كنت دائما أسمع عن "العولمة"، وأتساءل فيما بيني وبين نفسي ما هي العولمة؟ أهي خير نرضاه، أم شرّ نخشاه؛ حتى شاهدت في وسطي العائلي من انزوى في ركن من البيت، وقد أشاح بوجهه وبفكره عمّن هم حوله من عائلته واستغرق بذهنه في معالجة الهاتف النقال الذكي لعلّه يقتبس منه ذكاء أو يظفر بصديق على هواه من خلال الهواء. فقلت مرة أخرى في خاطري: ألا تكون هذه هي الخطوة الأولى نحو العولمة؟. عندما يبتعد المرء عن محيطه الاجتماعي ويشتغل عنه بمحيط خارج عنه، ويعيش بفكره وقلبه بعيدًا عن ذويه ومجتمعه ووطنه فهو قد دخل في فلك العولمة ما دامت العولمة بالمفهوم الغربي هي الانسلاخ من الهوية والبحث عن مكان لها في وسط آخر، فضاء غربي لا صلة له بثوابتنا. لقد ذكر لي أحد معارفي أنه ظل يتواصل بالفايسبوك مع شخص من خارج الوطن لمدة عام كامل، ثم قال لي: (متحسّرًا وشاعرا بالنّدم وفي حالة انفعال وغضب): أتعلم ماذا اكتشفت؟ لقد اكتشفت بعد فوات الأوان بأنه من "الموصاد" بالمخابرات الاسرائيلية لقد كنت أتناول في حديثي معه كل شيء دون أدنى تحفظ. لاشك أنه قد استغلّ سذاجتي، ثم تنهّد وقال: كيف لم أفطن لهذا طوال هذه الفترة. كم مدمن على التواصل الاجتماعي ثم اكتشف أخيرًا أن الشخص الذي يتواصل معه اسم مستعار وشخصية وهمية، وما فعله هذا الانسان أنه قد اكتشف خطأه بعد فوات الأوان دون جدوى، وثانيا قد استبدل واقعه بأشياء افتراضية لا تغني عن الحقيقة شيئا، وما أكثر هؤلاء. منذ زمن ليس باليسير شاهدت ندوة في إحدى القنوات الأجنبية كان المتحدث فيها دكتورا جزائريا متخصصا في "الالكترونيك" وباحثا في إحدى الجامعات الأمريكية تحدّث عن المخابرات الأمريكية قال بأن هناك معلومات تمنح مجّانا للمخابرات المركزية في أمريكا، ومصدرها عدد من شعوب العالم الثالث. بل ذهب إلى أبعد من هذا، وقال: حتى الذي يغلق هاتفه الذكي ويظن أنه في مأمن وأنه قد اوصد أمامه كل أبواب التواصل لازال الجهاز يقوم بمهمته على نحو ما يريد له أو ما أراد منه. حقيقة إنه إنجاز مهمّ ما في ذلك شك، وعمل ذو جدوى وفائدة، ولكن مع ذلك فإثمه أكبر من نفعه، لماذا أقول هذا؟ لأن في مقدور أي أحد يملك موقعا أن يقدم لمستخدمي الهاتف الذكّي ما يريد من المعلومات وأن يسندها لمن يشاء، بل بإمكانه أن يتصرف في أقوال العلماء على النحو الذي يحبّ. حتى الفتاوى أصبحت جاهزة يقدّمها الهاتف الذكي . إن من يأخذ الفتاوى عن الأنترنيت لا يدرك، أو هو يدرك ولكنه لا يقيم وزنا لهذا الإدراك، أنه اعتمد على ڤوڤل، و ڤوڤل ليس مرجعا دينيا نأخذ عنه أحكامنا الشرعية، إن الطالب الجامعي الذي يريد لعلمه أن يكون دقيقا ومنهجيا وذا مصداقية لا يعتمد في بحوثه عن الانترنيت فإذا كان الكتاب الذي هو مادّة مرئية ومقروءة وملموسة لابد من أن يكون الاعتماد عليه مبنيا على التحقيق: تاريخ النشر، واسم الناشر، والمطبعة وصدقية أصحاب الطباعة أنفسهم، فكيف يثق الإنسان العارف بما يقدمه الأجانب، دون وعي وتمحيص. لقد انبهرنا نحن كشعوب عربية وإسلامية بما يقدّمه الغرب وكأنه حدث ونصر غبنا عنه نحن، وفطن له هؤلاء أو الذين هم وراء البحار. في هذه الأيام، وأنا أكتب هذه الكلمات، وقد فتحت المذياع على القناة الوطنية سمعت حوارا قال فيه المقدّم: هل يمكن أن تنشأ المدارس الافتراضية ويستغنى بها عن النمط الكلاسيكي القديم؟ فاستنتجت من هذا الطرح أننا، في كل مرة، وباسم التطور وملاحقة الاكتشافات، والسير على النحو الذي يقدّم لنا من الخارج على أنه انتصار للتكنولوجيا أصبحنا نؤسّس مجتمع يتحلّى بالمواصفات التالية: 1- التفكك الاجتماعي الذي سرت فيه بذرة التفكك عن طريق التواصل الافتراضي باستخدام التكنولوجيا الحديثة. 