بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” إنهاء “فسحة” قواته الطويلة في بلاد الرافدين، والتي تجاوزت الثمانية أشهر، بدأت التساؤلات تهطل من هنا وهناك عن التحديات التي يترقبها العراق وشعبه، والتي يبدو بأنها ستكون صعبة وتشكل امتحانا مصيريا لتماسك وقوة النظام الذي نشأ في ظل الاحتلال، وأيضا رهانا لقدرته على سد ّ الفراغ الذي ستتركه قوات هذا الاحتلال من جهة، وتحقيق متطلبات الشعب الاجتماعية والاقتصادية والأمنية على وجه الخصوص. أخيرا ، قرّر “أوباما” وضع نقطة النهاية على كذبة “بوش” الكبرى التي بنى عليها نزوته في احتلال العراق تحت ذريعة سلاح الدمار الشامل، وبدأ العراقيون مرحلة العدّ العكسي لاستعادة السيادة والحرية مع نهاية هذه السنة. ورغم أن الانسحاب الأمريكي يشكل حدثا تاريخيا طال انتظاره، إلاّ أنّه من ناحية ثانية يحمل الكثير من التحديات، الأمر الذي يضع العراق والعراقيين وقيادتهم في مواجهة مرحلة لا يمكن وصفها إلاّ بالصعبة والحساسة والمصيرية. إنهاء العنف...التحدي الأكبر لعلّ من أكبر التحديات التي تواجه العراق ما بعد الانسحاب الأمريكي، هو مواجهة العنف الذي ازداد حدة في الأشهر الأخيرة، ما يعني أنّ مهمة إقرار الأمن لن تكون سهلة، بل ومن المراقبين السياسيين من يخشى انتكاسة أمنية حقيقية، على اعتبار أن الجيش والأمن العراقيين غير جاهزين لسد الفراغ الذي ستتركه قوات الاحتلال. إن المواقف التشاؤمية بخصوص المسألة الأمنية لا تطلق جزافا ولا تنطلق من تخوفات مبالغ فيها، بل تستند إلى أرقام وحقائق وشواهد تؤكد بأن العنف يزداد حدة منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي تاريخ سحب قواته من العراق. وفي آخر حصيلة أمنية، أوردت الحكومة العراقية بأن شهر أكتوبر المنصرم شهد موجة عنف كبيرة حصدت 161 مدنيا، وهو أكبر عدد من القتلى في شهر واحد خلال هذا العام، بينما شهد شهر سبتمبر ثاني أكبر عدد من القتلى. وما يميّز أعمال العنف الأخيرة أنها تستهدف قوات الشرطة والجيش، حيث لقي 55 شرطيا و42 جنديا مصرعهم على أيدي جماعات مسلحة. وهذا الاستهداف يرمي إلى زرع الخوف والشك في نفوسهم ومن خلالهم في نفوس الشعب، الذي سيتساءل كيف بإمكان هذه القوات أن تحميه وهي عاجزة عن حماية نفسها. وحسب حصيلة الحكومة، فإنّ التفجيرات ومحاولات الاغتيال خلّفت أيضا إصابة 125 مدنيا، و142 شرطيا و101 جنديا، في حين لقي 85 مسلّحا مصرعهم. وفي خضم هذا التصعيد، وبالنظر إلى عدم جاهزية القوات العراقية لإستلام المهام الأمنية، فإنّ بقاء جزء من القوات الأمريكية لقد ريب وتأهيل القوات العراقية سيكون أمرا حتميا. ولن نستبعد أن يخضع العراقيون لشرط الحصانة الذي تضعه أمريكا لإبقاء هذا الجزء من قواتها، والمكوّن من عدة آلاف، الأمر الذي يضع مسألة الاعتاق من الاحتلال واستعادة السيادة على المحك، خاصة إذا أضفنا حتمية اعتماد العراقيين على المساعدة العسكرية الأمريكية لمواجهة أي إعتداء خارجي بالنظر إلى عدم تأهيل قوات العراق البثة للقيام بهذه المهمة. سكين الطائفية وسيف التقسيم من أكبر الويلات التي جلبها الاحتلال الأمريكي للعراق، هو نسف وحدة شعبه وغرس أشواك الطائفية بين جنباته، حتى باتت الطائفية مكملة للعنف، وفي كثير من الأحيان دافعة له ومع استعادة الحرية، فإنّ الشعب العراقي وقيادته، ملزمان بمواجهة هذه الآفة وتجاوز الخلافات والاختلافات المذهبية والعرقية لاستعادة اللحمة وسدّ أيّ منفذ يمكن لأي طرف خارجي أن يتغلغل عبره. والتحدي كما نرى ليس سهلا أو بسيطا، خاصة وأننا كمتتبعين للشأن العراقي نقف في الفترة الأخيرة على أصوات عديدة تريد إقرار نظام الفيدرالية، وأخرى تدعو لإعلان الأقاليم على أسس طائفية بحثة، بل وهناك من المحافظات من أعلنت نفسها إقليميا كمحافظة صلاح الدين، وأخرى تستعد لذلك. كما طرح الرئيس جلال طالباني نفسه مشروع حدود المحافظات، الذي يعني ترسيم الحدود بين الأقاليم، وهي الخطوة التي استنكرها الكثير من العراقيين، كونها كما قالوا تستغل أزمة في غير أوانها وسط أزمات لا تعد ولا تحصى، وتهدّد الوحدة الوطنية. ومشروع طالباني يخفي كما يقول المراقبون رغبة الأكراد في ضم المناطق المتنازع