تعيش دولة مالي منذ ثلاثة أشهر وضعا حرجا وصعبا نتيجة الإنقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس »أمادو توماني توري« وأدخل البلاد في حالة من الإرباك والفوضى وعدم الإستقرار، ثم إستغلال التوارق لهذا الوضع الحسّاس وإعلان إستقلال الشمال وقيام دولة لم يعترف بها إلى الآن أحد، لكنها أصبحت تشكل تهديدا حقيقيّا للمنطقة بكاملها خاصة بعد أن تحالفت معها العديد من المجموعات المسلحة المرتبط بعضها بالقاعدة. وإذا كانت باماكو قد استطاعت تجاوز الإنقلاب بعد أن رضخ قادته للضغوط الخارجية وسلّموا السلطة لقيادة مؤقتة تحاول إعادة بناء مؤسسات الحكم، فإن مشكلة الإنفصاليين التوارق والتنظيمات الإرهابية والإجرامية حوّلت الشمال إلى منطقة خارج السّيطرة وتنام على برميل بارود قابل للإنفجار في أي لحظة ليحرق المنطقة بكاملها وليس مالي لوحدها بالنّظر إلى هشاشة الأمن في منطقة السائل، وكثرة اللاعبين والعابثين بإستقرار هذه البقعة التي تتوقع بعض القراءات التشاؤمية إمكانية تحولها إلى أفغانستان جديدة. حقٌّ يراد به باطل إن الوضع الشاذ الذي يعيشه شمال مالي منذ نحو ثلاثة أشهر إثر إعلان حركة تحرير الأزواد تشكيل دولة من جانب واحد، وهو نتيجة حتمية لصراع مستمر منذ خمسة عقود بين السلطة المركزية في باماكو والتوارق الذين ظلو إيطاليون بتقرير مصيرهم والإستقلال بدولة تحفظ كما يقولون كيانهم وحقوقهم التي اغتصبها النظام الذي أقصاهم من كل أشكال التنمية والتطور وقد شكل التوارق الحركة الوطنية لتحرير الأزواد وأعلنوا عزمهم على رفع الغبن الذي يعيشونه والظلم المسلط عليهم وتجاهل السلطات لتلبية مطالبهم المحصورة أساسا في التنمية وتحسين الأوضاع الإجتماعية المأساوية بقوة السلاح وهكذا تدرّج الصراع الذي تمتد جذوره إلى ما بعد الإستقلال عن فرنسا مباشرة عام 1960، من تمرّد وعصيان إلى كفاح مسلح كان يتصاعد حينا ويهدأ حينا آخر. وقد قامت الجزائر عام 2006 بالتوسط بين طرفي النزاع من أجل انهاء حالة اللاإستقرار بالمنطقة، وتم إبرام إتفاق بين باماكو والحركة الأزوادية، لكن سرعان ما أجهض مما أسهم في إنتكاسة أمنية خطيرة زادت حدتها إنتشار المجموعات المسلحة وعلى رأسها تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي والتهريب والمخدرات والسلاح... وأصبحت المنطقة بؤرة توتر خطيرة، الأمر الذي حرك الدول الكبرى تتقدمهم أمريكا التي أعلنت ما يسمى بالحرب على الإرهاب حيث وقفت إلى جانب النظام في باماكو تدعمه بالمعدات والتدريب لمواجهة الخطر المستقر في الشمال... لكن الإنفصاليين ومن يحالفهم من جماعات مسلحة ومن خلال إستراتيجية حرب العصابات طويلة النفس إستطاعوا أن يدخلوا الجيش النظامي المالي في سلسلة من الإنهزامات والإنكسارات، وأن يوسعوا تهديدهم ليلقي بظلاله على دول الجوار، الأمر الذي حرك الزعيم الليبي معمر القذافي في 6 أكتوبر 2008 بمبادرة لوقف القتال فخمد النزاع فترة، لكن سرعان ما رفضته أجنحة داخل حركة الأزواد لتسجل المنطقة تصعيدا خطيرا عقب مقتل القذافي في أكتوبر 2011 . مالي تحصد أشواك الثورة اللّيبيّة إذا كان الليبيون قد توّجوا ثورتهم بخلع وتصفية القذافي، فإن مالي لم تحصد من هذه الثورة غير الأشواك، فمباشرة بعد مصرع العقيد قامت الحركة الوطنية لتحرير الأزواد بإعادة تنظيم صفوفها بعد أن تعززت بالمقاتلين الذين فروا من ليبيا إثر نجاح الثورة، وتدعّمت بالسلاح المُهرّب من هناك، وأعلنت الهجوم الكاسح في 17 جانفي الماضي ضد عناصر الجيش المالي الذي تكبد خسائر جسيمة في العتاد والأرواح، مما جعله يهجر ثكناته ويفرّ هاربا نحو الجنوب، ليبسط الانفصاليّون سيطرتهم على الشمال. وفي ظل الهزائم التي كان الجيش النظامي يتعرض لها تصاعدت أجواء الاستياء داخل مالي الأمر الذي دفع بالنقيب »أمادو سانوقو« للقيام بانقلاب عسكري ضد الرئيس توماني توري بمبرّر عجزه عن مواجهة الانفصاليين ورد زحفهم. وفي الوقت الذي كانت باماكو مشغولة بالانقلاب وارهاصاته، كان التوارق يُسيطرون على المدن الشمالية الواحدة تلو الأخرى، فبعد أن سقطت تيساليت، تبعتها كيدال ثم غاو فمدينة تمبكتو التاريخية ليصبح كل الشمال تحت قبضة الحركة الوطنية لتحرير الأزواد الذي أعلن أمينها العام »بيلا أغ شريف« في 6 أفريل 2012 قيام دولة التوارق في جز ء من أراضيها التاريخية وتعهد باحترام الحدود الدولية مع الجوار، لكن أحدا لم يعترف بدولة