أكد الدكتور والباحث في التراث الشعبي عبد الحميد بورايو في حديث ل”الشعب” أن الجزائر بحاجة إلى إرادة سياسية من طرف الدولة لجمع التراث الشفوي وتدوينه وتسجيله، ودعا بورايو إلى إنشاء مركز مستقل له كيانه الخاص وأن يكون شاملا بالثقافة الشعبية الوطنية بجميع لهجاتها الدارجة والأمازيغية بتنوعاتهما، مشيرا إلى أن تدوين التراث الشفهي بحاجة أيضا إلى عمل وطني شامل وتكاثف الجهود. التراث الشعبي الشفهي يمثل ذاكرة وهوية الأمة الجزائرية، باعتباركم باحثا في الأدب الشعبي كيف ترون الاهتمام بهذا الموروث الثقافي، سيما وأنه في طريقه إلى الاندثار؟ التراث الشعبي الجزائري يتميز بالوفرة، مجتمعنا مازال في إقباله أو في اندماجه في الثقافة الحديثة المبنية على الكتابة.. والتسجيل بالصورة والصوت مازال حديث العهد به، وبالتالي مازال هناك اعتماد كبير على الشفوية في هذا المجال، والتناقل الشفوي هو الوسيلة الأساسية التي تميز الذاكرة الشعبية. كانت هناك محاولات لكنها فردية في إطار العمل الجامعي الأكاديمي، وهو القيام ببحوث حول التراث الشعبي من طرف طلبة الدراسات العليا في جامعات جزائرية مختلفة، وفي أقسام متخصصة مثل الثقافة الشعبية في تلمسان، إلى جانب جهود جامعة الجزائر، قسنطينة، عنابة ووهران.. هناك عدد من الرسائل قدمت وهناك مراكز بحوث مثل مركز دراسات ما قبل التاريخ والأنثربولوجيا والتاريخ التابع إداريا لوزارة الثقافة يتعاون مع باحثين، ولكن تظل بحوثه في مجال الشفويات جهودا فردية، ولكنها ترقى إلى مستوى العمل الوطني المتخصص في الأرشفة. هناك حاجة ماسة إلى عمل وطني شامل وأنا أدعو إلى مثل هذا العمل، مبدئيا الظاهر أن هناك سعي من قبل مركز دراسات ما قبل التاريخ وعلم الإنسان والتاريخ للتكفل بالمهمة، حيث اتصل بالباحثين للقيام بمهمة جمع التراث على المستوى الوطني، غير أن العمل الحقيقي لم يبدأ بعد، وفكرتي كانت الدعوة إلى إنشاء مركز مستقل، لأن عملية جمع التراث الشفوي في الجزائر شيء هام، وله دور كبير في حفظ الذاكرة، ولابد أن يتولاه مركز مستقل مثلما هو موجود في دول أخرى. هذا المركز هدفه الأساسي هو جمع وتوفير المادة للباحثين، ويمكن تسجيله عن طريق التكنولوجيا الحديثة والرقمنة، ونحاول أن نغطي أنحاء الجزائر خاصة وأن هناك إمكانيات كبيرة بشرية، باعتبار أن مجال دراسة التراث الشعبي قد تزايد في مختلف الجامعات، وهناك أساتذة مختصون وباحثون، وبالتالي يمكن تنظيم جهد شامل. فمثل هذا المركز يمكن أن يكون مستقلا عن مراكز البحث وله كيانه الخاص، ويكون تابعا إما لوزارة الثقافة أو وزارة التعليم العالي، لأنه مجال بحثي، وأنا شخصيا أفضل أن يشتغل بالتنسيق بين الوزارتين، لأن هناك أمور تتعلق بالجانبين. هناك طريقة أخرى نجدها في بلدان أخرى هي أن يكون المركز تابعا للمكتبة الوطنية، لأن مبدأ المكتبة قائم على حفظ تراث الأمة المكتوب، التراث الحضاري والطبيعي والشفوي، خاصة وأن