2- أننا نستصعب السهل بدلا مما قاله لنا الشاعر العربي القديم: لأستسهلن الصعب أو ادرك المنى. واستسهال الصّعب يوظّف الجدّية ويوقظ العزيمة ويعمل على شحذ الإرادة، أعجبتني كلمة قالها أحد العلماء الألمان في وقت من الأوقات: "عبارة مستحيل لا توجد في القاموس الألماني" وهو لا يريد بهذه الكلمة أن قواميسهم كما نفهم الكلمة على ظاهرها لا تحمل هذه الكلمة؛ ولكنه قصد أن الشعب الألماني يحمل بين جنبيه العزيمة والإرادة اللتين لا تقهران. 3- عدم استقرار المنظومة التربوية على حال. لقد جرّبت العديد من التجارب المستوردة؛ إلا تجاربنا نحن فإننا الغيناها من قواميسنا كما ألغى هذا الألماني عبارة مستحيل. تحضرني قصة جرت لي مع أحد مدراء التربية الذي كان معجبا ومفتونا بالطرق التربوية الحديثة، قال لي: إن الطرق القديمة طرق عقيمة فقلت له: ليست عقيمة يا أستاذ فالعقيم لا ينجب؛ ولكن الطرق العقيمة كما سمّيتها أنت هي التي أنجبت فطاحل العلماء أمثال جابر بن حيان والخوارزمي والغزالي وابن رشد وابن خلدون وغيرهم في جميع الاختصاصات. لقد قال لي يوما فرانسوا دوفيلاري، وقد كان أحد الرهبان الذين عاشوا في الجلفة فترة زمنية. إن الحضارة الغربية لم تبدأ إلاّ في القرن السادس عشر بينما سبقتها الحضارة الإسلامية بعدة قرون ولولا حضارتكم لبقينا نحن نعيش في القرون الوسطى. لماذا لم تواصلوا أنتم وتوقفتم بينما نحن تابعنا ما بدأتموه من حضارة. المادة الرمادية موجودة عندكم كما هي عندنا. الفرق بيننا أنّنا نحن استخدمناها وطورناها أما أنتم فغاية ما تقومون به أنكم تقلّدون، والتقليد لا يصنع الحضارة. أسأل نفسي أحيانا: لماذا في عهد "الممرّن"، وحتى تفهم الأجيال الحاضرة هذه العبارة، فإنّني أشرحها : لقد كنّا نحن المعلّمون الأوائل، بعد الاستقلال، يوظف على أساس ممرّن والممرّن في مصطلح وزارة التربية آن ذاك هو الذي لا يحمل شهادة تؤهله، ولهذا تجرى له مسابقة على أساسها يوظف، فيعطى لقب ممرّن (أي تحت التدريب والاختبار) قلت في تساؤلي هذا لماذا كان المستوى مرتفعا مع غياب الشهادة ثم انخفض المستوى بحضور الشهادة، ثم ماذا كان يحمل المتنبّي من شهادة وماذا كان يحمل الأئمة الأربعة وماذا كان يحمل سيبويه وغيره من شهادات. إنّني أريد للمستوى العلمي أن يكون مساويا للشهادة؛ بل أن يتفوق المستوى على الشهادة. في الغرب شهادة الدكتوراه هي بداية الطريق في البحث الاكتشاف وعندنا نحن الشعوب المغلوب على أمرها هي نهاية الطريق. نحن نتوقف حين يكون الأمر مدعاة للتحرك وهم لا يتوقفون أبدا عن البحث والدراسة والاختبار. كان أحد علمائنا في الزمن الذي ساد بعلمه ومعارفه العالم قد استوقف الزمن قد قال: (بعد أن ظهر له العديد من المؤلفات) الآن بدأت أتعلّم؛ لقد شعر هذا العالم الجليل أن حركة الزمن لا وقوف فيها، وأن المرء مطالب بأن يتحرك بحركة الزمن يستغل كل ساعة ودقيقة فيه، إن العالم الافتراضي هو مساحة من الوقت لمن لا وقت له؛ أما الذي يملأ الوقت بالاستزادة من المعرفة وبالانكباب على البحث وبالانتقال من قتل الوقت إلى إشاعة الحركة والحيوية والحياة فيه، ليسأل هؤلاء الذين يهدرون الساعات وحتى الأيام في ممارسة الأشغال بما يجدون في الهاتف النقال من تسلية وابتعاد عن الواقع الحقيقي وانشغال عن المحيط العائلي والاجتماعي، ليسألوا أنفسهم آخر كل أسبوع أو حتى آخر كل شهر ماذا اكتسبوا من معرفة وماذا حصّلوا من زاد علمي أو حتى ماذا استفادوا ستكون الإجابة بلا شك هي لا شيء، أو شيء زهيد يقترب من لا شيء. لنحسن استخدام وسائل التواصل بدلا من الإساءة في استخدامها، فالوقت يمرّ ولا ينتظر أحدا، ونفسك إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر، فلنعد النظر فيما فعلنا في أنفسنا ولنتطلع إلى ما نحن فاعلون؛ فإثبات الذات تثبت به وجودك أنت والإمعان في تقليد الآخرين دون وعي نثبت وجود غيرنا لكننا نفقد به وجودنا نحن.