"الشعراء العرب الكبار يطلقون كمّا هائلا التنظير دون أن يقولوا شيئا" يتحدث الشاعر والمترجم التونسي خالد النجار في هذا الحوار عن كتابه الجديد "سراج الرعاة/ حوارات مع كتاب عالميين" الصادر عن منشورات السلسلة الشهرية لمجلة الدوحة في شهر فبراير، كتاب ذهب بالأسئلة الشغوفة صوب ينابيع الكتابة والحياة والسرد والفن مع مجموعة من رموز الكتابة والأدب والفكر والفن والفلسفة من مختلف جغرافيات وعواصم العالم. وضم حوارات مع نخبة من الكتاب منهم "ألبرتو مورافيا، يانيس ريستوس، جون غروجان، غي غوفيت، يواخيم سارتوريوس، زاووكي، فرانسوا ريكارد، آلان نادو، إدوارد سعيد، كلود بلوتان، دومينيك شوفالييه، بيار أوليفييه، إيتل عدنان، وغيرهم من الكُتاب الذين التقى بهم في مسيرته الأدبية والصحفية وحاورهم بشغف وفن. ومعروف عن خالد النجار أنه اشتغل لفترة طويلة في ترجمة أهم الشعراء الفرنسيين إلى العربية في ترجمات صدرت عن دار "التوباد" التي يديرها وهو أول من نقل إلى العربية أعمال ج. غوستاف لوكليزيو قبل أن يطرح اسمه على لائحة الموعودين بنوبل ويفوز بها كما أصدر كتابا دوريا هو "كتاب الأسئلة" يكفي القول أنه ضم في هيئته الاستشارية والتحريرية هشام شرابي وميشال بيتور ولوران غاسبار لنعرف أهميته. و خالد النجار رحالة بين الثقافات دون أن يتنازل عن هويته أو يغيّر من مواقفه المناهضة للمركزية الأوروبية والغربية. حاورته/ نوّارة لحرش صدر لك مؤخرا ضمن السلسلة الشهرية لمنشورات مجلة الدوحة كتاب "سِراج الرُّعاة". من أي منطلق جاء هذا العنوان الجميل والمختلف، وماذا تقول عن هذا الإصدار؟ خالد النجار: ماذا أقول عن كتاب أردته أيضا وبشكل ما ردّا يقوم به وبشكل غير مباشر شعراء كبار على هذا المشهد الشعري العربي الكئيب: كم هائل من الشعر ومن التنظير الذي لا يقول شيئا، ثمّة بلاغة خاوية وعناوين حداثة، تقرأ ولا تخرج بشيء. مثلا هذه الحرب الشعواء القائمة ضد قصيدة الوزن وقصيدة التفعيلة وكلام عن قصيدة النثر، كأن الشكل هو الأصل يعني نرمي المتنبي والمعري وشوقي في الزبالة. الناس في الغرب طوروا الرؤية ولم يتنكروا لموازينهم الشعرية لموسيقى لغاتهم، كتبوا بالتوازي القصيد الموزون وكتبوا الشعر المنثور ولم يحتربوا حول الشكل. مثلا شعر سان جون بيرس لا يعتمد الوزن ولكن يقوم على إيقاع سلم الشعر السكندري، بول فاليري كتب الشعر الموزون، يعني أي شاعر عربي يكتب قصيدة النثر هو متقدم على هؤلاء وكذلك راينر ماريا ريلكة وأذكر لوران غسبار أنّه قال لي ذات مرّة ونحن نتحدّث عن ترجمات خورخي لويس بورخس في الفرنسية أن بورخس يفضل تلك الترجمات الفرنسية التي تعتمد الوزن. الحداثة لا تكمن في الشكل وإنما في الرّؤية واتساع العالم الشعري. واليوم هناك قصائد كثيرة موزونة مثل شعر لومير ولوران غسبار وغي غوفيت.. الناس لم تتنكر لتراثها وللخصائص الإيقاعية للغاتها. أردت أيضا فيما أردت من هذا الكِتاب أن أجعل الناس تصغي لشعراء الحداثة ولعل مجلة شعر وكذلك نصوص أدونيس وادعاء السريالية جعل الكثيرين يندفعون في نوع من الكتابة الشعرية السهلة. هنا أصوات مرجعية عالمية تساعد على النظر وليست دليلا للكتابة إذ لا دليل