بعد عقد من الحرب في أفغانستان والتي ينعتها البعض بأطول حروب أمريكا، أعلن الرئيس »باراك أوباما« قبل أسبوع خطّة التخفيف التدريجي لقوّاته هناك بدءا من شهر جويلية القادم. وتقضي الخطّة التي أثارت ردود فعل متباينة، بسحب عشرة آلاف جندي أمريكي اعتبارا من الشهر القادم، على أن يصل العدد إلى 33 ألف جندي بحلول صيف 2012، لتكتمل عملية الانسحاب عام 2014، وتسلّم المسؤولية الأمنية إلى القوات الأفغانية. ومع إعلان »أوباما« لهذه الخطّة، بدأت التساؤلات تطرح هنا وهناك عن الأسباب الكامنة وراء قرار الإدارة الأمريكية الشروع في سحب قواتها من أفغانستان، بعد أن عزّزتها السنة الماضية فقط بنحو ثلاثين ألف جندي، فهل أكملت أمريكا مهمّتها في أفغانستان ونجحت في تحقيق هدفها المنشود وهو القضاء على طالبان؟ وإقامة نظام ديمقراطي قادر على إقرار الأمن والحفاظ عليه كما وعد »بوش« ذات مرة قبل عشر سنوات..؟ وهل أصبحت قوات الجيش والشرطة الأفغانيتين قادرتين على تولي المسؤولية الأمنية في دولة تنام على العنف وتستيقظ عليه..؟ ثم وهو الأهم هل فعلا أمريكا عازمة على الانسحاب الكامل أم أنها ستحافظ على وجودها هناك..؟ وفي حالة انسحابها الكامل هل ستستعيد أفغانستان استقرارها وأمنها..؟ مبررات للفرار من الفخ الأفغاني لم يُخْفَ الرئيس الأمريكي الأسمر باراك أوباما خلال حملته الانتخابية معارضته للحروب »الدونكيشوتية« التي أعلنها بوش باسم مكافحة الإرهاب، ووعد بأنه سيعمل على إطفائها وعلى سحب قوات بلاده من العراق وأفغانستان. ولمّا اعتلى مقاليد السلطة في البيت الأبيض، سطّر استراتيجية الخفض التدريجي لهذه القوات، وقد شرع في تنفيذها بالعراق، وها هو اليوم يضع رزنامة لإنهاء احتلال أفغانستان قاهرة الامبراطوريات. وإذا كان »أوباما« يبرّر قرار الانسحاب هذا بتمكّن قوات بلاده مرفوقة بقوات أجنبية عديدة بعد عشر سنوات من الحرب من إضعاف طلبات وتطوير قدرات القوات الأفغانية، بحيث أصبحت جاهزة لتولي مسؤولياتها الأمنية، وأيضا بعزم أمريكا على الانضمام إلى مبادرات تهدف لتحقيق المصالحة بين فئات الشعب الأفغاني بما في ذلك حركة طالبان، أي الجنوح نحو الخيار السلمي والابتعاد عن الخيار العسكري، فإن أطرافا عديدة تشكّك ليس فقط في الدوافع الحقيقية وراء ما تسمّيه قرارا أمريكيا دون اكتمال المهمّة، بل وفي الانسحاب بشكل عام، إذ تجزم بأن الاحتلال سيحافظ على بقائه في أفغانستان بشكل أو بآخر. وتسوق هذه الأطراف مجموعة أسباب تعتبرها الدوافع الحقيقية وراء بداية القرار الأمريكي من الفخ الأفغاني، وتقول بأن خطّة الانسحاب مرتبطة في الأساس بالوضع الأمريكي الداخلي، أي أنّ خلفياتها تتعلّق بالانتخابات الرئاسية التي ستجرى العام القادم، والقصد منها تحسين صورة أوباما لتمكينه من الفوز بولاية ثانية. كما يأتي الانسحاب تلبية لرغبة الشعب الأمريكي، الذي ترفض أغلبيته هذه الحرب ولا تعتبرها قضيتها الأولى، فكل ما يهمّها هو المصاعب الاقتصادية التي تواجهها أمريكا وكيفية مواجهتها. وقد أبدت غالبية الأمريكيين في العديد من المناسبات رفضها لاستمرار هذه الحرب الاستنزافية، التي كلّفت أمريكا خسائر مادية كبيرة، حيث تصل كلفتها المالية يوميا إلى نحو 300 مليون دولار. وقد أوردت صحيفة »واشنطن بوست« في 31 ماي الماضي أن الجيش الأمريكي بصدد إنفاق 113 مليار دولار على العمليات التي يشنّها في أفغانستان خلال هذا العام