صار التفكير عن/ في الجامعة في الجزائر من الحاجات الهامشية، كما أضحت "الجامعة " مجرد مؤسسة للتعليم ولتفريخ أفكار عن المناهج والنظريات مفصولة عن حاجات المجتمع المعرفية. المسألة في بعدها العميق تختزل انهيارات حقيقية عصفت بدور الجامعة في تطوير المجتمع، وفي انتاج النخب، وفي التحول إلى قوة اقتصادية وإلى طليعة اجتماعية تتأسس على فكرة الاستثمار في المادة الرمادية للجزائريين. على هذا الصعيد، ازدادت فداحة الفراغات التي أنشأتها سياسة تعليمية جامعية قائمة على تفقير الأقسام والكليات من أي دور ثقافي وفكري وإبداعي والزج بها في نوع من الممارسات الميكانيكية التي لا تخرج عن إلقاء الدروس والحث على استذكارها ثم اجترارها في فترات الامتحانات، دون أن يتخلل ذلك ديناميكية بحثية ولا نشاط ثقافي يحرض على السؤال وعلى النقاش، ويخلق امكانيات لاختبار مدى نجاعة هذه المناهج والمقررات في خلق عقل يفكر ويبدع. لم يعد أحد يهتم بما يمكن أن يخرج من الجامعة من كوادر تخلق بدائلا لمستقبل أفضل يغني البلد عن استيراد الكفاءات من الخارج أو تهريبها نحو مراكز البحث في العالم الذي يحترم المعرفة . حتى أنّ الملتقيات التي تقام هنا وهناك صارت يوما بعد يوم تتخلص من هيبتها العلمية، لتتحول إلى "زردات علمية يفترق الجمع على توصيات لا ترى النور تكتب على عجالة كبيان تأبيني أكثر منه بيانا للمعرفة، وأضحت المشاركة في بعضها حبيسة شروط شكلية بحتة، أو صداقات إذ كثيرا ما يلعب الهاتف دورا مصيريا في اختيار المتدخلين حتى أنك تعتقد أن لجنة القراءة قد تحولت إلى مركز للهاتف، فضلا على أنّ النشر في المجلات التي تسمى "محكمة" تلعب هي الأخرى على وتر المصلحيات والحسابات الشخصية، فقد ترسل مقالا أخذ منك جهدا ووقتا فلا ينشر لأسباب لا يعرفها إلا الله. الجامعة اليوم تعاني من رهاب الألقاب الجامعية، وتسلطها الرمزي على حامليها الذين غرقوا في شبه أوهام العظمة المرضية، في وقت كان يمكن لبعضهم أن يلعب دور المؤطّر للحراك العلمي والفكري والثقافي بدل الركون إلى نوع من التقاعد المسبق، وإلى نوع من الكسل الذي يُبرَّر بأنّه من امتيازات الشهادات العالية جدا وليست العليا بطبيعة الحال. لا نجد لمثل هؤلاء المؤطرين الذين يحملون هذه الألقاب الرنانة المفعمة بالقداسة ويعملون على حرث الأرض الجامعية وبذرها والعناية بتلك البذور لتنمو وتغدو ثمارا في المستقبل، بل أغلب الوقت ما يتخندق معظمهم خلف متاريس الشهادات، يخوضون معاركا لأجل منصب إداري أو لأجل سلطة يقايضون بها مستقبل أجيال ضائعة في متاهة تسمى الجامعة. على كل موضوعنا ليس هذا، وإن كان من المهم أن ننطلق منه كمدخل للمناقشة حول واقع الندوات والنشاطات الفكرية والأدبية داخل الجامعة، طبعا نبدأ من توضيح أنّ مثل هذه الندوات تنطلق من إرادات فردية، كنوع من التحدي الذي يعلنه البعض لمقاومة الموات الجامعي، الذي صار يهدد بتصحر حقيقي للكفاءات، حتى أن الكثيرين أساتذة وطلبة يشتكون من حالة فراغ معرفي سببها الروتين الذي تفرضه الدروس والمحاضرات، وهو الروتين الذي لعب دورا تغريبيا