كان قرارا رسميا صادرا عن السلطة لمواجهة الجائحة في إطار التدابير الوقائية اللازمة لحماية المواطن، فأغلقت المساجد وسمع الناس لاول مرة عبارة (صلوا في بيوتكم، صلوا في رحالكم)، وكان لها وقع شديد على المصلين وخاصة على (حمائم المساجد) المعلقة قلوبهم بها وعلى عامة المسلمين وذلك تناسبا مع مدى ارتباطهم بها وحرصهم على إعمارها. كما أدرك العديد من المتهاونين في صلاة الجماعة وغير الملتزمين بها تقصيرهم فعبّر بعضهم عن رغبته في تدارك حاله وتصحيح علاقته بالمسجد مستقبلا. وبغض النظر عن تفاوت الانطباعات بين شخص وآخر فإن غلق المساجد شكل ظاهرة استثنائية وعلامة فارقة في ظهور هذه الجائحة. فكان على الجميع تفهم هذا القرار وتقبله خاصة وأنه وقع في مناسبات عديدة من تاريخنا الإسلامي، فتعاملت معه الشريعة الإسلامية بما يساعد على حفظ النفس البشرية مما يدل على أن الإنسان في الإسلام هو الغاية والمقصد ودونه تهون كل الصعاب وتسخر كل الوسائل. فانتقلت صلاة الجماعة إلى البيوت أمام استحسان الأمهات هذا الفضل العظيم الذي يمثل مصدرا كبيرا للبركة ومناسبة لجمع شمل الأسر في إقامة هذه العبادة العظيمة فتحول رب البيت إلى إمام على أهله. وبحكم التعود والاحتساب والتسليم لأمر الله من باب (عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) وطاعة ولي الأمر فيما يرضي الله التزم الجميع بكل القرارات التي أصبحت تنظم الحياة الدينية في الجمعة وصلاة التراويح والأعياد فاقتصر دور المساجد على رفع أذان عليه مسحة من الحزن وتخنقه دموع المؤذنين أحيانا. وكان عزاء الجميع في غلق المساجد أن يُرفع الوباء قريبا، إلا أن تطوّر الأحداث كانت على وقع ارتفاع أعداد المصابين واستفحالها وتزايد عدد الوفيات (تغمدهم الله برحمته)، لتصبح أعين الناس مشدودة للأرقام التي تعرضها القنوات كحصيلة يومية لتدهور حالة الوضع الصحي. ومما زاد في إثارة القلق والمخاوف عدم احترام إجراءات السلامة من انتشار الوباء بسبب الجهل والتهاون وحتى التشكيك في حقيقة المرض وعلاقة ذلك باللقاح وما وراءه من اخبار تتناقلها الوسائط المختلفة حول تهديد سلامة البشر والتلاعب بمستقبل الانسانية بكاملها. ولعل أهم الأسباب التي ادت إلى التشكيك في مدى نجاعة وفعالية بل ومشروعية غلق المساجد الفوضى التي واكبت فتح العديد من المرافق العمومية التجارية منها والإدارية والمرتبطة بالنقل الخاص والعام وعجز السلطة في السيطرة عليها حتى باعتماد الإجراءات العقابية. حتى جاءت مشكلة السيولة النقدية التي كانت بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس، لتشهد مراكز الدفع في البريد والبنوك جموعا بشرية محتشدة في شروط (كورونية) كارثية. وخاصة مع اقتراب عيد الأضحى وحاجة الناس لاستخراج أموالها إلى حد الهجوم على الأبواب واقتحامها بكل الوسائل تحت تغطية إعلامية مباشرة عبر الفيسبوك خاصة. ضف إلى ذلك استفحال حالات الوفيات خارج الكورونا بكل أنواعها (أمراضا وسكتات قلبية وجرائم وانتحارات وحوادث) كما ساهمت ظاهرة (الحرّاقة) في المشاركة ببصمتها لتعيد لأذهاننا مظاهر اعتقدنا أنها انتهت بانتهاء عهد العصابة ونجاح الحراك (الوطني). وأمام هذا الوضع تنامى الشعور بأن استمرار غلق المساجد بات أمرا لا يجد في نفوس الناس متسعا من التفهم والصبر والقبول. وذهب البعض إلى تأويلات أخطر من ذلك حتى ولو لم تجد قبولا بين الناس. وانطلاقا من هذا الاستعراض المبسط لحالة الكورونا في طبعتها الجزائرية، اعتقد بأنه حان الوقت لإعادة قراءة في دور المساجد وسط هذه الأزمة. ولا نستطيع أن نقدم قراءة مناسبة ما لم نعيد نظرتنا للمسجد كمؤسسة لا تقتصر على الصلاة بل تمثل فضاء اجتماعيا منعناه من القيام بدوره التحسيسي وخاصة الإرشادي لما تتمتع به شخصية الإمام ومكانته من تأثير إيجابي في مواجهة هذه الجائحة الخطيرة. لأن غلق المساجد كان نتيجة اعتبارها (محتشدات) أو على أقل تقدير تجمعات بشرية لا تختلف عن الأسواق التي لم تغلق بسبب أهميتها في تغذية الجسم مقابل التقليل من شأن المساجد في تغذية النفس والروح. وكم نحن في حاجة لهذا النوع من الغذاء الذي عرف نقصا كبيرا في تقوية مناعة الإنسان وهو يجابه هذا الوباء، ولعله سبب مباشر في ارتفاع عدد الوفيات بالكورونا أو بغيرها. لقد كانت المساجد في تاريخنا الإسلامي المجيد مؤسسات اجتماعية وثقافية وحتى عسكرية لا يرفع فيها الأذان للصلاة فقط ولكن يرفع أيضا لأغراض أخرى يحتاجها المجتمع عندما تهدده المخاطر والنوازل. ناهيك عن إمكانية استغلال المسجد بما يوفره من إطار منظم يجمع الناس خمس مرات في اليوم ليدعم بينهم أواصر التواد والتراحم والتعاون على النوائب وخاصة مساعدة العائلات المحتاجة بسبب تعطيل نشاطاتها التجارية و مشكل السيولة، بالإضافة إلى امتصاص ما يجدونه من قلق وخوف في هذه الظروف الصعبة. وما علينا سوى الاستفادة من تجارب الدول المسلمة التي فتحت مساجدها وتحكمت في آليات الوقاية بوسائل متاحة وممكنة. فالمسجد مكان لتعلم ردود الافعال المناسبة للحماية الفردية والجماعية كما أنه إطار قابل للإنتظام وتعليم النظام يتمتع بمرافق عديدة تصل إلى حد توفير أجنحة للعلاج يتداول عليها الأطباء والممرضين في بعض المدن عندنا. لم يبق مبرر معقول لغلق المساجد خاصة بعد فتحها في دول غير مسلمة كفرنسا مثلا ولعل أقوى دليل على ضرورة رجوع المسجد لمجتمعه ورجوع الناس لمساجدهم افتتاح آيا صوفيا في عز الكورونا وفرحة الأتراك والمسلمين عبر العالم بهذا الإنجاز العظيم، ونحن في الجزائر المسلمة نتابع هذا الحدث الهام بمشاعر مختلطة تجمع بين السرور والحبور وبين الحزن والأسى على مساجدنا التي تعاني الوحشة والحزن، فافتحوها فتح الله عليكم وسدد خطاكم.