لقد شهد العالم العربي، والجزائر أحد أقطابه، في فترة ليست بالبعيدة عنّا مدّا ثقافيا أجنبيا، تلقّفته بعض العقول التي حملت شعار الحداثة والتغيير، والثورة على ماضي تراثنا نحن، لا ماضي تراث الغرب ؛ لأن الغرب في نظر فئة من المنتمين إلى الحقل الثقافي شيء فوق كل اعتبار، وخارج مجال النقد ؛ فما يأتي من الغرب يحمل في بذرته التفوق والنبوغ ؛ بل والقدسية أحيانا ؛ أمّا تراثنا العميق العريق فشيء لا يستحقّ الذكر، والعودة إليه هو منتهى السخف والتخلّف ؛ بدأ هذا المدّ الغربي أو الغزو الثقافي جرّاء احتكاك بعض كتابنا بالغرب، ولم يسوّق لنا هؤلاء الغربيون أسلوبهم في الكتابة أو نمط كتابتهم الشعرية، فمن يحمل همّ هذا هو من أبناء جلدتنا ويتكلم بلغتنا لكنه يفكر بلغة غيره، هو معنا جسدا لكنه معهم فكرا وانتماء، والغريب أن تقليده للأساليب الغربية سمّاه تجديدا وحداثة ؛ أمّا تقليده للفكر العربي الإسلامي بما يملك من ثراء لغوي ومن ثقافة عميقة متجدرة، فهو تقليد يدلّ على عدم النضج المعرفي وعلى النبش في القبور. لم أقرأ أن أحد الشعراء الغربيين قلّد أساليب العرب في شعرهم أو نثرهم لأنه يؤمن بثقافته وتراثه، ويعمل على ترسيخهما في مجتمعه ؛ أما هؤلاء الذين ظنوا أنهم وجدوا ضالتهم فإنهم آثروا فكر غيرهم على فكرهم وأساليب كتاباتهم على أساليب كتابة أدبائهم ومفكريهم، والغريب أن الأدب الفرنسي آثر العودة إلى المنابع القديمة ليجعلها منطلقا يستمدّ منها التواصل والاستمرار ووضع القدم في عمق التراث فلقد جاء في المعجم الأدبي أنه : "في القرنين السادس عشر والسابع عشر اشتد احتكاك فرنسا بإيطاليا (لاحظ أيها القارئ الكريم أن كليهما يحمل جذور لاتينية) وماشتها في العودة إلى المنابع القديمة والارتواء منها ونجم عن هذا الاتصال بروز فنون جديدة، ورسوخ الفنون المتوارثة على مبادئ ثابتة" انتهى ما جاء في المعجم الأدبي، فهم لم يتنكروا لتراثهم، ولكنهم اتخذوه مطية للتفوق والنبوغ انطلقوا منه ثم حلّقوا بعد ذلك. وليست فرنسا وحدها في عودتها إلى عمقها التراثي العريق، بل نرى الأدب الهندي هو الآخر عمّق صلته بماضيه ولعله أكثر التصاقا بالتراث من أي بلد آخر، فقد ظهرت في الأدب الهندي نصوص مرتبطة بشؤون العقيدة الدينية والشعائر العائدة إليها، وكانت في معظمها شفوية متنقلة سماعا من جيل لآخر، (أي مأخوذة عن التراث). يتخذ من القرن العاشر ق.م نقطة الانطلاق الفكري والأدبي (سقراط وأفلاطون في الجانب الفلسفي) وهوميروس في الملاحم الأدبية (الإلياذة، والاوديسة أنموذجا) فهاتان الملحمتان لازالتا تعتبران من أرقى الآداب العالمية ومن أوسعها انتشارا واستئثارًا بالرغم أنها من أدب التراث. وإذا كان بعض الممارسين لكتابة الشعر الحديث عندنا وهم وصفوه بالحديث ؛ ولكنه في الحقيقة من النمط الغربي الذي لا يخضع للأوزان الشعرية، ولأن مثل هؤلاء رأوا في الشعر العمودي تكليفا ومشقة فإنهم آثروا الشعر المتحرر من القيود الذي وجدوه في الأدب الغربي فاتخذوه مطية سهلة يعبرون بواسطته في أغلب الأحيان إلى أسلوب سريالي غامض ورمزية أكثر إيغالا في الغموض، وليتهم امتلكوا زمام التفعيلة والوزن الشعري كما امتلكتها الشاعرة نازك الملائكة التي اشتهرت بخروجها عن النمط الخليلي والتي انطلقت من الشعر العمودي واتجهت نحو الشعر الحر، فالشاعرة لها العديد من القصائد كلها من الشعر الخاضع لنمط الخليل بن أحمد، وهذا المثال ومعه عيّنات أخرى دليل على ذلك. لنقرأ لها هذه المقطوعة الشعرية التي تحمل عنوان : في أحضان الطبيعة أيها الشاعرون يا عاشقي النيل وروح الخيال والأنعام ابعدوا ابعدوا عن الحبّ وانجوا بأغانيكم من الآثام اهربوا لا تدنّسوا عالم الفن بهذي العواطف الآدمية احفظوا للفنون معبدها السا مي وغنوا أنغامها القدسية ثم لنقرأ لها: الرحيل فوداعا يا كل ما في الوجود ال عبقري العميق من آهات كنت في قلبي الخيالي مأسا ة، وأنت الغداة سر حياتي سوف أهواك يا دموعي وأحزا ني ما عشت في الوجود الجميل فاصحبيني إذا أنا عشت في العا لم أو حان عن ثراه رحيلي ولدى الشاعرة العديد من القصائد كلّها على هذا النسق المثنوي تجاوز عددها العشرات، وليست وحدها أنموذجا في رجوعها إلى الشعر العمودي فهناك عدد كثير من شعرائنا المعاصرين : بدر شاكر السياب، مثلا، لنقرأ له : ذكريات الريف شعاع من الماضي منير بخاطري وذكرى لما ولّى تعطّر حاضري تلمّ ففيها دمعة وابتسامة وتأتي فلا تبقي على صبر صابر لقد لاح لي من ذكرياتي بوادر وإنّ هوى نفسي بتلك البوادر وأبرز لي وهمي وكان مصوّرا ذواهب أيام حسان سوافر فتلك رسوم الريف تحيا بخاطري كما عاش في الأوتار أنغام ساحر إن لهذا الشاعر الكبير عشرات القصائد خاضعة للأوزان الشعرية، التي رآها بعض المعجبين بالنمط الغربي والذين أصبحوا فيها بعد حماة لهذا النمط رأوها لزوما لما لا يلزم وضياعا لجهد الشاعر ووقته، قال في حقه الأديب الكبير عباس محمود العقاد، أنه حين أوكلت له مهمة اختيار النصوص الشعرية، فقد كان يجمع هذا اللون من الشعر في شكل رزمة كبيرة ويكتب عليها بالخط العريض : "يحال إلى لجنة النثر" لأنه يفتقر إلى المواصفات الشعرية. جاء في "دائرة المعارف الإسلامية" في تعريف الشعر : "أما عن الشكل فالشعر العربي يتألف من الوزن والقافية وباستثناء الرجز تتكون جميع أوزان الشعر العربي من شطرين مع قافية في نهاية الشطر الثاني والوزن كمّي والحرية واسعة في إحلال مقاطع طويلة محلّ مقاطع قصيرة وكذلك العكس"، وقد أفاضت دائرة المعارف الإسلامية في هذا الموضوع انظر المجلد 13. باب "شعر". صحيح أن هناك بعض التجارب جيّدة نجدها عند نزار قباني ومحمود درويش والسياب ؛ لكنها محتفظة بالتفعيلة أي أنها تحمل لمسات من اللون الخليلي الأصيل. لقد كتبت الكثير من الأنشودات المدرسية وحتى الأوبيرات للأطفال، وكان التلاميذ ينسجمون معها ويتفاعلون وإياها، واستطعت فيها أن أعبّر عن أحاسيس الأطفال ورغباتهم، ولم يمنعني الشكل الظاهري العمودي من أن أعبّر على النحو الذي أريد ؛ ولو أن بعض هؤلاء المقلدين للون الأجنبي والمتهافتين نحوه اكتفوا بتقليدهم هذا، لكان هذا شأنهم فهم أحرار في أن يختاروا اللون الذي يعجبهم لكنهم يسخرون ويستخفون بمن يكتب الشعر العمودي، ويعتبرونه ينبش قبور الأموات، مع أنه اختار العودة إلى تراثه وأسلوب من سبقه من الأوائل الذين اهتمّ بأدبهم وشعرهم الغربيون، فكتبوا عن المتنبي (الذي لازالت دواوينه تشغل الناس وتملؤهم إعجابا) وعن أبي العلاء المعرّي وأبي تمام وغيرهم من فطاحل الشعر العربي. هذا الانبهار بما يأتي من الغرب ليس مقصور على الناحية الأدبية ؛ بل تعدّاه إلى الجانب الديني الذي يتسم بالقدسية ومع ذلك تأثرّ بعض المحسوبين على رجال الدّين بالنماذج الغربية، وبلغ ببعضهم الأمر إلى إباحة الخمر (إرضاء لأصحاب نعمتهم)، بدعوى أنه لا توجد هناك أية صريحة تحرم شرب الخمر، غاية ما هنالك أن الآية تقول : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا)، وردت في الآية 219 من سورة البقرة ؛ لكنهم يسيئون فهم أو