إن مسألة الحكم، وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بجانبها التتابعي، لطالما ظلت دائما تشكل مأساة اجتماعية حقيقية وسط المجتمعات المسلمة، إلى درجة أن فترات تسلم أو الاستحواذ على الحكم اتسمت بهاجس كبير دفع بالشعوب المسلمة إلى ذلك التخبط الكبير في بؤر وسراديب محطات عدم الثقة أو انعدامها شبه الكلي، والاضطراب النفسي، والقلق، والهم. منذ عهد الخلافة الإسلامية، في العام 632 ميلادي، ازدادت الأمور تعقيدا، وهنا وجب علينا أن نذكر أنه بسبب شرعية هذه الخلافة الإسلامية نفسها، انقسمت الجماعة المسلمة إلى أهل السنة والشيعة والخوارج. وبما أننا اليوم بصدد الكلام كثيرا عن إقدام الرئيس الجزائري على الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة لخلافة نفسه على سدة الحكم، فإنه تبادر إلى ذهننا أنه من المفيد جدا والمجدي بطبيعة الحال أن نستنجد بهذه الفكرة لماضينا القديم، حتى نتمكن من تسليط الضوء بصور فريدة من نوعها على أوضاعنا الحالية أو الراهنة. من الدواعي الابتعاد قدر المستطاع عن الشك في بعض الاعتقادات، وكذا تلك الأفكار المهيأة للاستهلاك والاختيار للتموقع بداخل تلك الحقائق المفترضة المتناغمة مع كل ما يتميز بالقدم أو ما هو من ضرب ذلك التاريخ البعيد. فما بين ألف مثال، يبدو أن شأن المرأة في العالم المسلم هو أيضا كذلك، بما أننا على اعتقاد راسخ أننا لا نلجأ إلى العنف في قولنا أو اعتقادنا أن الإسلام يفرض على النسوة تلك المكانة المقيتة. إن تلك المناقشات التي لا نجدي منها أي فائدة، والتي تهز حاليا الساحة الفرنسية حول مسألة ارتداء الحجاب النسوي تعتبر بذلك الرمز البليغ الذي هو في غنى عن كل تعليق. وإن كان الأمر كذلك فيما يخص تلك النساء العاديات اللواتي عرضهن الإسلام إلى تلك الأوضاع البائسة والممقوتة، يمكننا إذن أن نستخلص ونستنتج أن نساء الاستثناء هن بالضرورة مهمشات ومهملات من طرف تلك الدولة التي تستمد شرعيتها من قانون الشريعة الإسلامية. ولكن، إذا ما قدرنا الأوضاع على ما هو الحال عليه، وجب علينا أن ننظر إلى هذا المشكل بكل تمعن وعن قرب؛ فلما نغوص في التاريخ الحقيقي، مثلما نتناول تلك التساؤلات على لسان المؤرخين والمحللين الصحفيين وكذا الكتاب المهتمين بالشأن التاريخي للأمة، نتوصل إلى إبراز تلك الصورة الحقيقية للمرأة وطابعها الأنثوي في ظل الدين الإسلامي وعلاقاته بالحكم السياسي. فيظهر لنا جليا أن ذلك التمييز في التمثيل، حيث هو أكثر تعقيدا، بدليل أنه لم يكن محل استغلاله وتأويله الأيديولوجي، الذي لا صلة له أصلا بما يقال بشأنه. خلال خمسة عشر قرنا من زمن التاريخ الإسلامي، ما لا يقل عن خمسة عشرة امرأة حصل لها شرف تقلّد الحكم، وغالبا ما كان ذلك بصفة مباشرة، من دون أن يظهر عليها عامل التستر وراء شبح الرجال، مثلما كان الحال عليه في معظم الحضارات الأخرى. آخرها في الزمن، والأقرب إلينا كذلك، كان يتمثل في بنازير