نشوء مفهوم أوروبي والتطبيق الدَولي عمل المؤلف أستاذا مساعدا متخصصًا في “لندن سكول أُف إكنُمكس” (LSE)، وفي “الباحثون الأجانب الزملاء في معهد التاريخ المعاصر في باريس”، وباحثا مساعدا في جامعة “سانت أندروز” البريطانية وفي “صندوق البحث العلمي السويسري”. ومنذ عام 2011 يقود برنامج “من الإعانة إلى إعادة التأهيل...تاريخ برامج المساعدات الإنسانية الأممية في مراحل الحروب”. عنوان رسالة الدكتوراه التي نشرها أولاً بالإيطالية “إمبراطورية أوروبا الفاشية”. كتب العديد من المؤلفات الأخرى وساهم في مؤلفات غيرها، ونشر مقالات في دوريات متخصصة في مجال اهتماماته العلمية التي من ضمنها بكلماته: تاريخ المنظمات الأممية وسياساتها، وتاريخ الأزمات وحلولها، وتاريخ النظم الشمولية والدكتاتورية والشرق الأوسط. الكتاب ومعضلة المصطلحات قصدنا من عرض مؤهلات الكاتب العلمية للتنويه إلى طبيعة عمله الأكاديمية التي تعني الانطلاق بعيدًا عن التهييج السياسي والعاطفي، وهذه نقطة مهمة. مصطلح “التدخل الإنساني” له وقع إشكالي في ذهن القارئ العربي، وغير العربي بكل تأكيد، يثير العديد من الردود السلبية منها والإيجابية. ونظرًا لكثرة تداول هذا المصطلح في المؤسسات الأممية والعالمية، وعدم وضوح أبعاد معناه في كثير من الأحيان، يكتسب هذا الكتاب أهمية إضافية لنا نحن العرب في ظل الأوضاع السائدة في بعض بلادنا، يضاف إليها تجربة ما حصل في ليبيا (المؤلف أنهى كتابه قبل تدخل حلف شمال الأطلسي هناك بذريعة حماية المدنيين)، وكذلك المطالب الغربية، في المقام الأول، بالتدخل بالذريعة ذاتها في سوريا. ومع أن المؤلف يتعامل مع تاريخية نشوء مبدأ “التدخل الإنساني” الذي مارسته دول أوروبية محددة قادتها بريطانيا في الدولة العثمانية خلال قرن من الزمان، فإنه لا يغيب عنه التعامل، المسهب أحيانًا والنقدي، مع مثل هذه الممارسات منذ انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الرئيسين إلى يومنا هذا. سبب حصر بحثه في موضوع تدخل بريطانيا وفرنسا فقط في الدولة العثمانية عدم إلمامه بلغات أخرى تؤهله للبحث في مختلف جوانب المادة. تجاهل الكتاب التبعات القانونية والسياسية والسكانية والاثنية للتدخلات التي لم تؤد سوى للمزيد من المذابح والاحتقان والصراعات الطائفية وهذه “نقيصة” في البحث، يضاف إليها تجاهل الكتاب التبعات القانونية والسياسية والسكانية والإثنية للتدخلات، في بلادنا على الأقل، التي لم تؤد سوى إلى المزيد من المذابح والاحتقان والصراعات الطائفية التي نعيش بعضها إلى يومنا هذا. يتعامل الكتاب، كما يتوقع من أي عمل أكاديمي، مع مجموعة من المصطلحات ذات العلاقة ومنها “التدخل الإنساني” و«المذابح” و«المذابح الجماعية” و«جرائم الإبادة” و«شكل من أشكال الإبادة” و«انتهاك حقوق الإنسان” و«انتهاك خطير وجماعي لحقوق الإنسان” و«ارتكاب جرائم جماعية فظيعة”، وما إلى ذلك. المؤلف يوضح كيفية استخدام دول أوروبية غربية، ومنها الولاياتالمتحدة الأميركية، لمختلف المصطلحات لتسويغ تدخلها في أزمة محددة أو لعدم فعل ذلك، ومن ذلك على سبيل المثال عدم تدخل الغرب في رواندا حيث أبادت قبائل الهوتو نحو ثمانمائة ألف روح بشرية من قبائل التوتسي في خلال أسابيع قليلة تحت علْم الغرب ونظره، من دون أن يتدخل إلا بعد انتهاء المذبحة. ولا يبحث الكتاب في التدخلات الإنسانية التي تحدث نتيجة كوارث طبيعية، وإنما في تلك التي سببها الإنسان. كما يميز بين تدخل من أطراف محددة لحماية مواطنيها في دول أخرى، مثل تدخل بريطانيا في الحبشة في عام 1868 لتحرير مواطنين أوروبيين احتجزهم نجاشي البلاد، ولم تنتج عن العملية أي نتائج أو عواقب للحاكم الحبشي أو لسلطاته أو لحدود بلاده وسيادتها، وبين تدخل دول أوروبية في الصين ضد “حركة يهتوان” المناوئة للتدخل الاستعماري الأوروبي وتجارة الأفيون وعمليات التنصير التبشيرية، لكنه تسبب في قتل مئات الآلاف من الصينيين، رجالا ونساء وأطفالاً، إضافة إلى عمليات اغتصاب جماعية مارستها قوات الغزو في العملية بحق نساء البلاد. إن مبدأ “التدخل الإنساني” نشأ في أوروبا، ولذا فإن من يقرر معناه هو من ابتدعه، لكن لا يسري عليه إطلاقًا، كما يبين المؤلف عبر أمثلة عديدة. والكتاب يتعامل مع مختلف الآراء خاصة آراء “تسفيتان تدروف وإمانويل كانط وناعوم تشومسكي وإدوارد سعيد...”