كمال قرور كاتب وصحافي كمال قرور كاتب وصحافي: [email protected] ليس غريبا أن يبدأ محور موسكوواشنطن عامه الجديد بالتهاني والألعاب النارية السلمية، بينما يستهل محور طانجا جاكارتا عامه الجديد، الذي يصادف أغلى أعياده الدينية، بالتعازي والانفجارات والمجازر والسيارات المفخخة والمشانق البربرية أيضا. اننا نحصد ثمن دخول التاريخ خطأ... كان بإمكان هذه الأمة أن تدخل التاريخ الحديث والمعاصر بإرادتها وبثقافتها وقيمها، وتقدم مشروعا متكاملا لأبنائها ورسالة نبيلة للعالم، لكنها قدمت استقالتها عن الإبداع، ولم تستطع حتى الظهور على مسرح الحضارة. وظلت ترقد في ظل التاريخ الوسيط نومة أهل الكهف، مستسلمة للأحلام والأمجاد التليدة... حتى جاء الآخر ليقدمها للعالم بطريقته ووفق رؤيته. بعد أن قام بحفريات معرفية في تاريخها وموروثها وأعاد ترميم هيكلها وذاكرتها الجمعية ورعاها في مرحلة الولادة والنقاهة ثم مرحلة النهوض. ولهذا نحن موجودون اليوم بإرادة هذا الآخر، وبتصوره، وليس بإرادتنا وتصورنا. فبعد أن درسنا في مختبره وأجرى علينا التجارب الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والسياسية، أصبح يعرف سلوكنا وعاداتنا ويتحكم فيها، وبالتالي استطاع أن يصنع لنا وجودنا ومستقبلنا ومصيرنا... وبعد نهاية مرحلة الاستعمار وخيبات الاستقلال، تكفلت بنا أمريكا، بعد أن برعت في صناعة الالعاب الافتراضية، أرادت أن تجربها على الشعوب، فأدخلتنا مخبر التاريخ الافتراضي لتصنع لنا تاريخنا وأبطالنا ورموزنا ثم تقتلهم الواحد بعد الآخر بطرق بشعة على شاشة التلفزيون، ولم يبق لنا سوى هامش صغير لرد الفعل العاطفي الجيّاش غير العقلاني لنثبت بالصورة والصوت للرأي العام العالمي ما أراده لنا الماكرون. أننا أمة بربرية متخلفة تستحق السخرية والرجم والردم... لقد اتضحت معالم هذا التاريخ الافتراضي المعاصر، في حرب أفغانستان، التي انهكت روسيا وهدمت سور برلين لتوحد طرفي الغرب ليعود للحضارة الغربية توازنها وبريقها وتوهجها وسطوتها لتسمح لنفسها أن تمد رجليها مرة أخرى على العالم العربي لفرض حمايتها ووصايتها. القتل على المباشر: أصبح شيئا عاديا، ذبح أحد رموزنا الافتراضيين على المباشر وبالتفصيل الممل لقياس درجة انفعالنا وهمجيتنا. وجاء شنق صدام يوم العيد، مفزعا نوعا ما، ربما لأنه في اعتقادي أعاد للوعي الجمعي صورة اسماعيل الذبيح قبل أن يفديه ربّ السماء بذبح عظيم. فأفسد هذا السلوك المستهجن على الناس أكل لحم الخراف بشهية... هذا حال الذاكرة المفجوعة المبتلية بالنسيان... قبله قتل طفل بريء اسمه الدرّة، قيل إن الرصاصة كانت تتجول فأصابته خطأ، وقتل المجاهد الزرقاوي الذي لا نعرفه بعد أن ضاقت به مجازر بغداد وأخلط أوراق المقاومة الشريفة، وقتل الزعيم الثوري عرفات محاصرا على كرسي حكمه الذي اختاره لنفسه قبل أن يلفظ آخر أنفاسه على وسادة وثيرة في مستشفى الرؤساء بباريس. وكاد بلد أفغانستان يمحى بالقنابل الذكية والغبية من أجل رجل غامض كان يوما