العلم اتخذ له خصما هاما هو «الوهم» الفلسفة اليوم تضخ في الخيال العلمي نفَسا جديدا في الثقافة المعاصرة ليس هنالك شرق ولا غرب يرفض الكاتب فيصل الأحمر الفكرة الدارجة التي تقول، إن «العربي يعيش حياة خرافية بعيدة عن الفكر العلمي». وفي حوار له مع «الشعب ويكاند»، يؤكد الأحمر أن الفكرة «تعميمية تخفي خلفها ظرفا تاريخيا آخر أهم بكثير». والبروفيسور فيصل الأحمر، أستاذ الأدب العربي بجامعة جيجل، من أنشط كُتّاب جيله، وهو الذي كتب الشعر والقصة القصيرة والروائية وفي الدراسات الأكاديمية، بالإضافة إلى ترجماته الكثيرة وبحوثه في أدب الخيال العلمي. - الشعب ويكاند: هل «الخيال العلمي» علمي «خالص»، أم هو فن عقائدي دعائي بأدوات علمية؟ فيصل الأحمر: إن سياق تسمية هذا النوع الأدبي بالعلمي معروف؛ فهو سياق القرن 19 والثورة الصناعية والفلسفة الوضعية التي كانت تحتفي بالتجريب العلمي والعقل العلمي الممنهج النابع عن المقاربة الديكارتية للعالم. وما حدث عموما، هو أن العلم اتخذ له خصما هاما هو «الوهم» الذي مرادفه الأساسي هو «الخيال»، فظهر تنافر مفهومي تقليدي بين ما هو أدبي/خيالي وبين ما هو علمي، إلى درجة أنهم في التعابير الرائجة في الغرب صاروا يصفون الكلام الذي لا برهان وتجربة عليه تثبته أو الكلام الذي لا فائدة ترجى منه بأنه c'est de la littérature... ولكن كل هذا قد تم تجاوزه. فمفهوم العلم تغيّر جذريا، والعلوم الإنسانية تشغل اليوم مكانة أهم مما كانت عليه الأمور أيام ظهور الخيال العلمي وانتشاره. الفلسفة اليوم تضخ في الخيال العلمي نفسا جديدا (وقد ظهر ذلك جيدا من خلال فلم the matrix الذي تحول إلى أيقونة ثقافية)... والخيال العلمي يمنح مواد صناعته التخييلية من علوم متنوعة كالسوسيولوجيا والسياسة والتاريخ والمستقبليات والعلوم الموازية... وكل هذا يحيل على الحياة أكثر مما تحيل عليها صور العلماء في مخابرهم والرياضيين مع معادلاتهم في أبراجهم المشيدة؛ كما كانت هي الحال على أيام أبطال كتب حول فيرن. - بعض المشاهد من أفلام ومسلسلات في الخيال العلمي، على غرار «ستار تراك» تحوّلت إلى واقع... لماذا لا نمتلك في ثقافتنا مثل هذه النماذج؟ في ثقافتنا كثير من الأشياء التي تشبه هذا. الخيال العلمي يحيل كثيرا على ثقافة إنسانية شاملة لا تعين إنسانا دون إنسان آخر. ففي الثقافة المعاصرة ليس هنالك شرق ولا غرب. فكل ما هنالك أمم نشطة منتجة ثقافيا وأخرى خاملة تعاني. على يد أخرى، فإنه لابد من الانتباه إلى التاريخ من الزاوية ما بعد الكولونيالية التي يصفها جيدا إدورد سعيد (هو بالمناسبة أحد أبطال قصة من الخيال العلمي كتبتها وستنشر قريبا في أميركا ضمن منتخبات كوارترلي الشهيرة تحت عنوان: the rapist of Baghdad)... التاريخ الحديث ومنذ قرنين تقريبا عمل على محو آثار الأمم كلها تحت عناوين متنوعة في إطار ما يسميه الفلاسفة بنزعة المركزية الغربية... يبقى أننا في العالم اليوم، نعرف الظواهر نفسها بسبب الزمن مابعد الحداثي الذي لا يؤمن بالحدود بين الأقاليم والشعوب. فمنتجات الثقافة تعنينا جميعا وفي الوقت نفسه. ومن المثير للانتباه أن كثيرا من المنتجين المختصين في الخيال العلمي تحديدا، يفضلون إطلاق أفلامهم في الإمارات العربية قبل باقي قاعات السينما الأخرى (ويمكن للجميع التأكد من ذلك بكبسات زر بسيطة حول ما يسمى بتفاصيل العرض الأول للأفلام the initial release، وهي ظاهرة جديرة بالتأمل والتحليل). - لماذا يكاد يغيب الخيال العلمي في أدبنا، هل المشكلة في غياب الخيال، أم في غياب العلم عن حياتنا؟ في كتابي الفلسفي الأخير «سياسات الخطاب الأدبي، في المقاربة الفلسفية للخطاب الأدبي» طورت فكرة معينة حول العزوف الكلاسيكي للقارئ العربي عن الخيال العلمي، وقد رفضت فكرة أن العربي يعيش حياة خرافية بعيدة عن الفكر العلمي. أعتقد أن هذه الفكرة العامة التعميمية، تخفي خلفها ظرفا تاريخيا آخر أهم بكثير. والغالب عندي، أن هنالك ممانعة كبيرة لهذا النوع الأدبي في الدوائر الرسمية، رغم ميل القارئ الحديث صوبه. فأدب الخيال العملي أدب نظري ذو تبعات فلسفية، أي أنه أدب ذو أبعاد سياسية بالضرورة. إنه يحاول رسم معالم للحياة في المستقبل. هو أدب الأقوياء أو الذين يستعدون لمنزلة الأقوياء الذين يكتبون التاريخ. أما الأنظمة السياسية العربية فهي أنظمة تحاول دوما دفع عجلة الحياة صوب المحافظة على معلّمات الحياة الحالية كما هي. إنها أنظمة تنظر إلى الإنسان العربي كفرد مسلوب الإرادة ولا تحبذ فكرة التفكير النظري في إمكانات أخرى للحياة، وهي فكرة تحاربها الأنظمة القائمة دينيا بخلفية الكفر والتجديف والزندقة العقلية. لهذا يتطور عندنا الأدب الرومانسي كثيرا، فهو أدب الإنسان المغلوب على أمره، مسلوب الإرادة. أما السبب الذي يكرر دائما حول فقر الحياة اليومية إلى الجانب العلمي، وانتشار التفكير الخرافي عندنا، فأنا شخصيا أعترض عليه كثيرا من باب كون المعطى التكنولوجي يغزو كوكب الأرض جميعه، فجل المدن العالمية مدن ذكية، تسير عن طريق الذكاء الاصطناعي، والبرمجيات جزء فاعل من حياتنا... وهذا ما يعززه العدد المتزايد من كتاب وكتب الخيال العلمي الذين يظهرون باستمرار. - ألا ترى أن تلقي الخيال العلمي يحتاج إلى «مفاتيح» وثقافة عالية هي مفقودة عند عموم المتلقين؟ يمكننا أن نقول هذا الكلام في حق بعض الأعمال القليلة، إلا أن الأغلبية لا ينطبق عليها هذا الكلام. إن الشروح العلمية داخل هذا النمط من الروايات، غالبا ما تكون متاحة للقارئ العمومي، وذلك حتى في الأعمال التي تنتمي إلى ما يسمى الخيال العلمي الصارم أو الجاد hard scifi، وهو نوع أدبي يحترم بصرامة الدقة العلمية... أما ما يحدث فهو سيطرة تقاليد معينة في الكتابة تعمل المؤسسة الرسمية على فرضها والدعاية لها. سوف نفهم أكثر هذه الفكرة إذا ما لاحظنا ولع الأوروبيين والأميركيين بالخيال العلمي السياسي Politique-fiction وبالكتابات الحميمية، ولهذين التوجهين تفسير سياسي وجيه مرتبط بالتعود على استعمال الخيال كطريقة للتفكير في المستقبل، وكذا بالفكرة الليبيرالية الديمقراطية لإعطاء قيمة عالية للفرد كمحرك للتاريخ بدلا من التخييل المحلي الذي تسيطر عليه الفانطازيات التاريخية بإحالاتها الفارغة على بريق خاص لا يوجد إلا في الماضي؛ بكل ما في هذا الأمر من إمكانيات لتفريغ الواقع والحياة وخاصة المستقبل من إمكانيات تصورات خارجة عن الوضع الراهن (ولا يخفى على أي قارئ ما في هذا الكلام من إحالات على التكلس الكبير في دواليب الحياة والذي هو صورة