إمكانيات التسجيل بالصورة والصوت أصبحت متاحة وبدقة متناهية، تساعد على حفظ التراث في أقراص مضغوطة أو في موقع خاص به. مثل هذا العمل عندما يُسند لهيئة لها مهمة أخرى، فلا شك أنه سيظل ثانويا أو لا يأخذ بعده الخاص، خاصة بالنسبة للجزائر التي تزخر بتنوع كبير في الثقافة الشعبية، لا سيما في الأرياف التي نجد فيها تراثا شعبيا مازال متداولا يجب تسجيله للمحافظة على صيرورته على الأقل بالنسبة للأجيال الجديدة، وبالتالي نحن بحاجة لمثل هذا المركز، وأن يتم الإعداد له إعدادا جيدا، وأن يكون شاملا بالثقافة الشعبية الوطنية بجميع لهجاتها الدارجة والأمازيغية بتنوعاتهما، ويسعى للتواصل مع المناطق الداخلية والمختصين فيها، والتركيز على المناطق المحلية، وأن لا يكون عمله مركزيا في العاصمة فقط وإنما يراعي تواجده في مختلف ولايات الوطن. دعوتم إلى إنشاء مركز مستقل لحفظ التراث الشعبي الجزائري، هل وجد مطلبكم صدى لدى الهيئات المسؤولة؟ طرحت هذه القضية في نقاشات مع مركز دراسات ما قبل التاريخ والأنثربولوجيا والتاريخ، وفي بعض الملتقيات التي أقامتها وزارة الثقافة بتلمسان، حيث نظمت ملتقيات حول كيفية الاهتمام بالثقافة الشعبية الجزائرية، وكنت أطرح فكرتي أيضا من خلال وسائل الإعلام. طبعا ما أجده قد يكون نوعا من الاستجابة، وهو تكليف مركز دراسات ما قبل التاريخ والأنثربولوجيا والتاريخ بهذه المهمة، لكنني مازلت عند رأيي بأن هذه المسألة تحتاج على هيئة متخصصة ومتفرغة، تضع إستراتيجية على المدى القريب والبعيد، وتكون لها إمكانياتها الخاصة، فمركز البحث له تقاليده واهتماماته. أنا أثمن كل الجهود والمواقف المبذولة، لكن أرى أن هناك بنية مستقلة لتناول الموضوع الذي أراه حيويا، ولابد أن لا نضيع الوقت، فهناك جهود فردية وجهود مراكز البحث، ولكن تظل محدودة ومربوطة بمجالات أخرى واسعة، فالاهتمام في الجزائر بالآثار قديم جدا وأصبح له مؤسساته التي تحميه، لكن التراث الشفوي أرى أن هناك نوع من التردد لرصده وأرشفته أو تسجيله. ما هي الصعوبات التي تواجه الباحث في إطار جمع التراث الشفوي وتدوينه؟ قضية تدوين التراث أو تسجيله بالصورة والصوت يحتاج إلى إرادة سياسية من طرف الدولة، وإلى مؤسسة مستقلة عن مجال البحث، كما يحتاج على عمل جماعي على مستوى الجزائر العاصمة، وأن لا يكون عمل أفراد، وهذا يحتاج إلى إمكانيات مادية والتواصل مع السلطات المحلية، لأن الاتصال بالناس مربوط بالجانب الأمني، خاصة بعد الظروف التي عايشتها الجزائر، فذهاب الباحثين إلى أماكن معينة واتصالاتهم مع المعنيين يحتاج إلى التنسيق مع السلطات المحلية التي عادة ما ترتبط بالسلطات الأمنية، وحين يكون هناك تجنيد لجميع الأطراف، مثلا الولاية والبلدية وكل الجهات المحلية يكون لديها وعي بهذه المهمة، وتواصل المكلفين بجمع التراث مع مختلف شرائح المجتمع في مختلف المناطق، وفي نفس الوقت لابد من تكوين باحثين وتقنيين كتكوين