تأويل الآية الكريمة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ)؛ المائدة 90،91، وتجاهل هؤلاء ان عبارة رجس من عمل الشيطان تعني معنى يفوق التحريم، كما ان التقريع و التوبيخ في قوله تعالى "فهل انتم منتهون" يدلّ على معنى انتهوا و يدلّ على معنى اعظم وهو السؤال التقريعي الذي يراد منه التوبيخ والتحذير، و هو ابلغ في نظر علماء الدلالة اللغوية من عبارة حرام او محرّم. و يروى ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية قال قولته الشهيرة : "انتهينا يا رب". وكرّرها مرارا، فقد رأى عمر بن الخطاب ان هذا التحذير هو امر قوي و شديد بالإقلاع عن شرب الخمر، جاء في القاموس : " التحذير بيان يحتوي على تعليمات يجب الالتزام بها وعبارة "يجب" من الوجوب وهو وجوب الانتهاء من شرب الخمر. والغريب ان هؤلاء الذين نصّبوا انفسهم مرجعيات دينية، حاولوا ان يكيفوا الاسلام حسب النمط السائر عليه المجتمع الغربي حتى لا يخدشوا مشاعرهم، وحتى يكونوا اكثر قربا منهم و خدمة لهم لتظل هذه المجتمعات الغربية راضية عنهم غاضة الطرف عن وجودهم داخل هذه المجتمعات. لقد قلدنا الغربيين في لباسهم و نمط معيشتهم، واستوردنا، او فرض علينا، ان نندمج معهم و نتعايش مع ما اسموه بالديمقراطية، وهي كلمة حق أريد بها باطلا ؛ فالديمقراطية معناها ان تسود الفوضى بحيث من يتحدى القوانين فالديمقراطية هي التي تحميه، و من يلتزم بحدود الله في اسرته و بين اهله، فعليه الا ينسى ان الديمقراطية اعطت الحق للجميع في الحرية و ان اي حدّ بهذه الحرية حتى ولو كان من طرف الاب او الام يتناقض مع الديمقراطية، وان حقوق الانسان القاتل ضمنتها جمعيات حقوق الانسان في العالم باسم الديمقراطية ؛ فالمقتول قد انتهى فلا حماية له بل الحماية للقاتل حتى لا يقتص منه، واذا ارادت اية فئة حتى ولو كانت معدودة على الاصابع ان تتحدى المجتمعات الاسلامية باستخفافها بالمقدسات ؛ فالديمقراطية تحميها، و اذا حدث وان رفع شخص او اشخاص حتى و لو كانوا لا يمثلون شيئا في بلدهم ليقيموا دولة ؛ فالديمقراطية تمنحهم هذا الحق و تدافع عنهم بدعوى الدفاع عن حقوق و مطالب الاقليات، اما الملايين من البشر فلا معنى لها عند الغربيين، و حتى الارهاب دخل في حماية من اسموا أنفسهم بالديمقراطيين، فهم محمون من الدول. سألني أحد معارفي هل تستطيع أن تحدّد لنا الرجل الانموذج أو المرأة الانموذج (TYPE) في الجزائر؟ فأجبت قد يكون من الصعب الاجابة عن هذا السؤال ؛ لان العادات أصبحت عندنا مستوردة، اللباس مستورد، و اللغة مستوردة و كل شيء لا نملك فيه شيئا. لقد صدق فينا قول رسولنا العظيم في الحديث المروى عن مسلم : " لتتبعنّ سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر او ذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قالوا اليهود و النصارى ؟ قال فمن ؟ (اي فمن غيرهم ). لقد راينا في تقليد ابائنا و أجدادنا سبة و معرّة، اما تقليدنا لغيرنا فهو الحضارة و التمدن و الرقي. كل الشعوب تعتز و تفتخر بتراثها و تاريخها الا نحن فاننا نعرف عن المجتمعات الغربية أكثر مما نعرف عن مجتمعاتنا العربية و الاسلامية و نقرأ لدور كايم اكثر مما نقرأ لابن خلدون، و نعرف عن الشعراء الغربيين أكثر مما نعرف عن المتنبي و ابي تمام و ابي العلاء و ابن المعتز و البحتري. لأننا انفصلنا عن جذورنا ولا تنفصل عن جذورها الا الطحالب. فمتى نعود لأنفسنا فقد ابتعدنا دون ان نجني شيئا الا التيه و التشرذم وجلب هوية مجهولة النسب.