بوتو التي تولت منصب الوزير الأول في بلدها الباكستان المعروف بإسلامه المتشدد وعلى مرحلتين وفي مناسبتين. بتاريخ 16 نوفمبر 1998، صعدت بنازير بوتو إلى سدة الحكم، بعد ما كانت قد سيرت بكل قوة وشجاعة حزب الشعب الباكستاني، وذلك منذ سنة 1984، حيث تعد، وذاك يجب ألا نتنكر له في حق التاريخ، أولى النساء اللواتي تقلدن مقاليد الحكم من دون أن تمر عن طريق الانتخابات وبصفة ديموقراطية؛ والسر الوحيد في اعتلائها سدة الحكم أن أغلبية كبيرة من المسلمين الباكستانيين حملت هذه المرأة إلى كرسي رئاسة الحكومة لبلدها. ولكن كيف كان ذلك؟ فإن تناولنا هذا الموضوع من منضور ذلك المعتقد المتخاذل والمخادع أن الإسلام مجحف في حق المرأة في حلمها لاعتلاء كرسي الحكم، فإننا هنا نستغرب فهم حالة تعيين وتفويض بنازير بوتو لهذه المهام الكبيرة والنبيلة. لكن علينا أن نشرح ذلك بكل دقة؛ بحيث أن كثيرين من هم يقطنون بالأراضي المسلمة، وهم يستمرون في تفكيرهم أن كل تلك الشعوب التي تكلف إدارة شؤون بلدها إلى الجنس النسوي سوف تنهار مستقبلا لا محالة، غير أن تاريخ الأمم المسلمة، وعلى وجه الخصوص حكامها العسكريين، فضلوا في بعض الأحيان، عن جد وقصد أو في انعدام كل ذلك أن يتصدوا لتلك الممنوعات. كثيرون هم كذلك من لا يزالون يعتقدون أنه ولا امرأة واحدة كان بإمكانها أن تدير شؤون المسلمين بحكمة وجدية، حتى أنها لم تفلح في يوم ما في تحكمها في الشؤون السياسية للبلد؛ مما يدفع بنا إلى ذلك الاستنتاج الصارخ على أن خلفية انتخاب بنازير بوتو يبقى مبهما إلى درجة أنه أصبح أمرا غير منطقي. ولكن، إن تناولنا لأسس اللجوء إلى التاريخ في هذا المجال يثبت لنا جليا وجود الكثير من النساء الموالية للعالم الإسلامي التي لا تقل شأنا عن الجنس الآخر واحتراما في أدائها للشؤون السياسية لبلدانها، وأكثر من هذا، فإن محرري تلك الوقائع يجزمون تقريبا كلهم بكامل الصراحة أن مواطنيهم كانوا على العموم راضين بكيفية إدارتهن لشؤون هاته الأمم والبلدان، حيث يذكرون على وجه الخصوص هاته الملكات والسلطانات المسمّاة بشجرة الدر، والسلطانة راضية، وتاج العالم، والملكة عروة الحرة وغيرهن. إنهن نسوة كان لهن الشرف والميزة في استحقاق وسام الامتياز والفوز بالتشريف من طرف السلطة السياسية المسلمة، بذكر أسمائهن من طرف حاكم هوميلية (الخطبة) وفي الخطبة العظمى ليوم الجمعة إلى جانب طبع العملة النقدية بصورهن. وحتى وإن كان هذان العاملان الأخيران مدمجين بداخل بعضهما البعض بتفاوت معتبر في قيمتيهما، فإن ذكر اسمهن خلال خطبة الجمعة بصفتهن حاكمات فاضلات وعادلات، لاشك أنه يفوق بكثير تلك القيمة الموجودة في عملية طبع النقود بصورهن، على اعتبار أن ذلك الامتياز الذي يحوز عليه أو يحظى به المسلم بصفة خاصة ومنفردة يعتبر في حد ذاته صفة خاصة بالعالم الإسلامي لا مثيل لها في باقي العالم والأمم، عكس التشريف الذي يظهر على العملة النقدية لشخصية ما التي