أخطأ الدكتور سعيد سعدي زعيم التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية «الأرسيدي»، مرة أخرى عندما اعتقد انه يملك العصا السحرية التي تمكنه من إحداث تغيير في المشهد السياسي واستغلال التذمر والإحتقان الذي عبرت عنه فئات عريضة من الشباب الغاضب في شكل احتجاجات عامة عرفتها البلاد قبل أسابيع قلائل مضت، لتحقيق مكاسب سياسية. سعدي إستفاق فجأة بعد سبات طويل وأراد أن يركب موجة الإحتجاجات بعد فوات الآوان، ورغم انه يدرك ان مسيرته لن يكتب لها النجاح، لا من حيث تجنيد المواطنين والشباب على وجه التحديد، ولا من ناحية السماح له بالتقدم ولو خطوة في المسيرة التي كان يفترض ان تنطلق من ساحة اول ماي في اتجاه البرلمان بساحة الشهداء، بعد ان أبلغ ولعدة مرات بالحظر المفروض على تنظيم هذا النوع من المسيرات في الجزائر العاصمة، ومع هذا، أصر على تحدي السلطات المحلية في محاولة يائسة لإسماع صوته عاليا وهو الصوت الذي ظل محصورا في مقر الحزب الرسمي بشارع ديدوش مراد بالعاصمة. حاول الأرسيدي عبثا ان يتقمص دور المدافع عن الديمقراطية ويلهب حماس الشارع الجزائري، الذي تحرك قبل اسابيع، لكن لا أحد من هذا الشارع تفاعل معه، وفشل في محاولة استنساخ الحالة التونسية، لأن الفروقات شاسعة ولا يمكن إسقاطها على النموذج المحلي او الساحة الوطنية عموما، نظرا لخصوصية وطبيعة المشهد السياسي في الجزائر الذي عرف تقلبات عديدة من أحداث أكتوبر 1988، التي شهدت ميلاد التعددية السياسية والإعلامية، وما أفرزته من تداعيات وانتكاسات ودمار وخراب، ولكن الأبرز من كل هذا وذاك تلك القطيعة السياسية بين المواطن والأحزاب السياسية عموما وأحزاب المعارضة على وجه التحديد. اللافت للإنتباه ان المشهد السياسي في الجزائر اليوم خال من اي حراك سياسي حقيقي، بعد أن فضلت أحزاب التحالف الثلاثي أي جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي وحركة حمس المحسوبة نظريا على التيار الإسلامي، التخندق في فلك السلطة لاعتبارات تكون قد فرضتها مرحلة إعادة بناء جزائر حديثة ومتطورة، أي إعطاء الجوانب التنموية والإقتصادية الاولوية على حساب الحراك السياسي والعمل الحزبي الذي لا يبرز إلا في المناسبات الإنتخابية أي مرة على الأقل كل 4 أو 5 سنوات. أما المعارضة السياسية، أو ما تبقى منها، فقد شهدت تراجعا واضمحلالا متواصلا، الى أن بلغت تقريبا العدم لأسباب موضوعية وأخرى تلقائية، فرضتها ظروفا خاصة ببعض الأحزاب نفسها، فأقدم حزب معارض، وهو جبهة القوى الاشتراكية، الذي كان يملأ الساحة السياسية صخبا وحراكا، ورغم ان بعض مواقفه كانت تبدو غريبة، إلا انه كان يمثل وبدون منازع رقما مهما في المعادلة السياسية، لكن بريقه انطفأ، وعانى ويلات الإنفسامات الداخلية التي أجهشت عليه بعد ان فضل زعيمه وأحد رموز الثورة الإبتعاد عن النضال المباشر. تجربة التعددية السياسية في الجزائر انطلقت بأخطاء منهجية وسيطر عليها التيار الإسلامي الذي كان يفتقد الى الذكاء السياسي مقابل لهث وتعطش على السلطة كان من أهم نتائجها، نزيف من الدماء لم يتوقف طيلة عشرية كاملة، وتراجع نفوذ لطالما شكل شعبية عريضة للحزب المنحل، بلغت في الوقت الراهن ادنى مستوى لها، بدليل ان محاولات أحد القياديين السابقين لجبهة الإنقاذ المنحلة ركوب موجة احتجاجات الشباب الأخيرة لم تلق أي ترحييب، بل طرد منها، نفس الأمر تقريبا وجدته دعوات الزعيم السابق للفيس من منفاه الإختياري في الدوحة، بقطر، لتأجيج الوضع الداخلي، لكنها لم تجد آذانا صاغية لتلتقطها، وذهبت ادراج الرياح، وكأنها لم تكن. ما تبقى من المعارضة السياسية المناسباتية يجد في الوقت الراهن صعوبة كبيرة في العودة الى الساحة السياسية، لانه لا يبادر الى صنع الحدث ولا يجيد سوى لعبة الإنسياق وراء الشارع وركوب الموجة، لعله يستعيد جزء من المكانة التي كان يحتلها في وقت سابق، بعد ان لعب على جميع الأوتار الأخرى، في الصالونات والسفارات وحتى في بعض الدول الغربية، فأي حزب هذا الذي ينتظر تفاعل الشارع ليتحرك، عوض ان يأخذ المبادرة ويؤثر هو في الشارع الذي ادار له ظهره ولم يعره اي اهتمام.