أبأس ما في عاصمتنا المكتبات والمقاهي.. المقاهي عندنا لها مفهوم آخر ودور آخر ولها منظر مناقض لمقاهي باريس مثلا.. تلك المقاهي التي شكلت ولا زالت مقر تلاقي أشهر الكتاب والفلاسفة، ومن يزور باريس لا بد أن ''يأكله'' الفضول ليرى ذاك المكان في ذاك المقهى الذي تردد عليه مثلا سارتر وحبيبته سيمون دي بوفوار والمسمى ''دو فلور'' أو مقهى ''البلكونة الصغيرة'' الذي كان المكان المحبب للفنان بيكاسو أو غيرها من تلك المقاهي التي تشع نظافة ورقيا وثقافة.. أين مقاهينا من كل ذلك.. لا شيء عندنا يدل على أن المقهى مقهى سوى تلك الكراسي وتلك الطاولات وتلك الكؤوس والحيطان التي لا تقل بؤسا ويأسا عن الجالسين عليها.. المقهى عندنا كما في سائر البلدان العربية تقريبا مكلف بمهمة أخرى مكلف لإنتاج الهوان والفراغ.. صحيح أن الإنسان بإمكانه أن يحتسي فيه قهوة أو ''قازوزة'' أو أي شيء آخر لكن في الواقع من يتوجه إلى المقهى يكون في رأسه شيئا آخر يمارسه هناك.. الراحة؟ قد يفعل ذلك لكنها الراحة التي تتيح له التفرغ لاجترار العذابات واستدعاء مشاكل اليومي والانخراط في الوساوس. أغلب رواد المقاهي أصبحوا من نوعية خاصة، هم في الغالب الفارون من الشوارع ومن أنفسهم، المفضلون لضجيج المقاهي المعطر بأبخرة البن ورائحة الشاي والنعناع.. على ضجيج الخارج.. ثمة من يختزل جلسته في فنجان قهوة أو كأس عصير ويغادر، وثمة من يلتصق بالكرسي ساعات طوالا لا يستهلك خلالها أكثر من شربة ماء أو قازوزة باردة.. ما يشربه الزبون هو في الغالب ثمن الجلسة لا ثمن المشروب.. ومن تضطره ظروف ما لاقتحام مقاهي أحد شوارع العاصمة عليه ألا يدقق النظر في وجه الطاولات ولا أن يدقق في أرضيتها أو كراسيها أو مئزر نادلها، وأن يتجاهل فرحة الذباب وأشياء أخرى بمقدمة وإلا لما استطاع البقاء لحظة فيها.. هذا النوع من البؤس والقذارة تتشبث بها مقاهينا كأنها قدرها.. وكأن النظافة والنظام والترتيب تتطلب ميزانية قارون.. أو أن الزبون لا يستحق أكثر من ذلك.. ثم أين هي لجان مراقبة صحة المستهلك؟.. هل الإهمال والأوساخ ما عادت ضمن اهتمامات أولي الأمر.. كل وسائل النظافة والمظهر اللائق المحترم متوفرة بلا تكلفة كبيرة ولكن لا حراك ..