته السياسية لا تتوافق وجوهر اللعبة السياسية التي تم تأطيرها قبل مجيئه إلى الحكم.. وتمثلت عقيدته السياسية في مركزة السلط بين يديه، ومن هنا كانت دعوته الملحة على تعديل الدستور وكان له ذلك عندما تمكن أن يغير المادة التي تحد من عهدات الرئيس، من عهدتين إلى عهدات غير محدودة.. كما أنه كان رافضا لازدواجية السلطة وتقاسمها بين المدني والعسكري.. وبرغم المقاومة التي ظل يلاقيها من جهاز الاستخبارات ورجلها العتيد، إلا أنه تمكن من إضعاف سلطات هذا الجهاز والدليل على ذلك التغييرات العميقة التي باشر بإحداثها، إلا أن المسألة أضحت معقدة بسبب التأخر الذي سجله بوتفليقة في هذا المضمار وعامل الوضع الصحي الذي جعله يعتمد في ذلك على المحيط البديل الذي تمكن من تشكيله كسلطة موازية ومضادة للسلطة الأمنية.. ولقد راهن بوتفليقة في أيام مضت على رجله المقرب نور الدين زرهوني المطلع على خبابا المؤسسة الأمنية، إلا أن هذا الأخير برغم الخدمات الكبرى التي أسداها لبوتفليقة ظل مترددا في حسم الصراع لصالح المؤسسة الرئاسية، وكان هذا التردد من طرف نور الدين زرهوني مصدر شكلدى الرئيس بوتفليقة، فكانت النتيجة التخلي عن هذا الصديق القديم واللجوء إلى عملية استنزاف سلطة جهاز الإستعلامات وتطويقها بجناح نافذ متعاظم القوى تتقاطع فيه المصالح المالية والسياسية الجديدة داخل كل من المؤسسة العسكرية والمدنية.. وكان استرجاع الأفالان كواجهة سياسية وتاريخية رمزية من طرف الموالين بصورة مطلقة لعقيدة الرئيس بوتفليقة بداية انتقال المعركة من الحلقة الضيقة إلى دائرة أكثر وأشد اتساعا.. لم تعد عقيدة بوتفليقة مقتصرة عليه بقدر ما أصبحت تشكل خريطة الطريق الجديدة للورثة الجدد الذين انضووا تحت ما يمكن تسميته بحزب العهدة الرابعة وهم خليط من رجال السياسة الذين ارتقوا إلى مناصب وزارية وسياسية بفضل الحقبة البوتفليقية يتوزعون ما بين العائلات السياسية مختلفة المشارب، وما بين المناطق، وما بين المؤسسات المدنية والعسكرية لكن نقطتهم المشتركة هو الولاء المطلق لعقيدة بوتفليقة والتزامهم الدقيق بخريطة الطريق التي راحت تتشكل على مراحل.. ويمكن تصنيف هؤلاء الرجال على درجتين، أصحاب الدرجة الأولى هم من اختارهم الرئيس ليكونوا بجنبه باسم الولاء المناطقي الضيق، بحيث أصبح هؤلاء على رأس الوزارات الحساسة مثل الداخلية والعدل والشرطة، والتعليم العالي والمؤسسة الدستورية وأصحاب الدرجة الثانية هم المنتفعون الجدد والمتسلقون ومعظمهم من أظهروا ولاءهم وانقلابهم على سادتهم السابقين، ومعظم هؤلاء من المنشقين عن أحزابهم الأم مثل عمارة بن يونس وعمار غول لكن أيضا ممن يعتقدون أن ميزان القوة هو بصدد الاتجاه الجديد، وذلك ما يمكن أن يحفظ لهم مكانة سياسية داخل سرايا النظام، وبالاضافة الى الرجال، أيضا يمكن الإشارة الى الزمر المرتبطة بالمصالح الجديدة الاقتصادية التي تشكل رجال الأعمال المستفيدين من حقبة بوتفليقة وذلك برغم انتماءاتهم الجهوية المختلفة، فمصلحتهم تملي عليهم التخندق ضمن حزب العهدة الرابعة بدل المغامرة في لعبة مستقبل مجهول.. برغم السمعة