للشاعر سوى إخلاصه لذاك الصوت الذي يطلع من ظلمة الدّاخل. لقد كان مصير الشعر شبيه بمصير الرسم التجريدي صار أيّ كان يرسم أي شيء ويقول هذا عمل تجريدي. أمّا عنوان الكِتاب فقد جاء صدفة، كنت وضعت وقبل سنوات عنوانا هو "صوت الغريب/حوارات مع كتاب غربيين" وعندما أرسلت الكِتاب لإدارة تحرير المجلة المسؤولة عن السلسلة، قالوا لي سبق ونشرنا كتابا بعنوان مقارب وهو "أصوات الضمير" فأبحث لك عن عنوان آخر، وبين عشية وضحاها اخترت ثلاث عناوين هي "متاهة الكتّاب" و"متاهة الكتابة" فكما تدرين فإن برخس هو أوّل من أرسى هذا "مفهوم المتاهة" الذي يعد أحد أقانيم الحداثة في الكتابة، وكما تدرين متاهة برخس ليست جغرافية وإنّما روحيّة. هكذا هو الكاتب اليوم متاهة في متاهة، والتحاور مع الكُتاب هو دخول في هذه المتاهة. ثم اخترت عنوانا آخر نسيته وأخيرا استقريت على عنوان هو "في ضوء سراج الرعاة". بيد أن الأصدقاء في المجلة اختزلوه إلى "سراج الرعاة". وقد كنت أفكر في كِتاب غاستون باشلار الشاعري "في ضوء الشمعدان". أنا أحب العناوين التي تخرج القارئ من أسر الواقع السطحي وتحرك فيه ملكة الدهشة التي هي نبع كلّ إبداع. أما هذا الكِتاب فهو مختار من عشرات الأحاديث مع كُتاب أجانب إذ هناك من استبعدته بعدما اكتشفت توجهاته الصهيونية المعادية للإنسانية مثل هنري ميشونيك وكذلك أندري فالتير. كان ميشونيك قد زار تونس بدعوة من معهد تونس الذي تديره الكاتبة التونسية هالة الباجي أو هالة بنت عمار حفيدة وسيلة بورقيبة أي ابنة أخيها منذر بن عمار. كانت هالة دعت فيما دعت فيلكلكراوت الكاتب الفرنسي والمناضل الصهيوني رفيق سيّئ الذكر برنار هنري ليفي، كيف اكتشفت ذلك؟ ذهبت مباشرة إلى باريس وفي جلسة جمعتني بالشاعر الصديق برنار مازو وحدثته عن حواري مع هنري ميشونيك وكانت الانتفاضة الفلسطينية في عزها قال لي مازو أنا غضبان من هنري ميشونيك. قلت له لماذا؟، قال من أجل كتاباته الأخيرة المعادية للفلسطينيين والموالية للمستعمرين الإسرائيليين. أيامها اكتشفت مدى تغلغل المعادين لقضايانا في كثير من مؤسساتنا الثقافية وخاصة داخل البعثات الثقافية الأوروبية المعتمدة في بلداننا. لبرنار مازو قصيدة جميلة حول محمود درويش نوع من المديح المعاصر وتعبر عن مدى تعاطفه مع الشعب الفلسطيني. "في "سِراج الرُّعاة" أصوات مرجعية عالمية تساعد على النظر وليست دليل للكتابة أسئلة تجوّلت في قارات وجغرافيات وثقافات متعددة ومختلفة، كيف تستعيد سفر الأسئلة الذي كان والذي منه ولد هذا الكتاب؟ خالد النجار: عندما عدت إلى هذه الحوارات اكتشفت كثيرا من الأشياء المخفية في أعماقي. الكتابة مثل السفر فأنت بقدر ما تكتب بقدر ما تسافر في أعماقك وتكتشف أشياء وعوالم ظلت إلى الآن مخفية عنك، ثم تجد الإنسان ينجز النصّ، وهذا النصّ الذي تكتبه ينير بعضا من زواياك الداخلية المعتمة وباكتشافها تتحوّل أنت، هكذا تعيد الكتابة الحقيقية صياغتنا. إذن في الكتابة شيء من السفر وشيء من إنارة الذات وشيء من إعادة الصياغة. كذلك، فإن تلك الجغرافيات التي مررت بها كانت هي أيضا كشفا مزدوجا. فأنت تكتشف العالم ومن خلاله تتكشف على نفسك ويتسع أفقك وعندنا