هي عملية تشترك فيها عامة الناس والشعوب والحضارات. إن حاكم الجماعة هو من ينطق الإمام باسمه خلال خطبة يوم الجمعة، لا أحد آخر غيره، بما أنه يأخذ كل شرعيته من هذه الميزة. وعليه، فإن الأمر لا يعدو أن يكمن في معرفة إن كانت هناك حاكمات في المجتمعات المسلمة، بما أنه يفرض نفسه بنفسه، إذا ما وضعنا جانبا تلك المعتقدات الخاطئة المرتكبة في حق الإسلام منذ ما لا يقل عن قرنين كاملين، بقدر ما تتعلق المسألة هنا بتساؤلنا حول كيفية الوصول إلى مثل هذه الأوضاع وتكرارها عبر التاريخ والمواقع الجغرافية المتعددة، بواسطة ثقافة الكراهية المشاعة في وجه النساء المتواجدة بنسبة معتبرة، ومن يشك في هذا الأمر عليه أن يدلنا على أي حضارة كانت لا تشكو من هذه الظاهرة المتفشية في المجتمعات والأمم؟ كيف لهاته النساء أن وصلت لاكتساب هذه السلطات الهامة والكبيرة جدا؟ وكيف استطعن، يا ترى، أن يمكّن سلطتهن من الدوام في الزمن؟ ماذا كانت حصيلة حكمهن؟ وهل كانت تلجأن في بسط سيادة حكمهن إلى نفس تلك الأساليب التي كان معمولا بها من طرف الرجال في تسيير دواليب الحكم في إزاحتهن لأعدائهن ومنافسيهن من طريقهن؟ وما هو الحال الذي هن عليه اليوم إذن؟ تلكم هي التساؤلات التي من واجبنا أن نجيب عنها اليوم، وهي التي لا تخفى أهميتها عن أحد. لنبتعد الآن، ولو للحظة قليلة، عن تلك الفكرة المألوفة أن هؤلاء النساء المسلمات اللائي تقلدنا مقاليد الحكم في المجتمعات المسلمة، لم يفعلن ذلك سوى في ظل فترة انحطاط حضارة هذه البلدان والأمم المسلمة؛ وفي هذا الصدد، علينا أن نذكر بأن خلال العصر الذهبي للإمبراطورية العباسية تحت حكم هارون الرشيد العظيم (786 - 809)، كانت أمه الشهيرة الخيزران تحكم بكل قوة إلى جانب ابنها. وعليه، فإن هذه المرأة هي من أدارت بكل رزانة شؤون هذه الإمبراطورية، وذلك منذ أن تم اختطاف زوجها المهدي من الخلافة، لتستمر بعد ذلك في تسيير الحكم بصفة عرجاء نوعا ما تحت قيادة ابنها الأكبر الهادي الذي كان لها أن قصّرت فترة حكمه لتستبدله بمن هو أصغر منه سنا من أبنائها، المعروف باسم هارون. انتقلت الخيزران إلى رحمة المولى تعالى في العام 173 هجري، أي العام 789 ميلادي، ثلاث سنوات بعد اختطاف ابنها هارون. وهنا أحد الشهود المدعو تباري الذي حضر مراسيم جنازة ودفن والدة الخليفة هارون الرشيد كتب يقول آنذاك؛ ‘'لقد شاهدت بأم عيني قدوم هارون الرشيد في ذلك اليوم المهيب، حيث كان يرافق تلك المنصة المحمولة لنعش أمه، مشيا على قدميه الحافيتين والغارقتين في الأوحال إلى الركبتين إلى حيث مكان تواجد مقبرة القريشيين، وعند بلوغه هذا المكان، قام بغسل رجليه وأدى واجبه الجنائزي، لينتقل إلى داخل القبر كي يلقي آخر نظرة على أمه قبل مغادرة المقبرة.'' يوجد هناك كذلك نساء أخريات استلمن حقيقة مقاليد الحكم، حيث خصصت لموضوعهن فاطمة المرنيسي كتابا بعنوان ‘'السلطنات المنسيات'' (دار نشر آلبان ميشال بفرنسا) وعددهن