بعد الصمت الطويل والملتبس الذي لمع به مولود حمروش، رئيس الحكومة الأسبق في عهد الشاذلي بن جديد الذي استقال بشكل اضطراري عشية اندلاع الأزمة بين السلطة وجبهة الإنقاذ في بداية التسعينيات، فجر قنبلته في جو مليئ بالتوترات التي أفرزها صراع العصب داخل سرايا النظام، وجاءت هذه القنبلة في شكل بيان مفاجئ، مقتضب، ملغز ومتدثر بالإشارات المبطنة تجنبا لكل ما يمكنه من أن يؤجج الساحة، ويزيد الزيت على النار.. إلا أن هذا البيان الذي تحاشى أن يتخندق في معسكر على حساب آخر لم يمنح في نظر البعض ممن اتصلنا بهم إجابات واضحة بقدر ما أثار من تساؤلات لا تفصح بشكل دقيق عن خلفياتها ومناطق الظل التي تحركت في سياقها... هنا مقاربة لبنية البيان وما تضمنه من كودات في ظل سياق شديد التعقيد.. السؤال الذي نطرحه، ما هي الدوافع والحيثيات الدقيقة التي جعلت مولود حمروش يخرج عن صمته الطويل، الملتبس والحذر؟! في نوفمبر الماضي تم اتصال أول بمولود حمروش من قبل الممثلين الأقوياء لحاشية الرئيس بوتفليقة وكان هذا الاتصال بموافقة بوتفليقة، وفتح معه المجال لتناول عرض مغر، ويتمثل هذا العرض الذي أشرنا إليه في مقالات سابقة على أعمدة "الجزائرنيوز" ولم يتم تكذيبه من أي طرف أن يقبل مولود حمروش دور المدعم لعهدة رابعة للرئيس بوتفليقة وبالمقابل أن يحظى بمنصب نائب رئيس، طبعا كان هذا العرض بدعم وتأييد معنوي وسياسي سري من قبل الأفافاس، وربما لهذا السبب نأى حزب آيت أحمد بنفسه عن تلك المعركة التي أدى دور الناطق باسمها عمار سعداني ضد جهاز الاستخبارات، وطلب حمروش وقتها إعطاءه مهلة للتفكير والتشاور مع مقربيه.. إلا أن حمروش في نهاية المطاف كشف عن قلقه من هذه اللعبة غير المضمونة والتي قد تدفع به إلى التخندق إلى جانب عصبة ضد عصب أخرى.. ولذا رأى في العرض المقدم له من قبل حاشية الرئيس بوتفليقة أنه يخلو من ضمانة حقيقية وذلك دون أن يشكك في نيات أصحابه الذين وجدوا أنفسهم في مأزق حقيقي، خاصة أمام الحالة الصحية للرئيس بوتفليقة وافتقادهم إلى شخصية تتمتع بالصدقية وقدرتها على الذهاب بمشروعها إلى أقصى حد.. وانتهى تحفظ حمروش من العرض المقدم له بوضع شرط، كان من الصعب توفيره أولا بسبب الفترة القليلة المتبقية لموعد الانتخابات الرئاسية، وهو أن يكون نائبا للرئيس في حالة ماكانت إمكانية تعديل الدستور سابقة للرئاسيات، وبالتالي يكون نائب رئيس منتخب، لا معين، وهذا حفاظا على صدقيته ووزنه السياسي.. إلا أن استحالة ذلك، جعلت من هذا العرض يفقد نجاعته ومعناه... رفض حمروش العرض أشاع الاطمئنان لدى قيادة الاستعلامات اعتبر الرجل الأول في الاستعلامات رفقة نواته الصلبة، أن الرفض الدبلوماسي والشرط التعجيزي لحمروش لعرض حاشية الرئيس إشارة ايجابية لأن يفتح اتصالا بينهم وبين حمروش في اللحظات الحرجة التي قد يكون الوضع سيئا في ظل غياب مرشح الإجماع.. ومما شجع قيادة الاستعلامات على الاحتفاظ بهذا الأمل، أن حمروش أظهر لخصومه السابقين أنه غير مستعد للعودة إلى الساحة السياسية بعيدا عن توفر شروط اجماع بين العصب والأجهزة، وبرهن على ذلك عندما لم ينضم إلى مجموعة الجنرال المتقاعد رشيد بن يلس، وعلي يحيى عبد النور، والدكتور أحمد طالب الإبراهيمي الذين أصدروا بيانهم شديد اللهجة ضد حصيلة بوتفليقة، وكان امتناع حمروش عن الانضمام للثلاثي بردا وسلاما على رجل جهاز الاستخبارات الذي رأى بعين راضية موقف حمروش "المسؤول والشجاع" في ذات الوقت، كما أن هذا الموقف من قبل حمروش قوبل بارتياح من طرف حاشية الرئيس بوتفليقة، وهو بذلك، سجل هدفا مهما في ظل الضجيج السياسي الذي أثاره عمار سعداني بحواره ضد جهاز الاستخبارات ورجله العتيد الجنرال توفيق. رسالة بوتفليقة واللقاء السري بين حمروش وتوفيق كانت أحداث سقوط الطائرة الأليمة فرصة للقاء بين الرئيس بوتفليقة والجنرال توفيق الذي تعرض لقصف من أجل أن يقدم استقالته، إلا أنه رفض تقديم استقالته تحت الضغط وفي ظل ظروف متوترة قبل موعد الرئاسيات، وذلك ما أوحى أنه مستعد لمغادرة منصبه بعد موعد الرئاسيات وغلبة اتجاه الاستقرار، وكانت ثمرة هذا اللقاء بحسب مصادر حسنة الإطلاع، رسالة