المصور الذي سيعمل على تصوير الناطقين بالشفويات، وتكوين الذين يستخدمون الآلات المتعلقة بتسجيل الصوت والصورة، كما أننا بحاجة إلى مهندسين متخصصين في الإعلام الآلي يعملون على وضع قاعدة رقمية بناء عليها يمكن تصنيف هذه المادة وفرزها، ويجب أن يكون له تكوين في العلوم الاجتماعية وعلم النفس أو في الآداب وأيضا في الإعلام الآلي ويترجم ما يقوله له الباحث في مجال الثقافة الشعبية. لابد من عمل متعدد ومن اختصاصات متعددة وهذا لا أعتقد أنه يمكن أن يقوم به سوى هيئة مستقلة توجه لجمع التراث وتدوينه وتسجيله. وفي إطار جهودكم المبذولة، هل لمستم إرادة سياسية من قبل الدولة لحفظ الموروث الثقافي الشعبي الجزائري؟ عندما ألتقي بالأفراد أو الجهات المعنية بأمور الثقافة، هناك اهتمام بهذه المسألة، لكن من الناحية العملية أرى بأن هناك نقص، لدينا طاقات بشرية تنتظر التعامل معها، فقد كونا طلبة في الجامعات الداخلية في تبسة، واد السوف ورقلة.. هم يحتاجون إلى إعداد برنامج على المستوى الوطني يعملون في نطاقه. مركز دراسات ما قبل التاريخ والأنثربولوجيا والتاريخ بدأ نوعا ما في انتهاج هذا المسار لأن له فروع في أنحاء الجزائر، ولكن هذه الفروع بحثية بالدرجة الأولى ولها اهتمام متعلق بالآثار، وجوانب أخرى غير متخصصة بالثقافة الشعبية، فيبدو أن هناك محاولة لتسجيل أو إدماج باحثين في هذا المجال، ولكنها ليست متسعة فنحن بحاجة إلى عمل أسرع تقوم به هيئة مستقلة. وعلى مستوى الجامعات، هل ترون أن هناك اهتمام كاف بالتراث الشعبي؟ يمكن القول أن هناك اهتمام، لكننا مازلنا نصطدم بالعقليات التقليدية التي لا تعطي عناية كبيرة للثقافة الشفوية، باعتبار أن ما نسميه ثقافة أو ما هو علم يتمثل في الكتابة، وليس فيما هو شفوي، وبالتالي نجد هناك عقليات تزدري إلى حد كبير العمل مع التراث. ولكن هناك وعي وعمل متزايد في نطاق علم الاجتماع الثقافي والأنثربولوجيا والآداب، باعتبار أن أقسام الأدب تترجم الأدب الشعبي عادة من بين اهتماماتها، كما أن الاهتمام من قبل الطلبة متزايد ويقبلون أكثر عندما يجدون المجال مفتوحا أمامهم. هناك توسع في هذه المجالات وفي المعاهد المتخصصة، ولكن تظل الجامعات تُكوّن طلبة يواجهون البطالة بعد تخرجهم، لذلك نجد نوعا من الانقطاع ليتوجهوا لتدريس اللغة العربية والتخلي عن الأدب الشعبي، لذلك قلت أنه يجب أن يكون هناك مركزا متخصصا يفتح المجال لهؤلاء الطلبة للاهتمام بالثقافة الشعبية. ما تعرفه الجزائر من أزمة نشر يساهم أيضا في عدم نشر الموروث الشعبي، حيث نجد الأبحاث الجامعية ورسائل الدكتوراه، كلها في أدراج الجامعة بسبب تخلف التواصل بين مكتبات الجامعات والهيئات المكلفة بحفظ التراث، وبالتالي هناك صعوبة في التواصل، وليس هناك نشر لهذه الجهود المبذولة، وأقول دائما أن ذلك يعود لسبب عدم توفر هيئة مستقلة، كما يجب أن يكون هناك عمل على نطاق وطني لأرشفة التراث الشعبي الجزائري.