البيروقراطية ما من مدير أو وزير أو أي مسؤول، معيناً كان أو منتخباً أو أدنى غفير.. إلاّ ويتكلم هذه الأيام عن مقت البيروقراطية، وضرورة إصلاح الخدمة العمومية.. وما من مواطن صغيرا كان أو كبيرا، وجيها كان عند قومه أو حقيرا، إلاّ ويسب البيروقراطية التي يعامله بها المدراء، ويلعن طريقة تسييرها.. وما من موظف رئيسا كان أو مرؤوسا لم يتلقى ردا على طلبه أو جُوبه بإجراء عطّل مصلحته، إلاّ وصب جام غضبه على زملائه الإداريين، ووصف طريقة تسييرهم بالبيروقراطية.. وكأن تجريم البيروقراطية أصبح "موضة" هذه الأيام، يتغنى بها المسؤول والإداري، ويتنفس بواسطتها المواطن الصعداء على حد سواء ؟!.. قد يقول قائل: من المنطقي أن يسبّ المواطن البيروقراطية، لأن مصالحه معطّلة وحقوقه مهضومة وأوقاته ضائعة، لكن من غير المنطقي أن يسبّها المسؤول والإداري لأنه هو من يمارسها، فلا يعقل أن يمارس معها " السب الذاتي" ؟!.. لكن الحقيقة على خلاف ذلك .. لأنه ينبغي على الإداري - الذي هو من شاكلة مسؤولينا - أن ينتقد البيروقراطية، وعلى المواطن - الذي هو من شاكلة مظلوميهم - أن يطالب بتطبيق البيروقراطية ؟!؟!.. فالبيروقراطية (bureaucratie) " حكم – المكتب" لمؤسسها ( max weber 1864-1920) تصف الإدارة باعتبارها جهازاً إدارياً مثالياً، يقوم على أساس التقسيم الاداري والعمل المكتبي، ويميز هذا النظام عدة خصائص أهمها: 1- التحديد القاطع للواجبات والمراكز: حيث تنفصل الأعمال تماما عن شاغليها، وبهذا يكتسب التنظيم حرية كبيرة في الاعتماد على أي فرد مهما كانت قدراته؛ 2- العلاقات الوظيفية بين المراكز لا بين شاغليها: وهو ما يجنب الإدارة الأهواء والأمزجة، وبالتالي التركيز على العوائد لا على العلاقات الإنسانية؛ 3- الاعتماد على معايير محددة في الأداء: بحيث يتفق فيها كل الأفراد وفق قواعد مكتوبة ومحددة تحديدا قاطعا، وتطبق بصفة ثابتة ومنتظمة على الجميع؛ 4- التخصص الوظيفي: بحيث يتم تولي المراكز والتعيين فيها وفق التخصصات الدقيقة للأفراد وكفاءاتهم، ويتم إعطاء الأولوية للتكوين والتدريب المستمر؛ 5- البناء الهرمي للسلطة: بحيث يتم توزيع السلطات بشكل رسمي يضمن رقابة المستويات العليا للمستويات الدنيا بطريقة هرمية؛ 6- الاعتماد على السجلات الرسمية: بحيث تأخذ جميع عمليات الاتصال وجميع قواعد وإجراءات العمل في المنظمة البيروقراطية شكلا رسميا مكتوبا، ضمن وثائق ومستندات؛ 7- احترام الوظيفة باعتبارها المهنة الرئيسية أي المسار المهني للفرد (carrière). هل تعارض أخي القارئ توفير هذه الخصائص في إداراتنا ؟!.. أنا متأكد أن أي مواطن شريف لا يعارض تطبيق هذه المبادئ !!.. وأجزم أن أي مسؤول أو إداري شريف يسعى لتكريسها ويتمسك بممارستها !!.. وفي المقابل: أنا متأكد تماما أن من لا يريد توفّر تلك الخصائص في إداراتنا؛ هو بالتأكيد: - يريد تداخلا بين الواجبات والمراكز؛ فيمكنه استغلال مركزه ونفوذه للتهرّب من واجباته؛ - يريد أن تكون هناك علاقة بين شاغلي المراكز؛ فيمكنه تكريس المحسوبية و"المعريفة" على حساب غيره؛ - ولا يريد الاعتماد على معايير محددة في الأداء؛ فيمكنه تسهيل الإجراءات على "الأحباب" وصدّ الآخرين بإجراءات تعجيزية؛ - ولا يريد اعتماد التخصص الوظيفي؛ لكي يعيّن ويولي المناصب من يشاء من شلته، ويحرم غيره حتى ولو كان من ذوي التخصص؛ - ولا يريد احترام البناء الهرمي للسلطة؛ لكي لا تطبَّق عليه رقابة صارمة في صرف النفقات العمومية وفي شفافية إجراءات التوظيف واستقبال المواطنين؛ - ولا يريد الاعتماد على السجلات الرسمية؛ لكي يمكنه رعاية مصالحه الشخصية بالهاتف دون أن يتورط كتابياً؛ - ولا يريد احترام الوظيفة باعتبارها المهنة الرئيسية؛ لأن له مقاولةً أو نشاطاً موازياً يدرّ عليه بالربح ويمكّن لأواصر نفوذه، ويستغل الإدارة أو المرفق الذي يشرف عليه لخدمة مقاولته، أو يقايض المنافع مع من يشرفون على مرافق أخرى.. إن ما نسميه كمواطنين "بيروقراطية" هو ما يسميه مختصو الإدارة "عيوب البيروقراطية" أو " الروتين الإداري" والذي أهم ما يميّزه: الجمود في الأوضاع والتعقيد في الاجراءات والتكدس الورقي واللامبالاة لدى الموظفين.. أما وقد تعرّفنا على خصائص البيروقراطية الحقّة، فإننا نخاطب كل مسؤولينا ومدراءنا باسم جموع الشعب: رجاء .. يرحم والديكم.. طبّقوا علينا وعليكم البيروقراطية ؟!!!.. (*) جامعة الجلفة