السيئة لعمار سعداني في الأوساط الإعلامية والسياسية، إلا أن هذا الرجل كان المنقذ الكاميكازي لعنصر من عناصر خريطة الطريق الجديدة لحزب العهدة الرابعة، وهو لما قام بذلك القصف غير المسبوق لرجل الاستعلامات العتيد، ولقد حقق بتلك العملية الأهداف المرجوة من وراء ذلك والمتمثلة في الدعم الرمزي والمادي للمتغيرات التي طالت رجال توفيق الأقوياء وذلك من خلال نزع الطابع الاسطوري على الرجل العتيد للاستعلامات وتحميله مسؤولية الإخفاق الأمني وبالتالي مطالبته بتقديم الاستقالة.. وكانت هذه العملية التي قام بها عمار سعداني بمثابة جس النبض لما يمكن أن يقوم به الرجل العتيد للاستعلامات من رد فعل.. إلا أن ردود الفعل الأولية لم تتجاوز بعض التصريحات من الموالين للجنرال توفيق على أعمدة الصحف.. وكان ذلك في حد ذاته اشارة الى نهاية حقبة الدولة / دياراس، بحيث فتحت برغم السمعة السيئة لعمار سعداني باب السجال والنقاش واسعا حول دور الاستعلامات في اللعبة السياسية.. كما أن الرجل برغم رسالة الرئيس بوتفليقة المطمئنة لرجل الاستعلامات لم يتابع قضائيا ولم يقدم أي اعتذار للمؤسسة الأمنية ولم يزح من على رأس الأفلان بل صب تصريحه في مصب انتقال حزب العهدة الرابعة من فترة الترقب الحذر إلى لحظة الحسم وهو الاستعداد لخوض حرب الرئاسيات لتدشين عهدة جديدة للأب الروحي بوتفليقة. برغم أن بيان حمروش فتح أمام المصابين بالعجز والقنوط السياسيين كل التأويلات الممكنة وباب الأمل بعدم ترشح بوتفليقة إلى عهدة رابعة إلا أن هذا الأمل يظل هشا بحكم أن حمروش لم يحسم موقفه بدقة كلاعب رئيسي وذلك برغم لقائه برجل الاستعلامات في الأيام الأخيرة.. فالرجل ظل يقترح نفسه كمخلص في ظل اتفاق مشترك بين الطرفين المتصارعين وأن لا مبادرة له فعلية من خارج الموافقة الفعلية للمؤسسة العسكرية إلا أن هذه الأخيرة ومن بينها جهازها الأمني لم تعرب عن عدم موافقتها لخطة حزب العهدة الرابعة.. فهل يعني ذلك أن حزب العهدة الرابعة قد كسب معركته الأولية على المستوى الرمزي قبل أن يكسبها على الأرض؟! إن التردد الظاهر في المعسكر المضاد لا يزيد حزب العهدة الرابعة إلى ضراوة في استماتته على كسب مشواره نحو قصر المرادية، ويظهر هذا التردد في عدم تمكن علي بن فليس منذ إعلانه الترشح من أن يصبح لاعبا رئيسيا خلال السجال السياسي، فلقد ظل على هامش الصراع والنقاش السياسيين، بحيث افتك عمار سعداني منه كل الأضواء، كما افتكت منه رسالة بوتفليقة بريقه السياسي وهذا ما سيخلق أمامه تحديات كبرى لأن يستمر في النزال الرئاسي بنفس الوعد الذي قدمه لأنصاره.. وأمام هذا التردد والجمود الذي ظهر به المعسكر المضاد لحزب العهدة الرابعة يراهن البعض أن الحل لايقاف آلة العهدة الرابعة لا يمكنه أن يأتي من داخل المؤسسات الرسمية، بل من المجتمع إذا ما تمكن الناشطون ضد العهدة الرابعة من إحداث ديناميكية قوية وجديدة يكشف حولها شخصيات رمزية معروفة بنزاهتها وشجاعتها لتكون الوقود الحقيقي لأنصار المعسكر المضاد حتى يتحولون إلى قوة وسلطة مضادتين.. فيا ترى إلى أي مدى يكون مثل هذا الرهان صحيحا؟!