المالي، ويسعى للحصول على 107 مليار دولار للعام المالي التالي. وهذا المبلغ كما تضيف الصحيفة مرتفع جدا، خاصة مع الأخذ من الاعتبار العجز الفدرالي الكبير الذي يتطلّب المزيد من التخفيضات في البرامج الداخلية، وزيادة العجز في الإنفاق، وأيضا عدم قدرة الناتج المحلي الإجمالي السنوي الأفغاني على تغطية نفقات الحرب. اقتناع تام باستحالة النصر الاستنزاف المالي الذي تشكّله حرب أفغانستان كان سببا قويا لرفض الأمريكيين استمرارها، وبالتالي دافعا قويا لقرار »أوباما« الشروع في سحب قوات بلاده، لكن هذا القرار دوافع أخرى غير معلنة، أهمها وصول أمريكا إلى الاقتناع التام باستحالة النصر في أفغانستان، وقد قالها قائد القوات الأمريكية هناك الجنرال »ديفيد بترايوس« صراحة: »لم نخسر ولكننا لم نكسب«. وقد برهنت ضربات طالبان بأن الوقت مازال بعيدا قبل أن يعلن الاحتلال تفوقه. وكتبت صحيفة »دايلي تلغراف« البريطانية استنادا إلى قادة عسكريين: أن طالبان تستعيد مجدها وقوتها، وأن حالها أقوى ممّا كانت عليه عندما أطيح بها وأبعدت عن السلطة عام 2001، بل وهناك مناطق انسحبت منها القوات المحتلة آلت إلى طالبان. ومن دوافع الانسحاب غير المعنلة أيضا، اقتناع الاحتلال الأمريكي بإستحالة تمكّنه من ترويض الشعب الأفغاني، الذي يرفض وجوده جملة وتفصيلا، ويتمسّك بمحاربته وخروجه. لهذا قررت القوات الأمريكية الفرار بجلدها، خاصة وأن الكلفة البشرية لهذه الحرب باهظة، ولم يعد أحد يطيقها، ففي العام المنصرم مثلا قُتِل ما لا يقل عن 711 جنديا أمريكيا مقابل 521 جنديا عام 2009.
مقتل بن لادن وعلاقته بالانسحاب ربط البعض قرار الانسحاب من أفغانستان بمقتل زعيم القاعدة أسامة بن لادن، وقالوا بأن تصفيته شكّلت أكبر انتصار على الإرهاب، الأمر الذي خفّف شعور الخوف الذي كان يعتري الأمريكيين من إمكانية انتقام القاعدة في بلادهم، وسهّل على القاعدة الشروع في تنفيذ خطة الخروج التدريجي، خاصة وأنهم أصبحوا مقتنعين كما أوردوا بأن القوات الإرهابية الدولية وبعد مقتل زعيمها فضّلت الابتعاد عن أفغانستان. لكن في المقابل هناك من ينفى أن يكون لمقتل زعيم القاعدة أيّ علاقة باستراتيجية الانسحاب، لأنها وضعت العام الماضي وحدّدت عام 2014 لسحب القوات الأجنبية من أفغانستان، والتي يقدّر عددها بنحو 140 ألف، 98 ألف منها قوات أمريكية. طالبان ترفض الترويض وتتمسّك بالسّلاح بعيدا عن أسباب الانسحاب التدريجي والتي سيبقى الكثير منها في خانة »سري للغاية«، يقف الكثير من المراقبين عند موقف طالبان باعتبارها الرقم الصعب في معادلة الحل والربط بأفغانستان. وباستثناء بعض الأصوات الشاذة فيها، والتي تعتبر بأن بدء انسحاب القوات الأجنبية يشكّل فرصة للحركة الموسومة بممارسة الإرهاب لدخول العملية السياسية والاندماج في المجتمع، والإقرار باستحالة الحل العسكري، فإن الأغلبية المطلقة في حركة طالبان والموالين لها، يتمسّكون بخيار القتال ضد قوات الاحتلال حتى خروجها النهائي، ويشكّكون في مصدقية الانسحاب، ويعتبرونه مجرد مراوغة لا أكثر ولا أقل، على اعتبار أن أمريكا ستبقي على عدد من قواتها وقواعدها التي غرستها في أفغانستان منذ احتلاله في أكتوبر 2001. كما تؤمن طالبان بأنها المنتصر حتى الآن في هذه الحرب، والدليل أن أمريكا أعلنت رزنامة انسحابها، وهي لا تريد كما قالت تضييع نصرها. الانسحاب أكبر كذبة من جملة ما أورده »أوباما« عند إعلانه