نادلات مقهى ليناس البيروتيات يتجولن بين الطاولات يزرن الضيوف ويقتربن من الكراسي غير متعثرات، النادلات مشغولات برصانتهن ونقاوة الفناجين، يرقبن مرتادي المقهى من طرف حفيًّ، ذكيات، يلمحن حركة الجالس لأوَّل مرة، يتصيَّدن طلبه بحصافة المدركات وحدس الخبيرات، مسافة مدروسة جدا، وواقعيَّة جدا، وهادئة جدا،كمضيفات شركة الطيران الآسيوية، يذرعن الصالة ودخان الرجال يلتفٌ حولهنَّ، كما عبق السيدات الكبيرات، المحترمات يطلبن فقط اكسبرسو وقنَّينة ماء معدني مثلَّج تبتسم من خلاله أسنان الوافدين الآخرين على المقهى، والنادلات هنَّ خصوصيَّة هذا المقهى، كلٌ شيء بمقدار كحبَّة سكَّر، كقهوة ترتشف بالعيون والأصابع، وكحلوى/التشيزكاك/ المغسولة بالتوت أوبالليمون·· المقهى ونادلاته، مرتادوه وضيوفه،هو مسرح صغير لبيروت الكبرى، العصيَّة على التهميش والإفراغ والإهمال، بل هي محاربة استثنائيَّة /هذه المدينة/ بفرقة مدرَّعات وفيلق دبَّابات، ولا مجاوزة للحدًّ ولا تطاول على الخصوصيَّة وهنَّ بذلك في لونهن الكريمي، والبدلة الخضراء الفاتحة يمسحن أرجاء الصالة وديكورها بالنفس ذاته وبالبصمة نفسها، إنَّ أجواء مقهى ليناس هي كذلك تخلق الانطباع المستمر المصبوغ بالتواصل مع نبضات أخرى وأهواء أخرى، هنا الأكسبرسو الحارَّة ورشفاتها على الشفاه، هنا جرائد بول شاوول وأشعاره، هنا مقالات زاهي وهبي ونثرياته، هنا تفكيك علي حرب وكشوفاته المعرفية، هنا الأنفاس الخفيَّة للكتابات الغزيرة التي تتصبَّح بعناوينها الرائعة و لمحاتها البارقة، المقالة السياسية وهي منفوخة بكلام الشعر، المقالة الأدبية وهي مذعورة خائفة من مطارق الطائفة، وهنا الصحافة النسائية كأنَّها بيان من بيانات السريالية، هنا نساء التصاميم والموضات والعطور، في تجارب معيوشة وأشكال ومذاهب وايقاعات كايقاعات النادلات في مشيتهن، صمت يجلوهن ويكللهنَّ، وحركات مدروسة هوخطاب بيروت اليومي، الصفة لا تنفي موصوفا من قوم آخرين، والعموم لا يأبه بالخصوص والخصوص يرتكن إلى ركنه، نازعا نحو طائفويَّته أومناطقيَّته،أوفئاويته، لكن المغايرات هذه هي وجه بيروت الناصع بعد الحلحلة السياسية التي عرفتها لبنان ما بعد الدوحة، لقد خفَّت وطأة التوترات، عادت المحاصصات الإنسانية بين اللبنانيين والبيارتية لاعبة الدور والمقام فلهذه الأمكنة عملها في طمأنينة لا تستدرك إلاَّ حين الانفصال عنها، إثر ظفرات عمرانية هائلة عرفتها بيروت رفيق الحريري استكان الشارع وخمدت نيران الفرح فيه وهجرت المقاهي ناسها الإستثنائيين، فلقد تهدَّلت الحيطان وكساها الجير، وتطفَّل بين طاولاتها باعة اليناصيب وشباب /البويا/ ولم يعد خلف زجاج الويمبي أو المودكا إلاَّ نظرات مسروقة، حزينة، تحتها شعور بعتَهْ المدينة ومجونها اللامتوازن، وانصرام برجوازية مابعد الحرب عنها، عن روحها وعن نبضها قبل سنوات قلائل، غير بعيدة، شكل الشارع، مشروع