يرتبط تاريخ الحركة السوريالية المصرية ارتباطًاً وثيقاً باسم الشاعر والناقد والصحافي الكبير جورج حنين (1914-1973) الذي يحتفل هذا العام بالذكرى المئوية لولادته، المحرّك الأساسي لها في سنوات ازدهارها بين العامين 1937-1952 ومن الأسماء الأساسية عالمياً لتلك الحركة. ولد في القاهرة 1914 لعائلة استقراطية، سافر في العام 1924 الى مدريد، حيث كان والده صادق حنين باشا سفيرا للمملكة المصرية وقتذاك، وبعد عامين، التحق بليسيه شاتوبريان (روما) وأكمل دراسته الثانوية في ليسيه باستورد ونوي (باريس). في العام 1939، حاز على درجة الليسانس في الحقوق من السوربون، في نفس الوقت، تعاون مع مجلة "آينغور" منذ 1934 لسان حال جماعة "المحاولين" المصرية، و«كايبه ديزامبل" الباريسية. وفي فرنسا أسس جورج حنين مجلة أدبية جديدة، هي حفنة غبار (A handful of dust) وأصبح في النهاية محررا أدبيا للمجلة الفرنسية "إكسبريس". في 1934 صدرت له كوميديا قصيرة: "تتمة وخاتمة" وفي 1935 نشر بالاشتراك مع جوزيف حبشي كتاب: "التذكير بالقذارة" وفي هذه النصوص النارية المكتوبة على طريقة رامبو، سعى حنين إلى استفزاز الإنسان البورجوازي وفضح "العُهر الاجتماعي". وأخذ يشارك بفاعلية في النشاط الثقافي المصري: اصدر وآخرين: سلامة موسى وأنور كامل وغيرها في 1938 بيان "يحيا الفن المنحط" ردا على النازية الثقافية وهو عبارة عن احتجاج على الحظر الذي فرضه هتلر على فن التصوير الحديث، ومما ورد في تلك الوثيقة نقتطف: "من المعلوم لنا بأي قدر كبير من العداوة ينظر المجتمع القائم إلى كل إبداع أدبي وفني يهدد على نحو مباشر إلى هذا الحد أو ذاك الأنساق الفكرية والقيم المعنوية التي يتوقف على صونها إلى حد كبير استمراره هو وبقاؤه." "وتبرز هذه العداوة اليوم بشكل واضح في البلدان الشمولية، خاصة في ألمانيا الهتلرية، عبر العدوان الأكثر خسة ودناءة على فن يصفه الهمج المزينون بشرائط ضباط والذين جرت ترقيتهم إلى رتبة المحكمين العليمين بكل شيء، بأنه فن منحط..." "أيها المثقفون والكتاب والفنانون! فلنواجه التحدي يداً واحدة. إننا نتضامن تضامناً مطلقاً مع هذا الفن المنحط. ففيه تكمن كل وعود المستقبل. فلنعمل على انتصاره على العصور الوسطى الجديدة التي ترفع رأسها في قلب الغرب". وآصدر وآخرين نشرة «الفن والحرية» التي صدر منها عددان في العام 1939، تعاون والسورياليون المصريون في الكتابة بمطبوعة "دون كيشوت في 1939، وقد واصل نشاطه بإلقاء عدد من المحاضرات، ومن بينها محاضرة عن موسيقى الجاز، وأخرى عن لوتريامون، وثالثة اختار لها عنواناً: من بارنابو إلى كريبور. وبعد ذلك ببضع سنوات، حاول تقديم رؤية شاملة، فعرض أفكاره في محاضرة، نشرت بسرعة، وكان عنوانها: حصاد الحركة السوريالية (1937). بعد ذلك، أسس حنين "معرض الفنّ الحر" ورعى مجلة أسبوعية اسمها "دون كيشوت" (12 عدداً). ومن بين من كتبوا لها، نذكر: رمسيس يونان، منير حافظ وماري كافاديا. ثم استقطب هذا النشاط مجموعة من الأسماء التي صارت بارزة بعد ذلك، مثل: كامل التلمساني، فؤاد كامل، رمسيس يونان وسمير رافع. كما أصدر مجلة "حصة