الأزواد تماما كما لم يعترف أحد بجمهورية أرض الصومال التي أعلنت إستقلالها بعد انهيار نظام سياد بري عام 1991 . بين الأفغنة والصوملة إذا كان إعلان انفصال شمال مالي وقيام دولة للتوارق بشكل أحادي يُشكل خرقا فاضحا للمواثيق والأعراف الدولية، فإن الأخطر من كل هذا هو التحالفات التي بدأت تسجل بين الانفصاليين وبعض المجموعات المسلحة وحتى الإرهابية والاجرامية، مما ينذر بتحول هذه المنطقة الحساسة الى أفغانستان جديدة. ومما يعرقل أيّ تحرك عسكري لإستعادة السلطة المالية على الشمال ودحر الانفصاليين ومن يواليهم من تنظيمات منبوذة.. ورغم أن مجلس السلم والأمن التابع للإتحاد الإفريقي، والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، رافعتا من أجل الحسم العسكري، وطلبتا من مجلس الأمن الدولي التدخل بالقوة لإنهاء الأزمة في مالي، إلا أن هذا الأخير رفض الاستجابة لهذا المطلب بعد أن أبدت حسب ما تسرّب من أخبار كل من أمريكا وروسيا والصين تحفّظا على هذا الخيار المحفوف بالمخاطر وفضلت البحث عن حلول سلمية لا تزيد وضع المنطقة إلتهابا. ومعلوم أن رئيس المجلس الانتقالي لدولة أزواد أغ الشريف هدّد ضمنيا بأن التوارق سيحاربون أي قوة عسكرية تتدخل لتحرير شمال مالي بالسلاح وبأنهم سيطلبون دعم وحماية »أنصار الدين« المرتبطة بالقاعدة ببلاد المغرب الاسلامي التي يقودها عبد المالك درودكال، ليحوّلوا شمال مالي ومنطقة الساحل الى كتلة من اللهب. وتهديد زعيم دولة الأزواد، لاي بدو مجرّد كلام للتّرهيب فقط، حيث قام مسلحون في شمال مالي يوم الجمعة الماضي بإطلاق النار على طائرتي استطلاع غربيتين بأسلحة ثقيلة دون أن يصيبهما. الجزائر.. الحوار هو الحلّ قال الوزير الأول المالي »سيخ موديبو ديارا« الذي زار الجزائر نهاية الأسبوع الماضي أنه »جاء ليصغي الى صوت الحكمة وليأخذ بنصائح بوتفليقة« ويبدو بأن الرجل يدرك جيدا ما يقوله، لأن الديبلوماسية الجزائرية الهادئة تقوم على الحكمة والتريث ودراسة العواقب من كل الجوانب قبل اتخاد أي موقف خاصة وأن الأزمة في مالي التي يمكن أن يكون لها تأثير خطير على جزئنا الجنوبي، ألقت فعلا بشظاياها على الجزائر، إثر اختطاف قنصلها في مدينة غاو، ومواجهتها لموجة من النازحين الفارين من الوضع المتوتر في الجارة الجنوبية لهذا تُفضل الجزائر الوقوف بعيدا عن الذين يقرعون طبول الحرب ويطالبون بالتدّخل العسكري الدولي للحسم مع الانفصاليّين التوارق والمجموعات المسلّحة. وتبدو الجزائر الدولة الأكثر تحفظا بل ورفضا لفكرة استخدام القوة لاستعادة السيادة على شمال مالي، لأنها تدرك جيدا بأن المنطقة كلها ملغمة وأيّ تدخل عسكري سيكون بمثابة هزّ لعش الدبّور، كما تدرك بأنها سوف لن تكون بمنأى عن أي نار ستشتعل في المنطقة. وطبعا يرتبط الموقف الجزائري المتمسك بخيار الحل السلمي بحرصها على سلامة القنصل المخطوف من طرف حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا ورفاقه. أزمة إنسانية و »الايكواس« تُرسل قوات في ظل احجام المجتمع الدولي عن تبني الخيار العسكري لمواجهة الانفصاليين التوارق، قررت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا »إيكواس« بتأييد من مجلس السلم والأمن الافريقي المبادرة بإرسال نحو 3 آلاف عسكري الى مالي للمساعدة على استعادة الأمن والنظام هناك، مع الاستمرار في مساعيها لاقناع الأممالمتحدة بالتدخل العسكري لإجهاض الدولة التارقية التي أصبحت تهدد المنطقة بأكملها ومن أجل إعادة وحدة آراضي مالي. والى حين أن يتضح الدور الذي ستتخذه المجموعة الدولية لمعالجة الوضع في مالي تمضي الأزمة الانسانية المترتبة عن الانقلاب العسكري والحركة الانفصالية ونشاط المجموعات الإرهابية في التفاقم، حيث يجد أزيد من 200 ألف نازح فروا الى دول الجوار أنفسهم يعيشون أوضاعا صعبة بسبب تدهور الوضع الغذائي والصحي والأمني للدول المستقبِلة التي لاتجد ما توفره لهم باعتبارها دولا فقيرة باستثناء الجزائر التي فتحت حدودها أمام الهاربين من جحيم العنف في شمال مالي وتبدل كل مساعيها لتوفير متطباتهم الضرورية وهي كثيرة ومكلفة. الصورة تبدو سوداء في مالي والمشهد مُغشّى بالضباب والمستقبل مفتوح على كل الاحتمالات ومن الضروري الاسراع بتحريك جهود السلام لإيجاد تسوية سياسية تخرج مالي والمنطقة من عنق الزجاجة وتبعد شبح الحرب والتصعيد من منطقة الساحل الافريقي القائمة على فوهة بركان.