خطة الانسحاب، أن أعدادا من قواته ستبقى في أفغانستان للإسهام في دعم القوات الأفغانية. وإبقاء هذه القوات طرح لدى الكثيرين شكوك في نزاهة القرار الأمريكي، واعتبرها البعض مجرد كذبة لأن الإدارة الأمريكية تريد فقط أن تتجرّد من حمل المسؤولية الأمنية وتلقيها على ظهر القوات الافغانية، التي يصل تعدادها إلى 300 ألف عنصر، والتي لم تكتمل عملية بنائها وتكوينها. وبالمقابل، فهي لا تريد المغادرة النهائية، بل ستبقي على قواعد دائمة تحت مظلة الاتفاقية الإستراتيجية التي يتم الإعداد لها بين كابولوواشنطن. وقد قال »بترايوس« صراحة، أنه من المرجح أن تمتدّ المشاركة الأمريكية في أفغانستان إلى أبعد من الفترة التي حدّدتها أمريكا وهي 2014 لنقل الدور القيادي إلى القوات الأفغانية. وأورد البعض أن »قرضاي« طلب مؤخرا من أمريكا تزويده بمعدات عسكرية متقدمة مقابل الموافقة على قواعد عسكرية أمريكية دائمة في أفغانستان، ضاربا عرض الحائط بالرفض الشعبي وبارتياب دول الجوار. وفي الآونة الأخيرة، بذلت أمريكا جهودا كبيرة لضمان بقائها، حيث قامت مع الحكومة الأفغانية بمباحثات للتوقيع على معاهدة الشراكة الاستراتيجية، محاولة منها حماية الشكل القانوني للقوات الأمريكية وتعزيز قواعدها العسكرية في أفغانستان. ويشير أحد المحللين إلى أنه من المنظور السّطحي تعتمد أمريكا في استراتيجيتها بأفغانستان على الانسحاب، لكن في الواقع هي لاتزال تبذل كل الجهود للحفاظ على تعزيز مصالحها بأفغانسان، وسحب أمريكا لقواتها كما أضاف: هي تعديل لاستراتيجيتها السابقة واعتبارات تكتيكية، وليس تراجعا لأن سيطرتها ونفوذها على أفغانستان لم يضعف.
هل حقّق الاحتلال هدنة؟ قال »هنري كسينجر« وزير الخارجية الأمريكي السابق أن أمريكا لم تفز ولم تهتزم في أفغانستان، لكنه اعتبر عدم انهزامها فوزا بالنسبة لمقاتلي طالبان، وعدم فوزها انهزاما لها. وبعيدا عن جدلية المنتصر والمنهزم في حرب أفغانستان، والتي تبدو ملامحهما غير واضحة بالمرّة، يفضّل الكثيرون الفوضى فيما بعد رحيل الاحتلال. ويقول المتفائلون منهم بأن خروج القوات الأجنبية سيساعد على تعزيز عملية المصالحة وإعادة الثقة بين أبناء الشعب الأفغاني، وخاصة إعادة احتضان حركة طالبان وإدماجها في العملية السياسية، لكن للمتشائمين كلام آخر، إذ أنهم يتخوّفون من انتكاسة أمنية على اعتبار أن القوات الأفغانية لن تتمكن من ملء الفراغ الذي ستتركه القوات الأجنبية، خاصة وأن عملية بنائها لم تكتمل بعد، وبالإضافة إلى الخشية من أن يعرّض الانسحاب التقدم الأمني الذي تحقق إلى الخطر، فإن هؤلاء يطرحون قضية إخفاق العملية السياسية في أفغانستان، ومنها الإخفاق في إدماج طالبان ودفعها إلى الحوار، حيث وضعت شروطا مسبقة لأيّ حوار وعلى رأسها خروج كل القوات الأجنبية من أفغانستان. لكن بعيدا عن كل هذه التناقضات والقراءات المتباينة، يبقى الأمر المؤكد أن الاحتلال الأمريكي لأفغانستان لم يحقّق النصر الذي أراده »بوش«، والانسحاب التدريجي المعلن عنه هو في واقع الأمر مجرّد فرار من لعنة هذه الأرض التي تحوّلت على مرّ العصور والقرون إلى مقبرة لأعتى الأمبراطوريات، وآخرها الاتحاد السوفياتي الذي انهار وتكسّر، وتحوّلت شظاياه إلى جمهوريات يجرفها التيار الغربي. لقد استنزفت حرب أفغانستان أمريكا اقتصاديا، واستمرارها يعني انهيارها الأكيد، لهذا استبق أوباما السقوط لإنقاذ ما يمكن انقاذه.