في الجامعة، طالما أن ما يقدم كثيرا ما يدور حول ما حدث منذ عقود. أعتقد أنّ الدور الأول والأساسي للندوة الفكرية والثقافية في الجامعة هو تحيين المعرفة وجعلها قريبة إلى الواقع بحراكه وتجدده المستمر، فالطالب اليوم في أقسام اللغة والأدب لا يعرف عن "سليم باشي" مثلا ولا عن "نينا بوراوي" ولا عن الروائي العراقي "علي بدر" صاحب روايات مهمة مثل "مصابيح أورشليم" و«بابا سارتر"، ولا يعرف كذلك الجديد في مناهج النقد الأدبي، وأهم ما بلغته الكتابات المعاصرة من إشكاليات إذا ما طُرحت بدت المناهج التي يدرسها قديمة وغير ناجعة. وثانيا، التدريب على النقاش والحوار وتبادل المعارف والحقائق ونقدها، إذ صرنا نشهد يوميا من خلال مناقشات هامشية أو من خلال طبيعة تلقي الطلبة في القاعات عجزا حقيقيا في ممارسة النقد وفهما خاطئا للنقد ذاته، حتى أنّ التفكير النقدي لم يعد أداة أساسية في التعليم وفي التعامل مع المعارف، وفسح المجال لنوع من القبولية والمهادنة والايمان، كأنّ المسار الحقيقي للمعرفة هو القبول بأي شيء. حتى لا أعطي هالة كبيرة لا تستحقها الندوة، يكفي أن أقول إنّ النشاط الموازي في الجامعة يكشف عن عمق المعاناة، التي تعاني منها المعرفة، أولا وبعد عدد من الندوات التي أقمناها بقسم اللغة والأدب العربي بجامعة بجاية اكتشفنا غياب اهتمام بمثل هذه النشاطات، وكأنّها تمثل فضلة يمكن الاستغناء عنها، أو ربما فعلا هامشيا لا يستحق الحضور، أو قد يفهمه البعض أنه إضاعة للوقت، ويجد الكثيرون مبررات لكذا أحكام منها أن الوقت لا يخدم الطلبة ولا حتى الأساتذة للحضور، لكن المشكلة في اعتقادي لا يمكن اختزالها في الوقت ولا في المكان طالما أنه مهما امعنا في اختيار الزمان فإن الحضور سيظل خافتا وباهتا، والسبب جوهري وهو عدم الاكتراث أصلا بمثل هذه النشاطات، وعدم التعود عليها، إذا أردنا أن نخفف من وقع هذا الغياب، والصورة التي يحملها البعض عن أنها نشاطات هامشية. أيعقل ذلك؟ هو السؤال الذي حملناه واختبرنا أوجاعه طيلة سنة كاملة من محاولة تصحيح صورة الندوة، والدعوة إلى الحوار والنقاش في مسائل تعني الجامعة وتعني المعرفة، وقد حرصنا على التنويع بين الخوض في موضوعات جديدة مثل "اللغة السينمائية، وآليات الاقتباس السينمائي، أو الخوض في مساءلات حقيقية حول نجاعة مناهج التعليم في المدارس، كما خضنا في موضوع ترجمة معاني القرآن الكريم إلى الأمازيغية وما يطرحه ذلك من معضلات دلالية وإجرائية للمترجمين، كما كان للفايسبوك نصيبا في هذه الندوات من خلال تقديم مدخل لتحليل ثقافي للخطاب الفايسبوكي، كما استضفنا الروائية ديهية لويز لتقديم أعمالها الروائية وكان الهدف من هذه الندوة تقريب الرواية الجديدة من الطلبة، وخلق تقليد جديد يتمثل في جعل الروائي والكاتب والناقد طرفا مهما في العملية التعليمية...