عليها ككركوك الغنية بالنفط، وديالي ونينوى إلى إقليم كردسان المستقل، لكن هذا الضخ سيثير حتما نقمة العرب والتركمان في هذه المحافظا،ت الأمر الذي سيخلق أجواء من التوتر والتصعيد في بلاد مازال الوضع بها قابل للالتهاب، ويكفي فقط إشعال عود ثقاب. والحديث عن الخطر الطائفي يجرّنا حتما للحديث عن الخوف من توتر كردي عربي في المناطق المتنازع عليها، والتي وقع بعضها رسميا تحت سيطرة الأكراد الذين يرغب بعضهم في بقاء الاحتلال بالنظر إلى خوفهم من فقدان ما ربحوه في عهده، إذ حصلوا على ما يشبه الدولة بكل مقوماتها. تصفية الحسابات يقوّض جهود المصالحة يخشى الكثير من العراقيين أن يتحول وقت انسحاب القوات الأمريكية لوقت انتقام وتصفية حسابات أو تهميش، وإقصاء وإشارة نزاعات، بل وهناك من لا يتردد في التصريح بتفضيله بقاء الاحتلال خوفا مما يمكن أن يحمله المستقبل. والواقع أن هذه الخشية لم تأت من العدم، وإنما فرضتها موجهة الاعتقالات التي تطول أعضاء حزب البعث المنحل بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم واثارة الفوضى. وقد أعلن رئيس الوزراء العراقي “نوري المالكي” نهاية الشهر الماضي اعتقال 615 من أعضاء حزب البعث بتهمة إعادة تنظيم الحزب والتخطيط لقلب النظام وإثارة الفوضى لإسقاط العملية السياسية بعد انسحاب القوات الأمريكية. وأورد بأن حزب البعث متورط بقضيتين أولها، إعادة التنظيم وهو ممنوع ومحظور، والثانية التخطيط لقلب نظام الحكم، وأضاف أن اعتقال أعداد كبيرة من البعثيين وعناصر جيش صدام خلال ساعات قليلة كان رسالة واضحة للبعث. وكانت الداخلية العراقية أعلنت في 27 أكتوبر الماضي اعتقال أكثر من 500 عنصر من البعث المنحل خلال أيام في بغداد وصلاح الدين وديالي والديوانية وواسط ونينوى. وقالت بأن هذا العدد يشكل نحو 75 ٪ من المطلوبين بقضايا إرهابية، وبأن التحقيقات كشفت عن وجود ترابط بين البعث والقاعدة. اعتقال البعثيين...أبعاد خطيرة لقد أثارت حملة الاعتقالات هذه ردود فعل منددة ومطالبة بوقفها وإطلاق سراح المعتقلين، على اعتبار أنها غير قانونية والموقوفين لا يمارسون أي نشاط سياسي. وهناك من وصف استهداف عناصر النظام السابق سواء المنتمين للبعث أو الجيش المنحلين بأنه “إرهاب حكومي” منظم لا يخدم المصالحة ولا إعادة الوحدة والاستقرار للعراق، وقال بأن عمليات الاعتقال تستهدف السنة دون غيرهم، كما يستهدفهم الإقصاء والتهميش في ظل حكم الشيعة. كما وقف بعض المراقبين بالمقابل عند نقطة هامة، وهي الخوف من أن يستغل البعض الانسحاب الأمريكي للانتقام من أتباع الاحتلال، ومن الذين أحكموا قبضتهم على السلطة في عهده. إعادة البناء الانسحاب بقدر ما يعدّ اختبارا حقيقيا لتماسك النظام العراقي، فهو يشكل تحديا لإعادة بناء ما دمّرته سنوات الاحتلال الثمانية، سواء اقتصاديا أو خدماتيا. والمهمة لا تبدو سهلة بالمرة، بل هي في غاية الصعوبة، وعلى أمريكا أن لا تفرّ بجلدها كما قالت إحدى الإعلاميات العراقيات، بل عليها مثلما دمرت أن تعيد البناء وتعوّض العراقيين عما اقترفته في حقهم من مآسي وجرائم، حتى وإن كانت أموال الدنيا كلها لن تعيد آلاف الضحايا، ولن تداوى الجراح التي مسّت كل أبناء بلاد الرافدين. وسوف لن يستعيد العراق أمنه واستقراره بدون نهضة اقتصادية واجتماعية، كما أنه لن يستطيع تحقيق هذه الغاية دون دعم عربي أو من دول الجوار الأخرى، والتي لا أوافق من يتخوّف من احتمال تدخلها في العراق، وأعتقد على العكس تماما بأن دولة مثل إيران بإمكانها مساعدة العراق إذا عرفت السلطات العراقية كيف تدير هذه المساعد وتصون استقلاليتها وهيبتها. وفي الأخير، يجب الاشارة إلى أن التحديات التي تنتظر العراق مع مطلع العام القادم كبيرة، والمهمة ستكون شاقة أمام المسؤولين العراقيين، لكن بالامكان تسهيلها وتجاوز جميع الصعاب من خلال إسقاط كل الخلافات والصراعات الحزبية والمذهبية، وحتى الشخصية وتنقية الأجواء والابتعاد عن إثارة النزاعات وتصفية الحسابات من أجل إعادة اللحمة بين أبناء الشعب الواحد، وإقرار المصالحة الحقيقية للانتقال إلى رسم استراتيجية لإعادة بناء العراق بسواعد جميع أبنائه دون إقصاء أو تهميش لهذا الطرف أو ذاك.