خمسة عشرة امرأة، فيما أن اثنتين منهن لفتتا الانتباه بصفة مباشرة، ويتعلق الأمر بالسلطنتين التركيتين شجرة الدر وراضية، بنت الملك ايلتوميش. هذه الأخيرة استولت على الحكم في دلهي خلال القرن الثامن، تحديدا في العام 634 هجري الموافق للسنة 1236 ميلادي، حيث خلفت والدها على سدة الحكم، المعروف بالسلطان ايلتوميش، ملك دلهي، وما إن دشنت به فترة تربعها على العرش القصيرة جدا، حتى أمرت بأن تحمل عملة النقود نقشا لاسمها بهذه العبارة؛ عمدة النسوة، ملكة الزمن، السلطانة راضية بنت شمس الدين ايلنوميش''. انتقل هذا الملك من وضعه الأولي كعبد إلى مكانة السلطان بصفة مباشرة، مفاجئة ومذهلة في آن واحد، في بلد كانت فيه الشعوب منقسمة ما بين تلك الطبقات البشرية المنغلقة عليها والتي من غير المعقول أن تمنح لهم فرصة التطور والتعلم من أجل بلوغ مستويات عليا في هرم البشرية. من خلال مسار ايلتوميش، يظهر الإسلام لدى المجتمع الهندي كديانة تمنحهم فرصة التطور الاجتماعي، حتى وإن كان مبدئيا لا يمانع مثل هذه الأمور. ‘'ظهر الإسلام في صيغة وثوب ذلك الدين الديموقراطي الذي حطم وكسر نظام التراتب والتدرج بزعزعته للحكام والأسياد وتوفر الفرصة سانحة أمام العبيد، إن هم كانوا يرغبون حقا في ذلك، بأن يصبحوا قادرين على أخد أماكن من كانوا يحكمونهم'' مثلما استشهدت بذلك بروعة فاطمة المرنيسي. وهكذا لم يصبح بعد أي شيء يقف في وجه ذلك العبد في أن يرتقي بكل ما يمتلك من شجاعة وولع واستحقاق ويطرق أبواب تلك المناصب العليا والقيمة، من دون عناء ولا أي حاجز سيكولوجي أو اجتماعي، كي يعترف ويقر للمرأة قيمتها وشأنها في إدارة شؤون البلد والأمة. فبالرغم من أنه أنجب ثلاثة أولاد إلا أنه فضل عليهم بنته راضية في مسألة خلافته في السلطة، عند وفاته، بعد مكوثه على سدة الحكم لما لا يقل عن ستة وعشرين عاما كاملة. لم تكن خلافة ابنته له شيئا هينا أو خالية من المأساة خاصة لما تعرض لها أحد أبنائه، بشيء من عدم الرضى على قرار ووصية أبيه، والذي كان يحمل اسم ركن الدين. ‘'بقي هذا الولد يكن حقدا شديدا تجاه شقيقته راضية وكذا نحو أخيه غير الشقيق، ذلك ما جعله يشن ضدها حربا ضروسا ويقوم بقتل أخيه هذا في وضح النهار مباشرة بعد وفاة أبيه''. وفي إجابته عن سؤال حول معرفة تلك الدوافع التي جعلته يعين امرأة لخلافته، صرح ايلتوميش، أياما معدودة قبل وفاته؛ ‘'أبنائي غير قادرين على مزاولة مهام الحكم بعد مماتي، ذلك الأمر هو ما دفع بي إلى إسناد هذه المهمة لابنتي راضية، كي تحل محلي بعد غيابي عن الساحة تماما''. هكذا إذا كانت رغبة الملك آنذاك، وهو الشيء الذي لم يمنع بعد وفاته ابنه ركن الدين من إزاحة راضية من سدة الحكم والاستلاء عليه بعد ما كان قد استعان ببعض من الأمراء والوزراء. وأول مهمة قام بها بعد اعتلائه العرش كانت عملية تصفية أخيه غير الشقيق، وظنا منه أن ذلك سيكون كافيا لاستيعاب الدرس من طرف شقيقته راضية