مثل في تونس يقول "من سافر كثيرا كمن عاش كثيرا". ثم، وأنت إذ تذهب إلى العالم تعيد اكتشاف موطنك الأول إذ تموضعه تتعرّف على مكانه ومكانته من العالم. كان غوتة يقول من لا يعرف سوى لغته لا يعرف لغته ونستطيع أن نقول من لا يعرف سوى بلده لا يعرف بلده. قلت في مقدمة الكتاب: "الحوار سفر مزدوج ومفارقة لذيذة، رحلة داخلية وخارجية في الآن نفسه"، إلى أي حد كنت تشعر أنك في حقيقة الأمر تبحث عن أجوبة لنفسك من خلال أسئلة طرحتها على الآخر، هذا الآخر الذي هو "نخبة من كتاب عالميين" وإلى أي حد تقاطعت إجاباتهم مع إجاباتك؟ خالد النجار: اكتشفت هذا الأمر متأخرا. وإن كان في حقيقته بسيطا فكلّ كلام هو أتوبيوغرافيا حتّى وإن كنت تتحدث عن القمر فأنت في العمق تتحدث عن نفسك. نحن نقوم بعملية إسقاط مستمرة إنها مفارقة الرسّام le paradoxe du peintre التي تحدث عنها استندال. فالرسام وهو يصور الأشياء إنما يعبر عن نفسه وقد استعادت مارغريت يورسنار هذه المفارقة لدى كلامها عن الكتابة الروائية، فهي ترى أن نفس هذه المفارقة يعيشها الروائي. تراه يصور المجتمع ويعرض شخصيات تتمتع بهوية مستقلة عنه وهو ومن طرف خفي وسريّ يعرض عالمه الخاص. أما الأجوبة التي تلقيتها فلم تكن بطبيعة الأمر حاسمة. لا يوجد جواب مطلق جواب حاسم لأيّة مسألة ولو وجد مثل هذا الجواب لكان الأمر مضجرا. ثم الفكر مثل الوجود في حركة دائمة كمياه البحر. تذكري شذرة هيراقليطس "أنت لا تعبر النهر مرتين". ألا ترى أن الكثير من الأسئلة التي نطرحها أحيانا تكون أسئلتنا الخاصة في العمق وفي الحياة والكتابة، وأننا نبحث لها عن أجوبة مغايرة أو متعاضدة مع أجوبتنا الخاصة؟ خالد النجار: لم أكن أبحث عن أجوبة، كنت أبحث عن أشياء تثريني. وفي الأخير أنت الذي يعيد صياغة ما تسمعه وكل قراءة هي غير نهائية. وأهل السيميولوجيا لديهم أقوال كثيرة في هذا الصدد. وبالمناسبة أنا أحب قراءة كتب أستاذ السميولوجيا المغربي سعيد بن كَراد وخاصة تعاليقه على متن أمبرتو إيكو، وكم أتمنى أن يقرأ الشباب هذه الكتابات وتجنب كلّ تلك البلاغة الخاوية والتعبيرات الإنشائية التي تكتظ بها الصحافة الأدبية في مصر ولبنان. "كل النصوص الإبداعية الإنسانية متداخلة، ثمة جوهر أدبي واحد هل تنظر إلى الأجوبة التي تروي ظمأ الروح وشغف الأسئلة بمثابة (العطايا) التي يمكن أن تحدث في حياة كاتب مشغول بأسئلة الكون والذات والحياة والوجود؟ خالد النجار: لا أرى تشابها بين إرواء العطش الفسيولوجي، وذاك المعرفي. نحن نظل باستمرار في حالة مزدوجة رواء مع عطش. ثم، الأمر يتعلق بالقارئ، هناك قرّاء عديدون، القارئ السلبي الذي يتلقى النص ويفهم ما فهمه وهناك القارئ الايجابي المتفاعل مع النصّ، المتعاطف مع النصّ الذي يتمتع بلذّة النصّ المشارك في عملية الخلق الذي يعيد صياغة ما يقرأ، يستقبله بشكل نقدي أو يبحر في عوالمه ويمارس إذا كان مبدعا وبشكل لا واع نوعا من INTER TEXTUALISATION إذ كما تدرين كلّ النصوص الإبداعية الإنسانية متداخلة، ثمة جوهر أدبي واحد، وإلاّ ما الذي يجعلك تتفاعل مع شاعر من الهنود الحمر قال شعرا منذ أكثر من أربعة قرون في عالم لغوي جغرافي تاريخي مجهول بشكل مطلق لديك أو تتفاعل مع قصيدة حب فرعونية كتبت قبل ثلاث آلاف سنة؟! وهل مثلا أجوبتهم أشفت غليلك المعرفي، أم أنها عمقت أكثر مغامرة الأسئلة التي تمور في داخلك؟ خالد النجار: هي أجوبة أثرت وعمّقت، وتعلمت أشياء كثيرة من الشعراء والكتاب الذين حاورتهم وربما اكتشفت أشياء لم يقصدوها. كما لابد وأنه غابت عنّي أشياء كثيرة. "الوصفة الغربية التجريدية الجاهزة للديموقراطية والتي تاتي عن طريق جمعيات مموّلة هي فيروس تخريبي خبيث أي حوار من حوارات "سراج الرعاة" ترى بأنه شكل فرادته أكثر أو أنه ذهب بك صوب الأبعد وأن أجوبته فتحت أكثر شهية الأسئلة؟ خالد النجار: الحوار مع يانيس ريتسوس والحوار مع مورافيا الذي نبهني إلى أن عصر النهضة في الغرب أخذ من الحضارة العربية الإسلامية مقام الإنسان كمحور العالم وهو أصل الديمقراطية لذلك تسمى حركة النهضة لارونيسانس بالحركة Le mouvement humaniste البشرية وجوهر الديمقراطية هي الاعتراف بالإنسان الفرد ولكن ومع الأسف تحوّل هذا المفهوم النبيل اليوم إلى شعار ظاهره خير وباطنه من قبله العذاب. هدفه تفكيك المجتمعات وتخريبها وزرع الفتنة بين مواطنيها وإعادة استعمارها للحصول على ثرواتها. دعيني أقول لك الديمقراطية في معناها العميق حكم الشعب نفسه بنفسه وهذا يتم من خلال ثقافة الشعب وهويته، أما هذه الوصفة الغربية التجريدية الجاهزة للديمقراطية والتي تأتي من الخارج عن طريق جمعيات مموّلة من الخارج فهي فيروس تخريبي خبيث وصفة ناجعة لتفتيت دول العالم الثالث. ومع الأسف كثيرا ما نرى المثقفين يقفون مع هذا الطابور الأجنبي. أيضا، هناك أفكار كثيرة مختزلة في هذه الحوارات وقد أصاب صديقي محمد علي فرحات الشاعر والكاتب اللبناني حين قدم الكتاب في جريدة الحياة في شكل جمل كانت على لسان المحاورين أقول أنه كان لكلّ شاعر شيء رائع أضافه. أحببت نظرات غسبار الشعرية ودوناتيلا بيزوتي وفرنند واليت وإيتل عدنان ويواخيم سارتوريوس. بين "سراج الرعاة" و"غبار القارات" الذي نال جائزة ابن بطوطة للرحلة المعاصرة، قواسم وسياقات مشتركة، فكلاهما جاءا نتيجة سفر وشغف بالجغرافيا والأسئلة المزدحمة برغبة المعرفة ولذة الاكتشاف والاستكشاف. وهي قواسم تتقاطع فيهما أيضا رغبة وشغف الكتابة والسفر، ما رأيك؟ خالد النجار: أجل، كما قلت يظلّ الإنسان بعيدا ومغتربا عن نفسه وإلى أن يعيد اكتشافه ذاته من خلال الفعل، في العمل تبزغ الذات. قلت لصديق كاتب لماذا لا تحاول القيام بكذا مشروع أجابني ببداهة لا أستطيع. قلت له جرّب ربّما تكتشف طاقات ومواهب نائمة في داخلك ومجهولة إلى الآن. عندما بعثت دار النشر وبدأت بنشر كتاب جماعي غير دوري في تونس وفي ظروف صعبة وإذا بالكِتاب ينتشر وكان ميشال بيتور في تونس فطلبت منه المساندة بأن يكون في هيئة التحرير وكذلك هشام شرابي ولوران غسبار فإذا بهم يستجيبوا بسرعة وبعدما نشرت بعض الأعداد اكتشفت المحرر في داخلي. وكذلك دار التوباد التي نالت صدى كبيرا وأنا من الناشرين القلائل الذين يوزعون في باريس وبرلين وأمستردام ليس على نطاق واسع ولكن هناك مكتبات كبرى تقتني وتعرض كتب الدار رغم صغرها. كان هناك من ينتقد كثيرا الأخطاء الواردة في