الورشة، تزفيت في الطرقات، الطلاءات على الواجهات، محلات موضة وألبسة وأنتيكات، محاولة عقلانيَّة لبعث الحمرا وجذب المتردَّدين الذين لا يملكون لا المال ولا المزاح للتزلق نحو /الوسط المشهور/ والذي يحلو للبيارتة التلهج بذكره بعبارة/الداون تاون/ /DOWN TOWN/، إنَّ البعث العمراني البيروتي يجدَّد لحظة المدينة ويؤثَّثها كيما لا تهوى في الفوارق غير الانسانية تلك التي هي دائما شفا هاويتها، وزناد مسدسها، وكبريت حرائقها· في الحمرا التي تعضد المدينة وتشكَّل مسرحها اليومي، الإنساني، العفوي، ينوجد ليناس ونادلاته الطالبات، الطموحات، المتشبهات برصانة أصليَّة فيهنَّ لا تكاذب فيه وهنَّ واقفات،ضالعات من أجل الشارع، من أجل المدينة ومن أجل بقائها وبقاء الحب فيها مبلولا بنداوة الأفراح، بفيض الصباحات، وبهسيس الملاعق الصغيرة وهي تدوزن الحبَّات الحلوة في الفناجين الشاعريَّة· مقهى ليناس يجيئك على اليمين من آخر/الحمرا/ أويأتيك يسارا من أول /الحمرا/، ليس لهم، يكفي أن تكون قادما من مفارق عدَّة، مختلفة، مشتعلة بالحياة، لا ترأف بالموت والموتى، وأنت قادم، قادم من عائشة بكَّار وفندق الكومودور، أوصاعدا من قريطم، وساقية الخنزير، وتلفزيون المستقبل، من شوارع ومن مضاقات، من زواريب ومن فشخات ليس لهم، إذا كان في تفكيرك/المقهى/مسرح بيروت الكبرى، وليناس هذا هو الأكثر حداثة للنخبة التي اعتادت القعود التاريخي أيام الزمانات، /زمن الويمبي/ وزمن /المودكا/ وزمن/الكافي دوفرانس/، وليس من ضرورة كي أستدعي هنا لبنان وبيروتها التي كانت، بل أعود إلى ما بعد تسعينياتها فقط، فمقاهي الحمرا المذكورة انشدت إلى حالة النوستاجيا وهي تقاوم بقاء الحلم اللبناني، السويسري، الذي يعبث بالمخيَّلات العامَّة ويؤجَّج شهوات المثقفين العرب الذين ما إن نزلوا إلى اللحظة بالمدينة إلاَّ وطرحوا حقائبهم في غرف الفنادق ليهبطوا على صهوات الرغبة لعناق المدينة والقعود التاريخي في مقهى من مقاهيها، يقودك الشارع الواسع، الطويل إلى المقهى بلا دوخة أو وجع أوهبل،أوعنجهية، وتعمل التسميات في تأهيل الحياة المدنية وجبر الكسور التي كانت في الجسم وفي أبنيته، الطائفة اندغمت في لعبة التحالفات، والتحالفات أعادت النظر في تركيبتها والخطاب انقلب رأسا على قدم، جنلاط وليد السياسة وشيطانها غادر قوى 14 مارس، كاتب افتتاحية المستقبل فارس خشان أحيل إلى مهام أخرى، سعد الحريري في سوريا، ودمشق تجدد الغزل في جمال لبنان ومحبة لبنان· هكذا هي ثانية بيروت، ثالثا ورابعا، خامسا وسادسا، سابعا وثامنا، تاسعا وعاشرا، مزاجيَّة الهوى، شفافة، لمَّاحة،ناشزة على حالها، طليقة على رسلها تسري وتسري تحت القلب، جنوب الروح، صادمة بالمستحيلات، لا تتعثر وإن تعثَّرت ناهضت السقوط وأبدت وقفة لا تضاهيها في ذلك مدن أخرى، تسقط بسرعة، ولا تبني النهضات والرؤى والأحلام كما هي بيروت الحمرا، شارعها