إلخ. كان طموحنا أيضا أن نوسع في آفاق الندوات واستضافة أساتذة ومبدعين من خارج الجامعة لكن ذلك كان مستحيلا بالنسبة لنا، طالما أننا ندرك ما يمكن أن نلقاه من صدود لدى إدارة الكلية وكنا على علم أننا سنسمع الكثير عن انعدام الميزانية المخصصة لهكذا نشاطات وبذلك فإن الإدارة تتبرأ من استقبال والتكفل المادي بالضيوف، إلى غير ذلك من الكلام الذي شبعنا منه، حدّ التخمة، وكأنّ ما نطالب به هو إقامة مهرجان إفريقي للفلكلور. لقد خلصتُ شخصيا إلى أنّنا لم نجتز بعد عتبات الأمية الثقافية في جامعاتنا، إلى حدّ صارت مثل هذه المبادرات الفردية تلقى في عتمات القاعات الكثير من اللغط وربما القليل من التشجيع، وصار الحضور إلى الندوة بمثابة تكريس لثقافة إضاعة الوقت. كأن لا أحد يكترث، وإن كان لذلك ما يبرّره طالما أنّنا نعاني من أزمة مقروئية حادة، ومن أزمة تلقي حقيقية، وهي مسائل متداخلة ومترابطة ببعضها البعض، الكثير من الطلبة يظلون خارج القاعة دون دراسة لكنهم لا يتجرؤون ويدخلون لحضور ندوة، بل حدث أن وجدنا إعلاناتنا ممزقة، أو مشطوبة كردة فعل عنيفة من مجهول معروف من مثل هذا النشاط، وسخريات تنطلق من هنا وهناك تريد أن تحبط العزائم أو تطفئ الإرادات. كان فولتير يقول دائما: اعطوني مطبعة وستة مفكرين سأخرج لكم مجتمعا متحضرا. حملت هذه الجملة معي ورافقتني كلما أحسسنا بنوع من الضيق، فقد تلغى ندوة من الندوات لأنّ القاعة فارغة إلا من صاحب المحاضرة والمبادرين، لكننا نؤكد على أن الندوة ستقام في أسبوع آخر، ولم نكترث بهذا الحضور المخزي، طالما أن النفر الذي كان يواظب على الحضور كان يمثل تشجيعا ثمينا. إن غياب استراتيجية حقيقية وصادقة ونابعة من هاجس اجتماعي حقيقي لبناء جامعة شعبية تتنفس من هواء العصر، جعل مهمة التدريس أشبه بعملية عقابية، وأصبحت آلياته أشبه بممارسة انتهاكات أخلاقية في حق الوعي والعقل والجمال والسؤال والنقد.. لا يجب أن ننسى أن ما يصنع الوجود الحقيقي للجامعة ليس وظيفتها البيداغوجية، بل هي حيوية المعرفة ذاتها لما تنبثق من داخل الخطابات، وورشات النقاش والجدل والتثاقف والحوار، من خلال الإصغاء إلى جدل الأصوات. أتعجب كيف ندرس الحوارية كسمة حداثية في النصوص في حين لا نمارسها في واقعنا الجامعي، بل نكتفي ربما بالنميمة المعرفية أكثر من الاهتمام بالحفر المعرفي.. لقد غابت النشاطات، لا مسرح لا فن تشكيلي، لا ورشات إبداعية لا أماسي لشعر والكلمة الراقية، أضحى كل شيء حبيس إحصاء عدد الدروس التي ألقيت، وعدد الطلبة الناجحين أو الراسبين (وهم في كل الأحوال سيان)، أو عدد الأيام التي لا تنتهي التي نقضيها في امتحانات هي أكبر دليل على أن الجامعة عندنا كالسائر في غيبوبته.قد يكون في كلامي الكثير من العتاب، والكثير من التجريح، والكثير من الخيانة لصمت الواقع الذي يفرض نفسه كحالة وجودية لا جدال فيها. أريد أن أحدث جرحا على هذا الجسد الهامد، مع الوعي بمخاطر هذه العملية، مع وعيي أنّ الصرخة قد تعود إلى فراغها، وتظل الأمور على مسارها الطبيعي المفروض عليها... من يقول لي إنّ الجامعة بخير؟ طبعا، لا أقصد أنّ الندوات هي الحل السحري لأزمات جامعاتنا، وإلا لكان الحل سهلا وناجعا وواضحا للعيان، لكنه جزء من الحل، وجزؤه الضئيل جدا، لكنه قد يكون الكاشف لعورات واقع ملوث بوباء التخلف والتقهقر المزمن.