رجل المخابرات الأمريكية ثم أصبح فجأة عدو أمريكا في الظاهر وهو في السر وكيلها المعتمد وسفير نواياها السيئة لاستشعار العدو المفترض، اسمه إن لم تخني الذاكرة إبن لادن. الفرس قادمون... ليس غريبا، في زمن التاريخ الافتراضي، أن يحارب القوميون جميعا نيابة عن السيد الأمريكي والغربي إيران الاسلامية في حرب الخليج الاولى، تحت شعار زائف »القادسية« ويهدموا قدرتها الاقتصادية والعسكرية بعد نجاح ثورة الخميني... ولما كانت إيران تملك عالم الأفكار استطاعت أن تبني نفسها بسرعة وتستعيد قوتها وعافيتها مثل العنقاء، في حين كان القوميون متمسكين بعالم الأشياء فخسروا كل شيء وذهبت ريحهم بعد أن ربحوا معركة وهم يعرفون أن الحرب سجال... ماذنب إيران إن كانت لها رسالة تنويرية لإعادة المجد العباسي الذي سمح باختلاط الأعراق والأفكار وأعطى الفرصة للنبوغ والإبداع بعد أن نجحت الدولة الأموية في فتوحاتها العسكرية وعجزت عرقيتها عن إنجاب سوى نقائض الهجاء بين جرير والفرزق، كما عجزت القومية العربية الحديثة المفبركة تحت تأثير التنويم المغناطيسي، عن إيجاد مشروعها النهضوي الجاد غير التناحر بين قبائلها والتفاخر بينهما بما تراكم في خزائنها من عائدات النفط، ماذنب إيران إن أرادت أن تملأ الفراغ في الشام والحجاز وشمال افريقيا، وهي تراه امتدادا حضاريا طبيعيا ومجالا حيويا للسيطرة وتحصين نفسها...؟ وليس غريبا أن ينصب الفخ للزعيم القومي صدام في الكويت وهي صناعة الاستعمار الانجليزي فيتكتل أبناء العمومة مع البرّاني ضد أخيهم الطاغية، متناسين موروثهم القديم أنا وابن عمي على الغريب. وهنا يصبح السناريو الجديد جاهزا، احتلال بلاد الطاغية بعمالة وتواطؤ أبناء العم، ولما كان العروبيون الأمويون الجدد لا يحسنون سوى التآمر على بعضهم كان تنفيذ السيناريو أسهل... وكانت لهم الحرية المطلقة لاختيار العمالة والتواطؤ كل حسب براعته ومقدرته... مهزلة الكاريكاتير هل تذكرون حرب الكاريكاتير التي اندلعت في الدانمارك فأجّجت مشاعر المسلمين، يومها نظم الفارسيون الايرانيون أو الشيعة. كما يحلو للوهابيين أن ينعتوهم، مسابقة لرسم الهولوكوست لامتحان مدى صبر الغرب الصهيوني على حرية التعبير، فكانت فكرة عقلانية وصائبة وأصابت الآخر في الصميم، بينما اقترح السذج من إخواننا العروبين الأمويين الجدد، مقاطعة الجبن والزبدة والشوكولاتة الدانماركية وظلوا يستهلكون بديلها من البضائع الفرنسية والسوسرية والإيطالية والإمريكية، وكم كان الموقف مخزيا... هذه الجزئية والذرية في التفكير هي سبب خراب الدويلات القومية وتوقفها عن صنع تاريخها الحقيقي واستسلامها للآخر ليكتب لها تاريخها الافتراضي حسب تصوره وأهدافه. عندما اشتد حماس القوميين الأمويين الجدد لنصرة النبي محمد الذي أساء إليه الكاريكاريست الدانماركي، سلط الإعلام ضوءه عليهم لينتبه الرأي العام الغربي من غفوته إليهم، في الوقت نفسه، اشتعلت نار التعصب بين السنة والشيعة في العراق بتفجير أماكن العبادة والتعرض السافر