كي تلتحق مجددا بالحرم، لم يجرؤ أن يذهب بعيدا في عمله هذا. ولكن لم يكن هذا ليؤثر في نفسية راضية، بحيث أن اغتيال أخيها غير الشقيق لم ينقص شيئا من عزمها، بل أكثر من ذلك تسبب الأمر في أن دعت كافة الشعب للانقلاب على المغتصب للحكم باستعمال القوة. وفيما يلي لكم أن تعرفوا تلك الكيفية للوصول إلى هذا الغرض؛ كان السلطان ايلتوميش قد كرس قاعدة عادة قديمة جدا بالمملكة، على اعتبار أن كلما أحس أحد محكومي عرشه بشيء من الظلم نحو شخصه أو إهمالا لمصلحته، عليه أن يرتدي ثيابا مغايرة لذلك اللون الأبيض الذي يلبسه بصفة عادية كافة الناس، وعندما يطلب الملك ايلنوميش مقابلة محكومي عرشه لمحاورتهم فإنه سينتبه إلى لون تلك الثياب الفريد من نوعه أو المخالف لباقي الألبسة، وهو الأمر الذي سيجعله يستدعي صاحبه للاستفسار حول أمره وكذا الخوض في موضوع شكواه قصد إنصافه. وبما أن ذلك الأمر كان يهم الجميع ارتأت ابنة الملك ذات يوم أن تتقمص هذا الدور كونها لم تستوعب أو تتجرع أن يسلب منها منصب حكمها الذي تحصلت عليه بصفة شرعية، من طرف أخيها بدون أي صفة ولا حق؛ حصل ذلك في يوم الجمعة، وهو يوم الصلاة العظمى، حيث كانت تظهر فيه بثيابها الملونة كعلامة على إظهار ظلمها أمام جميع الناس المجتمعين لأداء هذا الواجب الأسبوعي الديني، وما بدر منها سوى أنها طلبت من كافة الناس أن ينصفوها بإزاحة الظلم عنها حتى تنمكن من الانتقام لأخيها غير الشقيق المغتال وكذلك لرد الاعتبار لنفسها بعد ما كان أخوها الآخر قد حل محلها في سدة الحكم بالاستيلاء عليه باستعماله القوة بعد أن كان يهددها بالموت، حيث صرحت أمام الملأ ؛ ‘'أخي هو من اغتال أخاه الآخر غير الشقيق قبل أن يقوم بتهديدي أنا بالموت''. فور سماع الجمع لهذه الكلمات هرع كل الناس بشحنة كبيرة من الغضب صوب المتسولي على السلطة ليلقى عليه القبض بداخل المسجد وينهال عليه جميعهم ضربا حتى الموت. تلكم هي الطريقة التي استعاد الشعب بواسطتها شرعية الحكم بإعادة ولية العهد إلى منصبها. لاحظ المؤرخون إيجابية حكم راضية بالرغم من قصر مدته؛ حيث كتبت فاطمة المرنيسي تقول؛ ‘'قامت راضية بدورها على أكمل وجه بإتقانها لعملها، غير أن ما يمكن أن يعاب عليها هو أنها كانت قد سقطت فريسة حب في أيدي جمال الدين ياقوت، ذلك العبد الحبشي الذي كان يشتغل بالاصطبلات، حيث أن تلك الغراميات هي ما عجل بالإطاحة بها من أعلى عرشها''. أما فيما تعلق بالسلطانة الثانية، الملقبة بشجرة الدر، فإنها كانت امرأة جميلة جدا وتتمتع بفضل موهبة المولى تعالى كذلك بذكاء سياسي خارق للعادة؛ فبصفتها تلك المفضلة القديمة للسلطان الأيوبي، الصالح أيوب، تربعت على العرش لمدة قدرها سبع سنوات، من العام 1250 إلى العام 1257، وهو تاريخ وفاتها. يشهد لها المؤرخون بجدارة إدارة شؤون أمتها بفضل الحكمة والحنكة، لذا فهم يثنون كلهم على رؤيتها السياسية الصائبة، بحيث يعتقدون أنها كانت ‘'في نفس مستوى أحسن