مررت بك يا غرداية، يا واحة الخير، ويا أرض الطهر منذ الأزل.. وجدتك حزينة مطرقة. أجواؤك الكئيبة آلمت قلبي، واعتصرت الآه مني، فصرختك المدوية تملأ أفق الجزائر كلها، بل أفق هذه الأمة؛ الممزقة الأشلاء، والتي يتقاتل أبناؤها في كل الربوع. آه.. ثم آه.. ألم نفقه قول الله تعالى "إنما المؤمنون إخوة" [الحجرات / 10] ؟ إنها أخوة الدين والعقيدة، التي تفوق في متانتها وقوتها كل أخوة .. ألم نقرأ قوله (صلى الله عليه وسلم) "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا إشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" [رواه مسلم]. أين نحن من الجسد الواحد؟ كان من المفترض بنا - كمسلمين- أن نغلب دائما جانب تماسكنا وترابطنا. وأن نرد كل المصالح الصغيرة التي قد تتراءى للبعض منا. لأن مصلحتنا الكبرى هي في وحدتنا ففي الوحدة قوة وغلبة وفي التفرق هزيمة للأمة وتقزم لها في نظر الآخر. وقد علمنا التاريخ درسا يجب ألا نغفل عنه وهو «أن الأمة متى تفرقت حرمت من نصر الله » (1). أولا .. إن الدارس للنسيج الاجتماعي لمدينة غرداية يلاحظ الانسجام العجيب والتعايش الجميل الذي يطبع سكان هذه المدينة الجميلة التي تتميز بتاريخها العريق وبتجارتها الزاخرة. ولعل هذا ما حز في نفوس بعض السفهاء، فحاولوا المرة تلو الأخرى تشويه هذه الصورة بإثارة الفتن والقلاقل. ثانيا .. يعد المذهب الإباضي من أعرق المذاهب الفقهية في الجزائر. حيث أنه كان المذهب السائد إبان عهد الرستميين (144ه -296 ه) وينسب هذا المذهب إلى الداعية عبد الله بن إباض المري التميمي. ومن أئمتها أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي العماني (21ه-93ه). الذي يعتبر المؤسس الفعلي للإباضية. وكان من أكبر علماء عصره. بالشريعة والفقه، متبحرا في أصول الفقه. تتلمذ على العديد من الصحابة (2) كان ابن عباس يمدح علمه فيقول « إسألوا جابر بن زيد فلو سأله من بالمشرق والمغرب لوسعهم علما»(3). قال عنه مالك (رضي الله عنه ) حين علم بموته «مات اليوم أعلم من في الأرض» (4) إضطهد الأمويون جابر بن زيد» (5). ولما توفي خلفه تلميذه أبو عبيدة مسلم على إمامة الإباضية. فسجنه الأمويون مع بعض علماء الإباضية، وهكذا اقتنع بأن المشرق مسيطر عليه من الأمويين الذين لا يسمحون للمذهب بالانتشار. لأنه ينادي بتطبيق تعاليم الإسلام المؤسسة على المساواة والعدل. وإتباع الشورى لاختيار الإمام (6) فبعث بأحد تلاميذه إلى المغرب هو سلمة بن سعد. وما إن وصل ابن سعد الى "سرت" حتى راح المذهب ينتشر بقوة بين القبائل البربرية التي كانت ساخطة على ولاة الأمويين والعباسيين (7) «وقد أعلن قيام الدولة الإباضية سنة 140ه ». إلا أن قدم الرسوخ و الاستقرار لم تكتمل بهذه الدولة حتى سنة 160 ه. حيث نجح عبد الرحمن بن رستم في تأسيس دولة قوية غنية ... ودويت سمعتها بالمشرق والمغرب والأندلس. وعرف في ظلها المغرب الأوسط (الجزائر) عشرات السنين من الاستقرار والأمن والازدهار (8) وقد إمتازت الحياة الفكرية بالدولة الرستمية بالتسامح المذهبي والديني. وكان فقهاء الإباضية يناضرون شيوخ المذاهب الأخرى، ويفسحون المجال لكل شيخ مذهب أن يدافع عن مذهبه (9) ولا يفوتنا أن نذكر أن إمارات إباضية كثيرة نشأت في تلك الحقبة التاريخية، إلا أن إمارة بني رستم بتيهرت كانت أشهر الإمارات الإباضية وأقواها تأثيرا على الحياة الاجتماعية والسياسية بتيهرت ونواحيها وأبعدها صيتا لدى جيرانها (10) وقد زحفت جيوش الشيعة