الحكاية تشبه قصة أصحاب الكهف " فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا " ... فضربنا على أذاننا، ووقَّفنا زمن أبنائنا، حاولنا إيقاظهم لنعرف من منهم أحصى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا، لا أحد يعرف، بعثوا منهم من يشتري لهم طعاما، فإذا بالنقود التي يحملها غير متداولة، فتبين أنهم لا يحسنون استعمال الزمن، لأنهم مازالوا يعيشون في قرون الظلام، التي عفا عنها الزمن، تأخر فظيع، ذلك ما يسميه الأوربيون بالقرون الوسطى. و للخروج من هذه الحالة، علينا قبل كل شيء الإستعانة بالله، و لنكن عمليين و واقعيين، وهذا يعني أن نستعمل العملة المتداولة، بغض النظر عن قيمتها، أو دقتها، لأخذ مكان تحت الشمس.. علينا تعليم أولادنا القراءة، لأنها مفتاح السعادة، مع العلم أن كل الطموحات التي يحملها إطاراتنا المتحجرة كما قالها المرحوم عباس، لا يمكن أن تحمل أعباء ثقيلة تأبى الجبال حملها، و يريدها هؤلاء السفهاء لأنهم جهلة، " وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ"، علموا أولادكم الكتاب و الحكمة، وأحسنوا الظن بالله في كل شيء. هل يمكن أن نستخلص بعض الدروس من المُحتل عندما استعمل بنادق الخرطوش "الرصاص" المصنعة في مصانعهم ، لقد خاض آباؤنا القتال ببنادق الفتائل الرديئة، ولم ينقصهم إلى المدافع الخشبية " مدفع الكروش"، لقد هيأنا لهم الميدان، كما قال أستاذنا بن نبي. و بما أن الموضوع هام وخطير فكان لابد بالإستعانة بدراسة هامة للكاتب ل: "Y GIRARD " ، أذكر منها حرفيا بعض المقاطع: هُزمنا بالقمع و بمنهجية " الإغارة " التي أسسها الشيطان "Lamorcière " و بسياسة الأرض المحروقة ل "Bugeaud "، سميت هذه المرحلة من الإعتداء ب"إعادة السلم" إنتهت سنة 1857 بعد "تطهير منطقة القبائل" و تطويق قبائل السهوب، خلال هذه المرحلة (18301871) طبقت فيها فرنسا سياسة الإبادة الجماعية و ارتكبت جرائم حرب و جرائم ضد الإنسانية فظيعة، تمت فيها إبادة قبائل بكاملها، تكرر هذا عدة مرات، ففي سنة 1844 "Cavagnac " أحرق قبائل عُزل بكاملها، و في سنة 1845 الحاكم العام للجزائر "Bugeaud " أمر العقيد "Pelissier " بإعتماد هذا الاسلوب، و العقيد "Saint-Arnaud" إستعمل طريقة الغلق بالجدران على القبائل التي حاولت الفرار، و هذا السلوك المميت تم نهجه خلال كل مدة الإحتلال حتى الثورة المجيدة. و ما وراء هذه الجرائم ضد الإنسانية، شهادات من الجهات الفاعلة، وتتأكد نية المحتل في الإبادة الجماعية، و الطابع العنصري و الإجرامي للإستدمار. الجيش الفرنسي لم يتبني في معزل منهجية الإبادة، بل هناك من سانده، ففي سنة 1841 الدكتور "Bodichon" عبر عن نفس النوايا الإستئصالية، حيث قال:" بدون خرق للقوانين الأخلاقية، نستطيع محاربة العدو الإفريقي الى جانب البارود و الحديد، بالتجويع، و بالانقسامات الداخلية، و الحرب ب"الكحول" و بتشجيع الفساد و الإخلال بالنظام بدون سفك الدماء، و يمكننا إبادتهم كل سنة بمهاجمة وسائل قوتهم وامداداتهم ". حقيقةً الخمر فعل فعلته، حيث ظهر جيل جديد من القياد و الباشاغوات كلهم "مفرنسين" و فاسدين يتعاطون هذه الآفة بشراهة ، إنها من صنع فرنسا. والشعب الجزائري كان قنوعا ، حيث حاولت فرنسا تحطيمه، لكن " وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ " لا تزيد عنه و لا تتأخر. مفكريهم الكبار و مثقفيهم المشهورين و فلاسفتهم من كل التيارات الفكرية، باركوا و شجعوا على الإحتلال، حتى أنهم