الكُتب، قلت له لدي أخطاء أخرى لم تنتبه إليها، الأخطاء كما أراها قد تكون إيجابية لأن من يعمل يخطئ ومن لا يعمل أبدا لا يخطئ مطلقا، وجميل أن نعمل فيخرج الخطأ على السطح ونستطيع بالتالي تداركه وإصلاحه. في هذه الحال هي أخطاء إيجابية وضرورية لتطورنا فهي تساعدنا على اكتشاف مواطن النقص وتلافيها. "مورافيا نبّهني إلى ان عصر النهضة في الغرب أخذ من الحضارية العربية الاسلامية مقام الإنسان محور العالم يقول يواخيم سارتوريوس في نص حواره "الذاكرة هي كل ما يتبقى لنا من النسيان، والكتابة هي كل ما يتبقى لنا من الذاكرة". ما رأيك، وما الذي يتبقى لنا من شغف الأسئلة، أو ما الذي يحدث بعد الأسئلة؟ خالد النجار: أرى أنه يقصد أن الكتابة أكثر حقيقية من الواقع، فقد ننسى ولكن الكتابة تستمر. هذا اجتهاد مني وربما لسارتوريوس مقاصد أخرى لم أتوصل إلى فهمها. الفرنسيون يُعرِفون الثقافة بقولهم هي كلّ ما يتبقى لنا عندما ننسى كلّ شيء تعلمناه. شخصيات أدبية تمنيت لو أنك حاورتها وكانت حاضرة في جوقة "سراج الرعاة"؟ خالد النجار: تمنيت لو حاورت خورخي لويس برخيس وقد توفرت الفرصة وضاعت مني، فقد لقيته أول الثمانينات صدفة في مقهى الدوماغو في باريس وكانت معه كوداما التي تزوجها آخر أيامه. حدثني عن طه حسين وعن الثقافة العربية الإسلامية في الأندلس ولما أظهرتُ له إعجابا قال اليوم الناس تهتم بالشيوعيين، هم الذين يملأون المشهد، وأظنّه كان يقصد ماركيز الذي كان في تلك الأيام قد حاز على جائزة نوبل. وأثناء هذا اللقاء الخاطف طلبت منه حوارا فواعدني في فندق لزلي الذي ينزل به وكنت تلك الأيام أعيش ظروفا مادية صعبة في باريس ولم أستطع أن أذهب إلى الموعد. أيضا أحببت أن ألتقي كاتب ياسين. كان لوران غسبار يحدثني باستمرار عن كاتب ياسين وكذلك المسرحي الفرنسي أرمون غاتي وقد ذكرت في الحوار المنشور معه في هذا الكتاب قصة غاتي مع كاتب ياسين كيف عاش في بيته وكيف شيعه بعدما مات إلى الجزائر. أعتقد أن كاتب ياسين أكثر من عبر عن روح الجزائر. في كاتب ياسين تحس كلّ الجزائر بجبالها ووهادها وأقوامها وأساطيرها. أما الشخص الذي تمنيت لقاءه فهو محمد تيزوت فيلسوف التاريخ المجهول وقد ذكرت في كتابي "غبار القارات" الصادر سنة ألفين وثمانية إهمال الجزائريين والعرب لهذا العقل التاريخي الفذ الذي اكتشفته فجأة. كنت في العشرينات مهتما بالتاريخ وبفلسفة التاريخ، كنت اطلعت على كتابات جيبون وأردت قراءة تدهور الحضارة الغربية LE DECLIN DE L'OCCIDENT وكانت دار الحياة اللبنانية قد أخرجت هذا الكتاب في ترجمة عربية غامضة مغلقة أنجزها الدكتور أحمد الشيباني فقررت أن أطلع على الترجمة الفرنسية فإذا بي أعثر على الكتاب في دار غاليمار في سلسلة SCIENCES HUMAINES وقرأت اسم المترجم هكذا (M .) حرف الميم الفرنسي يليه نقطة وبعدها تيزوت وبعد بحث قصير اكتشفت أن اسمه محمد تيزوت وأن دار غاليمار أخفت الاسم لأنه من غير المستحب أن يذكر اسم محمد في تلك العشرينات على أحد أغلفة الكتب. كان الناس من العنصرية بحيث لا يتقبلون ذلك، الغريب أن الترجمة صدرت متزامنة مع صدور الكتاب. ومن حينها تتبعت انجاز هذا الرجل الفذ وكم أتمنى أن يعكف أحد المؤرخين الجزائريين على دراسة ونشر أعماله الكاملة وقد أنهى محمد تيزوت حياته غريبا مجهولا سنة 1973 في مدينة طنجة المغربية. كيف وجدت الذين حاورتهم وأكثر شخصية أحببت أو لمست فيها اختلافا لافتا؟ ومن الذي شعرت أنه يشبه كتاباته وعوالم كتاباته أكثر من سواه؟ خالد النجار: هو يانيس ريتسوس الشاعر اليوناني الرائع. "تخلفت عن موعد مع خورخي لويس بورخس وتمنيت محاورة كاتب ياسين بعيدا عن الصدفة التي لعبت دورا في محاورة بعض الكتاب، ما هو المعيار الذي انتهجته في اختيار الكتاب الذين حاورتهم، هل مثلا هو الشغف بأدبهم أو فضولك حيالهم وحيال مسيرتهم ورغبتك في معرفتهم أكثر؟ خالد النجار: كنت أشعر باستمرار أن ما يسمى الحداثة الشعرية العربية والتي دشنتها مجلة شعر ينقصها شيء ما. مجلة شعر طرحت سؤال الشعر، سؤال القصيدة الحديثة ونقلت كثيرا من الشعر الأوروبي المعاصر. ترجمت وعرّفت بكثير من الشعراء من أمثال رامبو وسان جون بيرس ووالت ويتمان وأنطونان أرتو وغيرهم كثير أيضا أنجز يوسف الخال وبمساعدة زوجته هيلين الخال دارا من أرقى دور النشر العربية، حدثتني هيلين الخال ذات سنة في واشنطن كيف قامت بالإخراج الفني لمنشورات شعر وهذا كان انجازا كبيرا، كما أن لمجلة شعر محاولة لإيجاد لغة عربية تقول الحداثة كما لا ننسى كثيرا من القصائد الجميلة المبثوثة هنا وهناك بيد أن مجلة شعر لم تترك أسماء شعرية يعتدّ بها، لم تترك إبداعا موازيا لطموحها. وأهم شعراء لبنان هم من خارج دائرة شعر مثل جورج شحادة وخليل حاوي وايتل عدنان وميشال طراد. لا أخفيك، أميل لشعراء العامية اليوم لأن اللغة العربية الفصحى تمنح الشاعر فرصة للعب بالكلام والتيهان وراء البلاغة الخاوية في حين هذا غير متوفر في اللغة العاميّة. وما يؤسف له أن الناس لا تعرف جماعة السرياليين المصريين في الأربعينات تلك الحركة التي كان من أعلامها رمسيس يونان وجماعة الرسامين في أسكندرية الأربعينات. وإذا ما أردت أن تفحص شعرا حديثا ترجمه للعامية أو لأحد اللغات الأجنبية حينئذ تكتشف جوهره. العربي مسحور باللغة شكلا وكثير من الكلام المرصع الجميل يخفي خواء رهيبا. أتذكر في هذا السياق أستاذي عزيز لحبابي فيلسوف الشخصانية الإسلامية المغربي كان يصف هذا النوع من الكتابة العربية بالفرازيولوجيّة. "كاتب ياسين أكثر من عبّر عن روح الجزائر كيف تقرأ موقعك الآن في الكتابة والترجمة والجغرافيات؟ وما هي مشاريعك الجديدة؟ خالد النجار: في الحقيقة لا أدري في أي مكان أنا، ومشاريعي تتوزع بين الترجمة والكتابة وإدارة دار النشر التوباد. أعمل على كِتاب المدن وهو في أدب الرحلة إن شئتِ التحديد بيد أنه نص مفتوح على السيرة، نشرت منه قسما بعنوان "غبار القارات" وإن كنت غير راض على هذا الكتاب فقد ضيّق علي المحرر وكان على حق فأرسلت له المسودة لطمأنته في انتظار إرسال النص النظيف فأفاجأ بنشر المسودّة حتّى أنّك تقرأ على رأس نص الإسكندرية كلمة TRAVAIL EN COURS أي عمل بصدد الانجاز أو عمل لم يكتمل. ولأن المحرر يجهل أي لغة أجنبية فقد أصدر الكتاب بهذا الخطأ الشنيع. إذ لو كان هناك من يقرأ لاكتشف هذا والحال أنهم قاموا بترتيب فصول الكتاب.