رجال الدول''. بسبب ذلك الحب الذي كان يكنه لها السلطان الأيوبي، فما كان له من خيار آخر سوى أنه غادر زوجته وأبناءه لينتقل صحبتها إلى القاهرة. وعند وصوله هذه المدينة لخلافة الملك الكميل، في العام 1238، على سدة الحكم، أنجبا ولدا سمياه بالخليل، علاوة على ذلك الطفل المسمى توران شاه الذي أنجبه السلطان من امرأة ثانية. اقترن ذلك الزمن بفترة قيادة ملك فرنسا سانت لويس للحرب الصليبية السابعة، تلك المتكونة من جيش يضم 25.000 عسكري، قام ما بين 7 ال8.000 فارس منهم بهجوم على مصر، وعندئذ قام توران شاه، بقيادة المجموعة، غير أنه اكتشف لدى الجميع أنه غير قادر على أداء هذه المهام. وفي سنة 1249 سقطت دمياط في أيدي الجيوش الصليبية، وهو الأمر الذي جعل القوات العسكرية تعتقد أن توران شاه فاشل ولا يقدر على قيادتها مطلقا. وبمحاصرتها من كل جهة من طرف المماليك أنهكت القوات الصليبية إلى درجة أنها أرغمت على الانسحاب، في حين ألقي القبض على الملك سانت لويس واقتيد إلى السجن ولم يخل سبيله إلا بمقابل دفع فدية كبيرة جدا. كان ذلك بمثابة انتصار رائع بالنسبة لسلطنة المماليك؛ خلال تلك الفترة التي كان فيها السلطان مريضا، كانت شجرة الدر هي من يدير شؤون القصر الملكي والأمة والدولة على حد سواء. فحدث أن تكفلت بالمهام على أحسن ما يرام وزيادة، ولكن تسارعت الأحداث ومات بسرعة السلطان في يوم 21 نوفمبر 1249، عند مرور تلك الساعات القليلة جدا التي تلت وفاة السلطان، تأثر الكثير وبصفة جد إيجابية من ذلك التصرف الهادئ وبرودة دم شجرة الدر، ولغرض عدم إثارة القلق والاضطرابات في صفوف جيوش الأمة والبلد من أجل تفادي الحراك المضطرب، تقرر التعتيم وعدم التصريح بنبأ وفاة السلطان حتى يكون الشعب والجيش متماسكين ومتضامنين. وبما أن توران شاه كان قد صب جام غضبه على الضباط الذين سحبوا منه دعمهم، بالنظر إلى تلك الاحترازات حول إدارته لشؤون الأمة والبلد، تعقدت الأمور إلى درجة أن النزاع القائم بينه وبين الضباط العسكريين حتم على هؤلاء التخلي والاستغناء عنه، فما كان لديهم من حل سوى أنهم اغتالوه وثبتوا مكانه شجرة الدر في أعلى هرم سلطة البلد. ويا لها من صور جد رائعة تحصل بأراضي الإسلام، بما أن خطبة الجمعة نطقت باسمها كحاكمة للبلد والأمة بهذه العبارة ؛ ‘'الله عز وجل هو من يحمي الأميرة، ملكة المسلمين، خادمة الخليفة المعتصم''، وهي تلك الكلمات نفسها التي تم نقشها على واجهتي العملة النقدية. وعندما وطأت قدماها قصر الملكية، حدثت الكارثة في حياة شجرة الدر، بحيث رفض الخليفة المعتصم صعود امرأة إلى سدة الحكم، حتى وإن كانت حقا تشكل الاستثناء في حد ذاته، وإن كانت هي نفسها تصرح بأنها من خدامه. في هذا السياق، قام المعتصم بإرسال مذكرة إلى قادة الجيوش المصرية من أجل حثهم وإرغامهم على اختيار أحد منهم لتولي مهام ومنصب السلطان، مصطردا في تشريحه للوضع القائم متسائلا كيف أنهم عجزوا حتى عن اختيار