لما إعتلى الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” سدّة الحكم، قرّر الشروع في تنفيذ وعوده الانتخابية، وفي مقدمتها التخلص من الإرث الثقيل الذي تركه سلفه “بوش” وأول خطوة عمل على تحقيقها هو إقرار إتفاقية لسحب القوات الأمريكية من العراق وإسدال الستار على غزو مكّن من خلاله إحتلال بلاد الرافدين طيلة ثمانية أعوام كاملة.. الاتفاقية الأمنية أبقت الباب مفتوحا لبقاء القوات الأمريكية وقد وقعت إدارة أوباما وحكومة العراق الفتية سنة 2008 اتفاقية أمنية تقضي بسحب الجنود الأمريكيين البالغ عددهم 43 ألف بنهاية العام الحالي 2011، وتركت (الاتفاقية) الباب مفتوحا لإمكانية إبقاء بعض القوات وربطتها باتفاق جديد يوقعه الجانبان. ولما بدأت مرحلة العد العكسي لنهاية الوجود العسكري الأمريكي بالعراق، رأى العراقيون والأمريكيون على حد سواء ضرورة إبقاء بضعة الآلاف من قوات “اليانكي” لتتولى مهمة تدريب القوات العراقية وتزويدها بالخبرات التي تمكنها من مواجهة تحديات مرحلة ما بعد الاحتلال ورهانات المسؤؤلية الأمنية في بلد مازال يعج بالتفجيرات والاغتيالات اليومية. مبررات واهية لبقاء المحتل لقد حسم العراقيون في الصائفة الماضية أمرهم، وتوصلوا إلى قناعة مفادها إبقاء ما أطلقوا عليها بعثة تدريب مؤلفة من بضعة آلاف من الجنود الأمريكيين وقد حدّد البعض عددها ما بين ثلاثة آلاف وخمسة آلاف جندي. وإذا كانت القناعة العراقية لا تطرح أي إشكال لدى الساسة العراقيين، بل وتحظى بإجماع واسع، فإن الإشكال الذي طرحته ولازالت مسألة إبقاء بعض الآلاف من القوات الأمريكية، هو إشتراط الطرف الأمريكي وإصراره على أن تتمتع القوات المتبقية في العراق بالحصانة والحماية القانوية من أي ملاحقة قضائية، وأن تقدم في حال إرتكاب أي جرم للمحاكمة أمام النظام القضائي الأمريكي، والكل يتذكر كيف أن جنود الاحتلال الأمريكي كانوا يتملصون من أي إدانة أو عقاب، رغم أن بعضهم أباد عائلات عراقية بكاملها، وكيف أن شركات الأمن وعلى رأسها “بلاك ووتر” إرتكبت فضائع لا يتصورها عقل ضد المدنيين العراقيين دون أن يحاسبها أحد. لقد رفض جلّ العراقيين الشرط الأمريكي وهدّد الصدريون باستئناف القتال ضد الجنود الأمريكيين في حال الرضوخ له، لكن رغم هذا الرفض فإن الكثير من المراقبين السياسيين يعتقدون بأن العراقيين مجبرون على تلبية المطلب الأمريكي، لأنهم في موقف ضعف وبأمس الحاجة للمساعدة العسكرية الأمريكية، فأمامهم رهانات صعبة سواء تعلق الأمر بتحقيق الأمن الداخلي أو حماية الأجواء والمياه والحدود العراقية من أي خطر خارجي محتمل. شرط الحصانة يرهن السيادة والحرية يتوقف الكثير من المراقبين السياسيين عند هذا الإشكال ويتساءلوان إذا لم يكن بالإمكان تجاوزه بالإعتماد على قوات تدريب غير أمريكية، فباعتقاد هؤلاء أن جميع الدول تعتمد على بعثات تدريب أجنبية دون أن تمنحها الحصانة، والعراق ما قبل الاحتلال كان يعتمد على مدربين أجانب قادمين من هنا وهناك، ويخضعهم لولايته القانوية، دون أن يثير ذلك أي مشكل فلماذا كما يضيف هؤلاء المراقبون لايلجأ العراق إلى مدربين من دول لا تضع شرط الحصانة الذي يرهن سيادة العراق ولا يحفظ حقوق العراقيين في حال تعرضهم إلى أي إساءة، ويطلق العنان ليد “اليانكي” لإرتكاب ما يريدون من جرائم دون أن يطالهم القانون؟؟ ويردف هؤلاء أسئلتهم بسؤال أكثر إحراجا، وهو كيف يمكن للعراق أن يستيعد حريته وسيادته وهو يتمسك ببقاء قوات من الاحتلال دون إخضاعها لولايته القانونية..؟ لكن رغم أن عموم العراقيين يعارضون شرط الحصانة الذي يلوح به الأمريكان، فإنهم بالمقابل يفضلون الاعتماد على القوات الأمريكية بمبرّر خبرتها التي اكتسبتها طول سنوات الاحتلال الثمانية، لتدريب القوات العراقية وتحضيرها لتولي المسؤولية الأمنية. نهاية مهمة وبداية أخرى وبين الرغبة العراقية والشرط الأمريكي يشكّك كثيرون في أمر بعثة التدريب، ويجزمون بأن الاحتلال سيضمن من خلالها بقاءه في العراق ويعتقد هؤلاء بأن أمريكا لم تحتل بلاد الرافدين لتخرج منه، فهي ستبقى فيه بمبررات مختلفة، اليوم بمبرّر التدريب، وغدا بمبرّر إعادة البناء، وفي اليوم الموالي بذريعة المساعدة العسكرية والهدف في كل الأحوال هو الإبقاء على العراق تحت قبضتها تستأثر بثرواته وأمواله التي هي بأمسّ الحاجة إليها، بعدما أصابها من أزمات مالية واقتصادية خانقة. ويبدو جليا من كل ما سبق أن الانسحاب الأمريكي من العراق، لن يكتمل نهاية هذه السنة كما تضمنته الاتفاقية الأمنية ولن يكون بعد سنين، مادام أن آلاف الجنود الأمريكيين سيبقون بالعراق دون تحديد مدة مهمتهم وبقائهم، ومادام أن جيشا من الديبلوماسيين والموظفين المدنيين سيحل ببلاد الرافدين ليشكل دولة داخل دولة تقودهم وزارة الخارجية الأمريكية التي تسابق الزمن لتسلم المهمة من العراق من البنتاغون.. جيش يرحل وآخر يحل كتبت صحيفة “واشنطن بوست” قبل أسابيع تقول “إن خطة الولاياتالمتحدةالأمريكية في العراق تنص على ضخ 16 ألف موظف مدني تابع لوزارة الخارجية في أكبر عملية مدنية منذ خطة مارشال نفذت في أعقاب الحرب العالمية الثانية والتي اضطلعت بمهمة إعادة إعمار أوروبا”. وسيتبع هذا “الجيش” من الموظفين السفير الأمريكي بالعراق لتكون سفارته الأكبر في العالم بأسره. وإذا كان المراقبون يبدون مخاوفهم من عدم استطاعة وزارة “هيلاري كلينتون” السيطرة على هذا الرقم الضخم الذي يتكون 80 ٪ منه من متعاقدين ويحذرون من عدم قدرتها على توفير الحماية لهم، فإن المخاوف الحقيقية يجب أن يبديها العراقيون أنفسهم عن الهدف الحقيقي الكامن وراء نشر هذا “الجيش” الضخم من الموظفين الذين يحتاجون هم بدورهم إلى جيش من القوات المسلحة لحراستهم وضمان أمن سفارتهم وقنصلياتهم والمواقع الأخرى حيث سينتشرون.. وضمن هذا السياق قالت صحيفة “واشنطن بوست” أن مهمة وزارة الخارجية تتطلب تعاقد قوة أمنية قوامها خمسة آلاف عنصر لحماية السفارة في بغداد وقنصليتين إحداهما بالبصرة ومواقع أمريكية عديدة منها المنتشرة ببعض المطارات العراقية، وطبعا سيكون لشركة “بلاك ووتر” سيئة السمعة، والتي غيرت اسمها لتتملص من أي محاسبة حصة الأسد في هذه القوة. كما ستستخدم وزارة الخارجية الأمريكية طائرات ومستفشيات خاصة بها وستقوم بأعمال أخرى كانت قوات الاحتلال العسكرية تقوم بها. وسينشر حسب الصحيفة الأمريكية بالعراق 4600 متعاقد مدني، معظمهم من غير الأمريكيين سيزودون الطاقم الأمريكي في بلاد الرافدين بخدمات الطبخ والتنظيف والرعاية الصحية وخدمات أخرى. وأوضحت الصحيفة: أن خطة وزارة الخارجية الأمريكية كانت أوسع وأشمل، لكنها فشلت في الحصول على التمويل اللازم من الكونغرس”. وبعد كل هذه الأرقام والمعطيات والمخططات، من يقول بأن أمريكيا ستنهي احتلالها للعراق نهاية هذاالعام..؟