الرمال" بالاشتراك مع الشاعر المصري ادمون جابيس في 1947، وقبلها بأعوام تعاون مع انور كامل في اصدار مجلة "التطور". على الرغم من اقترابه من الدائرة السوريالية الضيقة مجموعة اندريه بروتون وعلاقاته الجيدة سواء السياسية قبل الثقافية معها إلا أنه انسحب منها في العام 1948. وبدءا من العام 1964 أدار مجلة: "شباب افريقيا". وحنين بنشاطه المتواصل في القاهرة يجد الآفاق والمطامح الشعرية ويحدث انقلابا في الاستعمال اليومي للصور الجمالية ويصور: "الصور المفتوحة على ذاتها" و«الصور المنغلقة على ذاتها" تلك هي لعبة المرايا، حيث تتضح نهاية القصيدة المنصهرة في اللغة "العصبية التي لا تخجل من صفع قارئها". ويلخّص حنين فلسفته الفنية في الحياة: "أنا لا أسعى إلى شيء. أنا لا أرغب في أكثر من اتّباع منطق معين للحرية" "جورج حنين (تروبادور الصمت)، النموذج الأكثر ذكاء لهذا الجيل عن الانتلجنسيا خلال النصف الأول من القرن الحالي" على حد قول اندريه مالرو، توفي في 1973 ودفن بمصر. يقول الروائي إدوار الخراط: (سوريالية جورج حنين في صيغتها المصرية كانت مقترنة أكثر بالثورة لا بالإحباط، عكس صورتها في فرنسا وأوربا، وذلك يطرح تصورًا جذريًا لدى هذه الجماعة لأنها استلهمت تراثًا خاصًا بها وحدها هو التراث الشعبي المصري..). ويعترف الكاتب لورانس داريل صاحب (رباعية الإسكندرية)، مخاطباً زوجة جورج حنين: (أتعاطف دائماً مع فكرتك بالقيام بنوع من التقدير الجماعي لذكرى جورج حنين، الكاتب الجيد، والرجل المرح، وفي آن معاً، أحد الأشخاص الأكثر أهمية في مصر الحديثة. من جهتي، لن أنساه أبداً، مع أني لم أعرفه عن كثب). وبعد وفاته، أصدرت دار "بويريمون" في العام 1977 ديوان "الإشارة الأكثر غموضاً" (41 قصيدة)، وديوان "تدوينات حول بلد عديم النفع" (34 نصاً سردياً)، تبعهما ديوان شعري أخير، "القدرة على التحية"، لدى دار "لا ديفيرانس"، وكتاب ضم عشرة بحوث ومقدمات ومقالات (دار "بويريمون") وضمن سلسلة "شعراء اليوم" الشهيرة التي تصدرها مطبوعات سيجيرين، نشر المؤرخ الأدبي ساران الكسندريان: "جورج حنين"، العدد 243، أحد أهم الكتب التأريخية، ليس فقط عن شخصية التروبادور وإنما عن الحركة السوريالية المصرية التي تأتي في المرتبة الرابعة في نشاطها بعد الفرنسية والألمانية (الفرنسية) والسويسرية، كأنه يرد على الجهالة التوثيقية في رصدها ومتابعتها من قصائده المكتوبة بالفرنسية نورد ترجمة لعبد القادر الجنابي: «نهاية كل شيء تقريبا" للمصعد لهبٌ أزرقُ يُسرّحُ ظلا مجنونًا على كلّ بَسطةِ سلّمٍ - لم يعُد الجمالُ مُقتنعًا بإبقاء مُهاجميه على نفْس بُعدِ نظراتِ الباشق ذا هو يسكنُ السطوحَ حيث يستجمُّ مجرمو الغد ذوو أيد طويلة شاغرة حتى الآن وأصابع مجدولةٍ بأناةٍ من أجل اختطافاتٍ شرهةٍ - وكأنَّ هناك شيئًا آخرَ للاختطاف غير هذا الظلُّ الأهوجُ اللاثابت الأزرقُ ازرقاق كلّ ما يرتجفُ شيئًا غيرَ هذه الزهرةِ التي تتكهّنُ بمدينةٍ ميّتة الجمالُ لم يّعُد مقتنعًا باختزال صورته حسب قياسات امرأةٍ فها هو يطوف مبتهجا أينما يكون ثمّة تجدّد لإعياء لايقاوَم يهيئُ ذاته للصحوة القادمة