رجل منهم لإدارة شؤون البلد والأمة؛ فيما أنه ذهب في سياق كلامه إلى أن يقترح عليهم شخصا ما لتولي هذه المهام. قرر قادة الجيوش إذا الإطاحة بعرش شجرة الدر وتعويضها بالمعز أيبك التركماني، وهو أحد أقوياء قادة جيوش في البلد وأعظمهم؛ حينئذ تبادرت لذهن شجرة الدر فكرة مغازلة السلطان الجديد لمقاسمته مهام ومزايا الحكم، وهو الأمر الذي نجحت فيه عندما أقدم الأخير على طلب الزواج منها لتصبح أخيرا حرمه. فيما نطق في خطبة المبايعة ليوم الجمعة باسمه إلى جانب اسمها- وهي توصف بتلك العملية الرائعة والفريدة من نوعها في دواليب التاريخ الإسلامي- كما أن العملة النقدية للبلد حملت هي الأخرى جنبا إلى جنب اسميهما؛ وأكثر من هذا، كان لا يصدر أمر كتابي من القصر الملكي إلا وهو يحمل توقيعي الحاكمين الاثنين. كانت السلطانة تواجه بكل شجاعة خصومها، ولكن أحد التقاليد والعادات في المجتمعات المسلمة هو ما سيكون وراء خسارة شجرة الدر، ثم سقوطها، فموتها، ألا وهو شخصية ذلك الرجل المزواج الذي قاسمته حياتها، كونها كانت قبل ذلك اليوم جد غيورة على زوجها الأول، وطالبته بالتخلي عن زوجته الشرعية، ولما قرر زوجها الثاني، أي المعتز أيبك التركماني الزواج من امرأة ثانية، وربط النية بالفعل، لم تستطع أن تتمالك أعصابها وسقطت أسيرة لغريزتها الانفعالية، حيث دبرت مكيدة لقتله وهو يتذوق حلاوة الحمام عندما أمرت أحد أعوانها وحراسها بأن يطلق صوبه سهم الموت الذي أودى بحياته. هذا الاغتيال أحدث الذرع والهلع إلى جانب ذلك الإحساس بالذنب أو الحسرة الكبيرة وسط صفوف الجيوش الذين كانت منقسمة بين من هو مع هذه المرأة أو زوجها ذاك، ليجتمعوا فيما بينهم ويقرروا في آخر الأمر حبس شجرة الدر وإخضاعها للإقامة الجبرية ببرج الأحمر، ثم اغتيالها أخيرا. إن تاريخ هاتين السيدتين الفريدتين من نوعهما واللتين عرفتا اعتلاء أعلى سدة في الحكم للمجتمعات المسلمة، هو في الحقيقة مفيد جدا من جانب تناول موضوع تلك الظاهرة، بحيث أن كلاهما من أصل تركي، فيما استطاعتا أن تجدا من حولهما ومن حول اسميهما الكثير من الوفاء والأمانة إلى درجة الاحساس بالحماس الفياض تجاههما، قبل أن تنقلب الأوضاع بشأنهما رأسا على عقب حتى تنالان نصيبهما من الانتقاد واللوم وما إلى ذلك من مقاومتهما فاغتيالهما في آخر المطاف. ذنبهما الكبير والوحيد هو أنهما أخلطتا الشعور الإنساني بالفعل السياسي، لكن حتى ما قبل ماكيافيل ألم يقم المسلمون بتدريس السياسة على أنها فن الحيلة؟ إنه لفعل منعدم الشفقة حيث بداخله تتبارز الوقاحة مع شيء مما يتنافى مع أخلاق الإنسانية. على غرار كل هذا، كثيرون هم رجال التاريخ والإسلاميات من يعتقدون أن وصول النساء إلى أعلى هرم السلطة في تلك الدول التي هي تحت سيطرة المجتمعات المسلمة كان بمثابة بداية عصر الانحطاط، وهو الأمر نفسه الذي يطرح من جديد ذلك الجدل القائم حول هذا الموضوع. بقلم عمر مرزوق /ترجمة سلامنية بن داود