بوتفليقة الذي كان ممتعضا من التطورالمتدهور للأوضاع لتكون بمثابة الإشارة القوية لوضع حد لصراع العصب وبالتالي إلى التمهيد في تلطيف الأجواء بين العصب والأطراف المتصارعة داخل سرايا النظام.. وفي ظل الأجواء التي أعقبت لقاء رئيس الجمهورية بالجنرال توفيق الذي لم يتراجع عن موقفه للوقوف إلى جانب الرئيس بوتفليقة لعهدة رابعة لكن بضمانات لمواصلتها في ظل إشاعة الهدوء والاستقرار والأمن ومن عدم الدخول في أي منزلق ومغامرات غير محسوبة، يكون الجنرال توفيق قد التقى وبتشاور مع الرئيس بوتفليقة بمولود حمروش.. وبحسب مصادرنا التي تقول أنه لم يتسرب من اللقاء أي معلومات دقيقة إلا أن البيان الذي أذاعه مولود حمروش على الرأي العام يكون ثمرة لهذا اللقاء بين الرجلين... بيان ودلالات سياسية يكشف مولود حمروش في بيانه الذي نزل في قاعات التحريرعن عدة دلالات أو كودات سياسية دقيقة، وهي: 1 ترشح بوتفليقة من عدمه ليس هو الأساس يعتبر حمروش أن ترشح بوتفليقة من عدمه إلى عهدة رابعة، ليس هو الأساس، وبالتالي لا يمكن أن تتحول العهدة الرابعة إلى مصدر حقيقي للصراع الجاري، وهذا يعني أن حمروش الذي عرض عليه منصب نائب رئيس من قبل حاشية الرئيس لا يتخندق بالضرورة ضد الرئيس التي لا تزال تحظى بدعم المؤسسة العسكرية، فالأمر يبقى متروكا لتقدير الرئيس بحكم وضعه الصحي، إلا أن الرهان الكبير يتعلق بتجاوز صراع العصب إلى التركيز على القضايا الرئيسية المتمثلة في الاضطلاع بتحقيق أوإنجاز المحطات الدقيقة التي ستتضح ملامحها عند المحطة الأولى والأساسية لرئاسيات 17 أفريل والتي ستكون القاعدة الرئيسية لتحقيق المرحلة الانتقالية. 2 ضرورة ايجاد توافق العنصر الثاني في البيان يشدد على إعادة التوازن داخل النظام، ولذا سيطرة عصبة على حساب عصب أخرى من شأنه أن يؤدي إلى انهيار الدولة وإشاعة اللا أمن، وهنا يشير حمروش بوضوح إلى القضايا التي ظل مسكوتا عنها في ظل حقبة بوتفليقة، منها العمل على الاحتلال بالتوازن الجهوي، وسيطرة مجموعة مصالح على حساب أخرى خارج الدائرة الحاكمة والمهيمنة، ويعني ذلك بعبارة أخرى أن يعاد الاعتبار للسلطة المعارضة، وهي المعارضة على الصعيد السياسي، لكن أيضا أن يعاد الاعتبار للقوى الفاعلة داخل المجتمع المدني، وهذا ماتأخذه المعارضة على المحسوبين على بوتفليقة الذين أبعدوا كل خصومهم من دوائر صناعة القرار السياسي والاقتصادي... 3 الحفاظ على المؤسسة العسكرية لأن تكون خارج الصراع يعتقد حمروش أنه كان ضحية رجال الساعة الأقوياء المقربين من المؤسسة العسكرية في بداية التسعينيات، وبسبب ذلك، اضطر للاستقالة وبالتالي تم إيقاف مسار الإصلاحات السياسية، وبالتالي تعطل مسار الإصلاحات الإقتصادية التي كانت تشكل العمود الفقري في مشروعه الإصلاحي.. ولذا فالدرس الذي يجب استخلاصه من الماضي، هو عدم الاستعمال الفئوي والعصبوي والسياسي للمؤسسة العسكرية باعتبارها صمام الأمان والوحدة الوطنية، وباعتبارها القوة الأكثر تنظيما وانضباطا.. لذا يرى حمروش أن القدرة على الحفاظ على الإنجازات وتوطيد المسار الديمقراطي لا يمكنه أن يكون خارج مشروع الدولة الوطنية والتي يشكل الجيش عمودها الفقري وهنا إحالة إلى ضرورة التواصل والاستمرار مع الإرث البومدييني لا القطيعة معه.. لأن بالحفاظ على منجز الدولة الوطنية نتجنب ما تعيشه اليوم بعض بلدان الربيع العربي، ليس فقط من صراعات بل من تعرض الدولة للتفكك، خاصة وأن بؤر الصراع من السهل تأجيجها أمام هذه الاختلالات التي راحت تمس عمق البناء الوطني، وذلك من خلال التهميش الجهوي، وخضوع السياسة للعصيبات العشائرية والمناطقية... ويشير حمروش كذلك في هذا البيان إلى ضرورة حماية المؤسسات الدستورية من كل تدخل غير شفاف وفي ذلك إشارة واضحة إلى فصل السياسي عن العسكري وكذلك إلى الفصل الدقيق بين السلطات.. لكن هل هذا البيان يشير إلى أن حمروش قد يكون من بين المتقدمين إلى الرئاسيات أم قد يكون الطير النادر الذي يمكن اللجوء إليه في ظل ظروف متفق عليها مسبقا بين كل اللاعبين الرئيسيين على مستوى القمة؟! ذلك ما سيظهر جليا خلال الفصل الثاني من اللعبة السياسية الجارية..