، وغيرهم من العلماء والمؤرخين والفلاسفة والسياسيين، وعلاقة مختلف المواقف الأخرى بالفكر السائد من ليبرالي إلى علماني إلى بروتستانتي متحجر...إلخ، ويوضح نقاط اللقاء والاختلاف بينهم في مقاربة الموضوع وموقفهم منه. المبدأ والتناقضات والأهداف كما أنّ المؤلف لا يغمض عينيه عن التناقضات في كيفية تطبيق المبدأ ولا في خلفياته السياسية (أيا كان رداؤها دينيًا أو تجاريًا أو غيرهما). فهو يتعرض لمسألة معارضة تجارة العبيد ومنعها حيث استخدمت بريطانيا الموضوع للتدخل. فاعتراض تلك التجارة غير الإنسانية كان اختياريا ومنحازًا. وتصرف الحكومة البريطانية كان موجهًا ضد التجارة نفسها وليس ضد استعباد البشر. فعلى سبيل المثال، وصفت بريطانيا التجارة بأنها “قرصنة” وبالتالي عدت البشر المستعبدين بضاعة. مما منحها “حق التدخل” ضمن بنود قانون البحرية العالمي المعمول به وقتها. تدخل البحرية البريطانية وقتها كان ضد “القراصنة” وليس بحق الدول التي تمارس تلك التجارة اللاإنسانية، باستثناء واحد هو تدمير ميناء الجزائر في عام 1816 تحت ذريعة “التجارة في الرقيق”، أي بالبشر ذوي البشرة البيضاء...! حديث الدول الأروبية عن التدخلات الانسانية كان يتجاهل مماراستها الوحشية في المستعمرات المؤلف يلفت انتباه القارئ إلى أن الدول الأوروبية، التي كثيرًا ما تكلمت في التدخلات الإنسانية في القرن التاسع عشر، كانت تتجاهل ممارساتها هي في المجال وممارساتها الوحشية في المستعمرات. ومن الأمور التي يثير المؤلف الانتباه إليها أن بريطانيا التي كثيرًا ما تحدثت عن ممارسات الدولة العثمانية “الوحشية” في جزيرة كريت (المسيحية) كانت قواتها تمارس في عام 1857 أقصى أشكال السادية في الهند وفي أيرلندا (الكاثوليكية). فقد قامت قوات الاحتلال البريطانية في الهند بإحراق مئات الهنود، رجالاً ونساءً وأطفالاً، أحياء، وعملت على تلطيخ أجساد الهنود المسلمين بشحم الخنزير قبيل قتلهم جماعيًا بدم بارد. إضافة إلى ذلك، عندما كان وزير مستعمرات دزرائيلي يتكلم عن مذابح القوات العثمانية بحق البلغار، تناسى أن قوات بلاده مارست مذابح غير مسبوقة بحق قبائل الزولو في جنوب أفريقيا في عام 1879. والأمر ذاته ينطبق على تنديد الحكومة البريطانية ب “فظائع” القوات العثمانية بحق الأرمن وتجاه المسيحيين في جزيرة كريت، في حين كانت قواتها تمارس مختلف أشكال المجازر الجماعية تجاه البوير البيض (المسيحيين) وسود البشرة من سكان البلاد الأصليين في جنوب إفريقيا. مفكر فرنسا «توكفي» أيّد مجازر قوات بلاده في الجزائر عام 1841 وحرقها للمحاصيل وتلويث البيئة وأسر المدنيين بذريعة التقدم والحضارة كذلك فرنسا لم تكن بأفضل حالا، بل إن مفكرها الأول “توكفي”، الذي كثيرًا ما تحدث عن “الحضارة والحرية والديمقراطية...