ذهبوا إلى تبرير الجرائم و المذابح " فلسفيا" ، أمثال "Alexis de Tocqueville" و "Vuctor Hugo" و "Friedrich Engel" و "Alphonce de Lamartine" و أمثالهم . فهم، يحملون نفس الإعتقاد، ولن يرضوا عنك حتى تتبع ملتهم، وما أعرف أن كل الجرائم البشعة عندهم كانت مقبولة و مؤيدة و مبررة، لأنهم يعتبروننا مخلوقات دونية، و البشر هم الأوربيون وحدهم . حروب الاغارة و المحرقات و طرق الإبادة الأخرى، أدت إلى نكبة ديمغرافية فعلية، ففي سنة 1830 كان تعداد الشعب الجزائري 6 ملايين نسمة، و بعد ثلاثين سنة من سياسة الإستئصال تراجع العدد إلى 2.1 مليون نسمة، في هذا الموضوع بالضبط أذكر دراسات الدكتور "جيلالي ساري"، الذي أكد أن الجزائر فقدت 60 % من شعبها. هذا التدهور الديمغرافي يفسره قساوة أساليب العنف المستعملة من قبل الإستدمار، مذابح جماعية، محارق، تجويع و أوبئة، سمحت من تسارع الإحتلال، و هذا كله لا يرقى في نظرهم إلى جرائم ضد الإنسانية، حيث تبقى الى الآن بدون عقاب. بعض الإحصائيين تنبؤوا بإستئصال الشعب الجزائري، كهنود إمريكا، حسب الدكتور "Ricoux" فالبربر و العرب "سلالات دونية " بل " سلالات منحطة " يجب أن تندثر بسرعة. فقهر الشعب الجزائري لم يتوقف عند هذا الحد، فبعد نهاية الغزو تماد القهر بأشكال أخرى، كتهديم الهوية الثقافية و الحضارية للشعب الجزائري. هاجمت فرنسا أولاد سيدي نائل، بمحو ماضيهم المجيد بالنبل و السيف، فخلال المقاومة كانوا عقبة ضد توغل الغزاة نحو الصحراء و على مؤازرتهم للرحمانية، التي كانت مستهدفة بالضبط في منطقة القبائل، لقد قامت فرنسا بتفريغ كل الزوايا من روح المقاومة ضدها بطريقة ممنهجة، ثم تلتها السياسة التعليمية و حملاتها التنصيرية، حيث أثرت سلبيا على الهوية الوطنية، وتحمّل أولاد سيدي نائل شر إنتقامها، من ترحيل و تجويع متكرر و تدنيس و إتلاف قطعانهم وانتشار الأوبئة ككوليرا، وتيفوس، و حملات التشكيك و التشويه في شرفهم، أي بؤس تام... من بلد البارود و الخوف أصبح بلد " لا أرض و لا تجوال " الى البحث عن لقمة العيش دون جدوى ، لأن الإدارة الإستيطانية متحكمة في الوضع، لقد أقامت فرنسا سياسة التطهير العرقي مستهدفة القضاء على جميع الخصائص الإجتماعية و الثقافية للشعب الجزائر، مستهلة بهجومها على الإسلام و اللغة العربية، حيث صرحت أنها لغة أجنبية في بلادها، وكذا أماكن العبادة و المساجد هدمت معظمها أو حولت إلى كنائس. بعد الإحتلال لم يتوقف الإستبداد و الجور، حيث عاودت إبادتها للشعب سنة 1945 عند نهاية الحرب العالمية الثانية عندما كان الأوربيون يحتفلون بالنصر و " السلم"، و تطلعات الشعب الجزائري دهست بأرجلهم، و لمقاومتها للحركة الوطنية، التي بادرها المثقفين الجزائريين و الذين للأسف نجهلهم، كأمثال القبطان محمد بن الشريف (أنصح بقراءة كتابه " مصطفى القومي") و الأمير خالد، هؤلاء هم الأوائل الذين تكلموا عن الوطن و الوطنية و كذا الإمام إبن باديس. فإبادة 1945 خلفت عشرات الآلاف من الضحايا بكثافة لا مثيل لها، في الشمال القسنطيني و باقي الجزائر. ففي الجلفة قمعت المظاهرات وكل الوطنيين أعتقلوا و حبسوا و ضربوا و عذبوا: أمثال حران عبد الرحمان، شويحه الحاج قويدر، كاس البخيتي، لحرش زين العابدين، شونان محمد، يونس بن بلخير، براهيمي عبد الله و مداني بن محمد إلخ... .../...يتبع (*) عن مؤسسة سيدي نايل/ الأستاذ: عبد الرحمن شويحة ملاحظة: المقال ترجمة للموضوع الأصلي باللغة الفرنسية (الرابط من هنا)