الفسح المزدهي بأحمره، المجنون في فرح كأنَّه الأخير، المعتوه بسذاجة اللاَّمبالين الذين يمنحونك فرصا جيدة لغبيطتك واحساسك الخفي باسطورية هذه المدينة· من أول /الحمرا/ يسارا ومن آخره يمينا أوالعكس في الغدو والراح يتقدم /الكوستاكافي/ صورته في التجربة المقهوية البيروتية، شيء من التأمرك الاجتماعي الذي لا يحيد عن زمن لبنان كحداثة وأنماط عيش غربية ومسيحانية تلوَّن التقاليد الاسلامية بألوانها وقد تجهز عليها حتى كما يحدث في الفرح والمناسبة، في الأعياد والفسحات، في الساحات والبوسطات، إن /الكوسطا كافي/، هي خليط من ناس عابرة، قليلة الاعتبار بالثقافة وحضورها في النسيج المديني، فهو بأفقه الضيق لا يحمل على الصخب الفكري والأيديولوجي والطائفي،وتنعدم فيه حركة النادلات اللواتي يبقين الجالسين في جلساتهم يتوسطهم خيط الدخان،وحفيف ورق الجرائد وسطوة الكرسي وسلطته، إنما جعل هذا المقهى الحديث نوعا ما للكمبيوترات الشخصية وللأحاديث المقتضبة واللقاءات السريع لإتمام مشاريع سهرة عائلة وتحاب أومصالحات وبزنس أونكت طائفية وحكايات سياسية عن فاشلين في الانتخابات أوفي الظهور التلفزيوني الباهت لبعض زبدة النخبة اللبنانية الجديدة في البرلمان أوفي مجالس العائلات،أحاديث سريعة ملتقطة ونظرات بريئة وغبية،ولا مبالاة بائنة خلف /اللاب توب/مقهى وفقط،يعكس هذه اللبنان الأخرى التي تمر من خلالها الأشياء دون أن تحدث فعلا· في بيروت هناك حفلة عجقة في كل شيء، عجقة سير، عجقة مغنيات ورقص، عجقة ملابس ومحلات ملابس، عجقة مطاعم، أكلات، زعتر وزيت، ملك البطاطا، مطاعم بربر، مطعم الكبابجي، مطعم مهنا، كما هي العجقة في نوادي السهر ومرابع الليل، عجقة في الأناقة والكلاس، في الساعات وعلى المعاصم وفي أقراط وحقائب الأيد· بيروت على مسرحها الامبراطوري مزدانة بهذه الفسيفساء التي لم تنمحي بل مسافة بوهج لا يعرف الانكفاء و التبطل، وهي إذ تنحاز فلا تنحاز نحو آخر تطرفاتها، بل تبقي خيط الرجعة معبدا، قائما للاستعمال، حدث هذا في السياسي وفي الثقافي، فالأصولي تعاون مع اليساري والليبرالي تسامح مع معارضيه، لا مساحة في ذلك التلون على أرض صغيرة كل يريدها له على مقاسه، وهواه ثم لا يلبث أن يلحظ وسع العبارة وضيق المكان ففجأة تتعاقد النظائر والأنداد مع الأعداء والأشباه مع الفرقاء، أشياء كثيرة هنا تتغير بايقاع اللون والكرافتات، بأهواء الأقمصة والأحزمة وبنكهات العطور والأكسسوارات، وكل شيء يأخذ برفق وبتوؤدة وعلى مهل كالقهوة تحتسى، كالجريدة وملاحقها الثقافية تقرأ بإمعان ماكث وكحفيف النادلات في مقهى ليناس وهنَّ مسرعات الخطى يقدمن القهوة والقشدة بالحليب كما قنينة الماء والمحارم الورقية، هناك،هناك يتمشين بين بول شاوول وجرائده، زاهي وهبي وهو يرمق آخر كلماته، يخطها حروفا ورسومات يعرفها مايكل انجلو، علي حرب وهو يحدثك عن نهج البلاغة ونهج ابن عربي ونهج ايران··