إلخ”، أيّد في مقالاته عن الجزائر التي كتبها في عام 1841 المجازر التي ارتكبتها قوات بلاده هناك، إضافة إلى حرق المحاصيل وتلويث التربة وأسر المدنيين من الرجال والنساء والأطفال، بذريعة أنها تخدم قضية التقدم والحضارة. وقد استخدم رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك كتابات “توكفي” بالخصوص لتسويغ تلك الممارسات الوحشية البربرية حقًا. وفي الواقع إن المؤلف لا يفصل في تحليلاته مبدأ “التدخل الإنساني” عن “الرسالة الحضارية” التي على الغرب نشرها في العالم، وبالتالي ارتباط ذلك بنشر المسيحية. تلك الدول كانت تستخدم مبدأ التدخل الإنساني لأهداف استعمارية محضة. من منظورها كان تدخل “الأمم الأوروبية المتحضرة” ضد “الأمم البربرية المتخلفة”. الدول غير الأوروبية هي دول “مارقة”، ويجب إدخالها إلى بيت الطاعة في حال الحاجة إلى ذلك من منظور المستعمِر الأوروبي. وهو تمامًا ما مارسته بعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى حيث أنشأت “عصبة الأمم” وأخضعت كثيرا من المناطق التي وقعت ضمن حدود الدولة العثمانية وفي مقدمة ذلك المشرق العربي لنظام الوصاية، المسمى “الانتداب” بهدف تحضيره وترقيته وتأهيل شعوبه لتعلم الحضارة، وما إلى ذلك من اللغو الاستعماري العنصري. الغرب يكيل بمكيالين: يمتنع عن التدخل ضد ألمانيا النازية في تشيكوسلوفاكيا ويتجاهل اغتصاب فلسطين وجرائم عصابات الصهيونية المؤلف يشير، في المقدمة المهمة، إلى جوانب عديدة مما يمكن أن نسميه “الكيل بمكيالين”. فقد امتنع الغرب عن التدخل ضد ألمانيا النازية بعد غزوها تشيكوسلوفاكيا بذريعة حماية الأقلية الألمانية في إقليم “السوديت”. كما أن الغرب تجاهل في عصرنا هذا أحداث الشيشان وإقليم التيبت. لكن في الوقت نفسه لم يشر المؤلف لا من قريب ولا من بعيد إلى اغتصاب فلسطين والجرائم التي ارتكبتها العصابات الصهيونية هناك، انتهاءً بالتطهير العرقي الذي مارسته القوات الصهيونية بحق أهل البلاد، والغرب كان على علم كامل بتفاصيل التفاصيل. غير أنه أثنى في الوقت ذاته على التدخل الفيتنامي في كمبوديا، والتدخل التنزاني في أوغندا الذي تم على أساس أنه شكل تهديدًا للأمن وليس بهدف إنساني. ولا ينسى تجاهل الغرب التدخل في الكونغو حيث قتل ما لا يقل عن أربعة ملايين روح بشرية خلال أعوام قليلة خلت. الكتاب قسمه المؤلف إلى عشرة فصول تتعامل بالتفصيل مع بعض جوانب التدخلات الأوروبية في الدولة العثمانية، مع بحث واف للجوانب التاريخية والقانونية وخلفياتها السياسية والاستعمارية. وقد خصّص فصلين للتدخلات الأوروبية في بلاد الشام (سوريا ولبنان 1860 1861م)، وعدم التدخل إبان ما سميت وقتها “المسألة الشرقية” (1875 1878 م). كما خصص فصولاً للتدخلات، وعدمها، في كل من كريت وتجاه أرمن الدولة العثمانية. الكاتب قال: إن مؤلفه محاولة لإثبات أن “التدخلات الإنسانية” (الأوروبية) في القرن التاسع عشر لم تكن بالضرورة نتاج ازدهار الديمقراطية وحرية الصحافة وتعاظم أهمية مبدأ حق تقرير المصير، بل إنها أتت ضمن أطر سياسة أوروبا المحافظة، فتدخلاتها لم تؤد إلى تعاظم أهمية المبدأ التدخل الإنساني. خلف كل تدخل انساني أهداف اقتصادية وسياسية و عسكرية مما لا شك فيه أن ثمة حاجة ماسة إلى إقامة نظام عالمي يشرّع التدخل الخارجي في دول مستقلة في حال ارتكاب حكامها مذابح بحق مواطنيهم، لكن النظر إلى الممارسات الاستعمارية الماضية لا يدعونا للتفاؤل بنشوء نظام تدخل محايد وإنساني حقًا ومجردًا حيث تثبت الوقائع الملموسة أن خلف كل تدخل أهداف اقتصادية وسياسية، وبالتالي عسكرية، وما حدث في ليبيا أخيرا خير مثال، وعندما تفتح محفوظات الدول الاستعمارية بعد فترة سيكتشف المرء كميات النفاق والكذب والتزوير والخداع في العلاقات الدولية. الكتاب، رغم ملاحظاتنا، مهم ويساعد القارئ الناقد على معرفة بعض خلفيات الشعارات البراقة التي ترفعها دول استعمارية بخصوص حقوق الإنسان وحماية المدنيين.. إلخ. في الوقت نفسه، وانطلاقًا من الحقائق الكثيرة التي أوردها المؤلف بخصوص ازدواجية المعايير وتطبيق المبدأ على الأمم الضعيفة، وفي أحيان كثيرة اعتمادًا على معلومات كاذبة أو مبالغ فيها، فإن من الأفضل إعادة تسمية المبدأ “الغزو الاستعماري” بذريعة “التدخل الإنساني”.