للأشخاص والممتلكات، وأصبح السيد الامريكي وحلفاؤه محايدين في حرب لا تعنيهم، وأصبح العالم يشاهد اقتتال الاخوة بعد أن هيّأت الآلة الاعلامية الرأي العام الغربي، هؤلاء هم المسلمون الذين يتباكون على صور نبيّهم أنهم سلالة ابن لادن والظواهري وصدام وعرفات والشيخ ياسين... يريدون إبادة العالم ثم إبادة أنفسهم. ليس غريبا أن يشيع الخبر صباح العيد الدرامي، أن الشيخ الشاب مقتدى الصدر (المرجلة) أشرف بنفسه على إعدام صدام. والحقيقة، أن السيناريو المفبرك في هذه اللحظة الحاسمة المتأججة، يحاول جاهدا أن يصنع ذبيحة سنية للقوميين العرب، لتنقلب الآية ويتحول الهجوم التاريخي المعاكس، لاحقا، لمطالبة القوميين الأمويين الجدد برأس نجاد، مقابل رأس صدام كما ظل الشيعة لقرون طويلة يطلبون رأس الحسين من السنة. ولم يكن مقتدى سوى دمية في أيدي الأمريكان وظفوه لإتمام المهزلة، ليأتي دوره لاحقا. بعد سقوط بغداد، بمباركة وتواطؤ الأمويين الجدد، كان على العقل الفارسي المسلم أن يبارك هذا السقوط، وينصب الشرك للقوى الغربية والقوميين الذين لا يجتمعون إلا على لحم أحد أبناء عمومتهم. ليس مصادفة أن تبث الجزيرة هذه الأيام ومضة إشهارية سياحية محكمة الإخراج بموسيقى جميلة تنتهي بصوت يقول: هنا إيران. في هذه اللحظات الحاسمة، كشف الإيرانيون للعالم الغربي، بعد تحرش أمريكا بهم، أنهم وصلوا الى قلب الذرة بعقولهم ولن يتنازلوا عن حقهم في امتلاك السلاح النووي، مهما كلفهم الثمن، ثم صفعوا اسرائيل صفعة مؤلمة بيد حسن نصر الله في لبنان، لن تنساها أبدا، وكشفوا للعرب أنهم باستطاعتهم ان يلحقوا الأذى بعدوهم التاريخي وبسهولة، بعد أن هزمهم مجتمعين وعبث بشرفهم وبجيوشهم، وعليهم الاختيار شراكة مع حليف طبيعي، يشهد التاريخ أنه ساهم بعقله في ازدهار الحضارة العربية الاسلامية رغم نزعته الشعوبية ليصنعوا معا التاريخ الاسلامي الحقيقي من جديد ويحولوا وجهته أو يختاروا الاستسلام للتاريخ الافتراضي الذي يكتبه السيد الأمريكي وحلفاءه. حيث لم يكد نصرالله يحصد نصره ويجني ثماره وينفلت من بين أنامل صانع التاريخ الافتراضي، ويصبح رمزا حقيقيا، حتى فاجأه جمبلاط صاحب الميزاج المتقلب، لمن تهدي نصرك ياشيخ؟، وما كادت الحرب تهدأ حتى تحالف ضده أبناء جلدته، وكذا حكام الطوائف ومن ورائهم اسرائيل وأمريكا والحلفاء الصغار. وكانت اللحظة المستعجلة لشنق صدام، فرصة لمسح آثار التلاحم بين الشيعة والسنة لإعادة التاريخ المتمرد الى قمقم المخبر الافتراضي... وليس غريبا بعد هذه المعطيات أن يتحالف القوميون العرب، مستقبلا في زمن التاريخ الافتراضي، مع السيد الأمريكي وإسرائيل وحلفائهما الصغار لتأديب إيران وإدخالها بيت الطاعة تحت شعار الانتقام لصدام وللسنة في العراق... للأسف، اذا لم يستطع القوميون العرب الأمويون الجدد أن يتحالفوا مع إيران، حليفهم التاريخي والطبيعي، ليصلحوا ما أفسده التاريخ الافتراضي، فإنهم هم ونفطهم وقود أمريكا في حربها الحقيقية القادمة مع التنين الصيني...