الفاطميين سنة 296 هجري فاكتسحت المنطقة الرستمية وبذلك إنقرضت دولة الإباضيين بتيهرت. ثم هاجر الإباضيون إلى وادي ميزاب الأجدب هروبا بمذهبهم. فحفروا الآبار وبنوا ما يعرف بالمدن السبعة الرائعة العمارة، التي تذكرنا بعمارة تاهرت والدولة الرستمية الجزائرية » (11) وهذه المدن هي : العطف، بو نورة، غرداية، بني يزقن، مليكة، القرارة، بريان. وتطلق كلمة "ميزابي " اليوم على الإباضي « فالميزابي أو الإباضي كلمتان مترادفتان تعنيان مفهوما واحدا بالتناوب إصطلاحا وعرفا (12) كما تعد الإباضية طائفة من الخوارج، لكنها أكثر فرقهم اعتدالا، وأقربهم إلى الجماعة الإسلامية وأهل السنة. مما أتاح لهم سبيل البقاء والاستمرار. ويبرأ علماؤهم اليوم من نسبتهم للخوارج (13) ثالثا ... يقول المؤرخ "بيروني" «إحتار كل المؤرخين من سرعة تأثير العرب على البربر في ديانتهم وعاداتهم وأخلاقهم» ويعلل ذلك الشيخ مبارك الميلي «بصفاء الفطرة البربرية؛ والإسلام دين الفطرة، وبحب البربر للحرية، والإسلام يدعو إليها. وبحاجتهم إلى الرقي الاجتماعي، والإسلام أتى لتحقيق ذلك كله» (14) ومما لا شك فيه «أن البربر اعتنقوا الإسلام عن رغبة أصيلة فيه وعن حب لمبادئه و تعاليمه» (15) « ولم يفكروا يوما واحدا في رفض لغة العرب وديانتهم » (16) « وقد كانت لهم يد طولى في فتح الأندلس بقيادة طارق بن زياد البربري مثلهم. وكأن نشر الإسلام بها إنما هو خدمة بربرية خالصة للإسلام. »(17) ختاما ... نحن أبناء الجزائر ندرك أكثر من سوانا مدى تلاحم فئات المجتمع الجزائري وبكل أطيافه. فقد صهر التاريخ بأحداثه الجسام جذورنا. فكلنا واحد وكلمة "عربي " إنما تعني عندنا مفهوما واسعا هو "مسلم" وشعارنا دوما مقولة شيخنا وعالمنا الإمام "عبد الحميد بن باديس" عليه رحمة الله : « ما جمعته يد الرحمن لا تفرقه يد الشيطان». إن الدارس لتاريخ المغرب العربي الإسلامي يدرك مدى عظمة هؤلاء الآباء؛ عربا كانوا أو أمازيغا. وبالرغم مما قد نعانيه من إجحاف في حقهم نتذكر دائما حادثة تقسيم الغنائم في فتح مكة حين قالت الأنصار: إن هذا لهو العجب إن سيوفنا تقطر من دمائهم وإن غنائمنا ترد عليهم. فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فجمعهم فقال : ما الذي بلغني عنكم ؟ قالوا هو الذي بلغك – وكانوا لا يكذبون – قال : أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا إلى بيوتهم، وترجعون برسول الله إلى بيوتكم. لو سلك الناس واديا أو شعبا وسلكت الأنصار واديا أو شعبا، لسلكت وادي الأنصار أو شعب الأنصار. فكأني بك يا حبيبي يا رسول الله تقول لهؤلاء الآباء العظماء في مغربنا العربي الإسلامي الكبير : «أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا إلى بيوتهم، وترجعون برسول الله إلى بيوتكم ..» فيجيبون وقد أحنوا رؤوسهم تواضعا.. ونعم بالله . **ثانوية طهيري عبد الرحمن بالجلفة هوامش: 1) - واقعنا ومستقبلنا في ضوء الإسلام لوحيد الدين خان ص:104 بتصرف 2، 3، 4، 5، 6) الجزائر في التاريخ لعثمان سعدي ص :223 7) ص:224 /المصدر السابق 8) ص: 229/ نفس المصدر السابق 9) ص: 244/ نفس المصدر السابق 10) المغرب العربي تاريخه وثقافته / رابح بو نار ص: 34 11) الجزائر في التاريخ / ص: 243 12) العزابة ودورهم في المجتمع الإباضي / أ : صالح بن عمر أسماوي / ص: 566 (ح 3) 13) مرجع العلوم الإسلامية د محمد الزحيلي ص :369 14، 15، 16) رابح بونار ص: ( 23-24- 26 ) 17) نفس المصدر الأخير ص: 28 بتصرف طفيف