أدبية باهتة ولكنها فصيحة عن التكلس الذي يصيب الحياة السياسية في بلداننا العربية)... ولا يبتعد عن هذا النوع من التخييل العنصر الآخر الحاضر في رواياتنا وأقاصيصنا، والذي تهيمن عليه الواقعية التي هي دائما مرتبطة بالحتمية التاريخية وبتصور «ستاتيكي» للعالم في مقابل التصور «الحركي» للتخييل المنتشر في البوليتيك فيكشن أو قصص الأبطال الخارقين أو التخييل الذاتي autofiction؛ ذلك النوع المنتشر بشكل كبير جدا في الغرب، وهو النمط التخييلي الخطير سياسيا الذي يجعل في حياة كل كاتب مهما كان حجمه إمكانات للأسطرة وللبطولة الروائية، وهو شيء من الصعب تصوره في العالم العربي، الذي هو عالم يعاني فيه الفرد من قمع تخييلي شديد (حتى إن كان هذا الفرد هو كاتب أو أكاديمي أو أي فرد من النخب له صيت وموقع خاص في المجتمع). - أسستم في تسعينيات القرن الماضي رفقة مجموعة من الأدباء «جماعة الخيال العلمي». بعد كل هذه السنين، ماذا بقي من تلك التجربة؟ ككل جماعة أدبية، تبدأ كبيرة صاخبة بحماس مبالغ فيه، تقدم للعالم ألف وعد جميل وتتوعد المتشككين بالندم بعد حين، تنطلق من رؤى ضبابية ونزوع صوب التهجم والدفاع عن الذات لرسم خطوط حمراء، تصنع لها أعداء حتى إن لم يوجدوا، ثم تنتهي كل حركة أدبية إلى ما انتهت إليه جماعة الخيال العلمي؛ أي إلى أن تصبح أصغر حجما، لإيمانها أن الحجم ليس معولا عليه في العالم، وينقص صخبها، لأن العمل الصميمي لا يحتاج صخبا، بل يحدث في صمت الأرحام وهسهسات الهوامش، يتضاءل عدد المنتمين إليها لأن طول النفس لا يملكه إلا المؤمنون بالفكرة، وتتضح الرؤى فيتم التركيز على الأهم، وساعتها يصبح الناس معجبين بعمل الأفراد القلائل الباقين على الدرب الأدبي، وتذوب الجماعة لتخلد القيم التي قامت الجماعة أول الأمر عليها، والتي عاشت تطالب بها وتجتهد لأجل الدعاية لصالحها... أعتقد أن هذا هو ما حدث لجماعتنا، فلم يبق من العشرة الذين انتموا إليها إلا نبيل دادوة وزرياب بوكفة وأنا... أصدقاؤنا انتقلوا إلى مواقع أخرى من الحياة، وربما يكون ما حدث لهم هو ما يحدث دوما لأفكار الخيال العلمي التي يدركها الزمن ويتجاوزها سريعا... والمهم في نهاية المطاف، هو أن الخيال العلمي قد تحول على أيدينا من نوع محقور يبحث له عن سبب للوجود، إلى موضوع تكتب حوله رسائل دكتوراه ودراسات ومذكرات تخرّج بأعداد محترمة. وقد يكون الفوز الكبير الذي أحرزه هذا النوع، بفضلنا جزئيا، وبفضل جديد العالم عموما، هو ظهور أعداد كبيرة من الكتاب الشباب الذين يكتبون الخيال العلمي بولع وحماس، ويقدمون لي شخصيا نصوصا للتقييم أو للتقديم أو للتشاور. وهو أمر يسعدني كثيرا. - أخيرا، رغم التطور العلمي الذي عرفه العالم في «العصر الشبكي»، تراجع الاهتمام بهذا النوع من الأدب، لماذا في رأيك هذه المفارقة؟ أعتقد أن الاهتمام بهذا النوع كبير جدا. سواء على المستوى العالمي أو المحلي. السينما تلعب دورا كبيرا في ذلك. والولع بأفلام الأبطال الخارقين يشكل ظاهرة جديرة حقا بالتحليل الفلسفي والنفسي. هي أفلام جمهورها العربي الشاب يعد بالملايين. في الجزائر مثلا، أصاب إغراء هذا النوع كتابا كبارا لم يكن منتظرا منهم أن يكتبوا خ.ع: بوعلام صنصال، واسيني الأعرج وحتى الشاعرة الرقيقة الأستاذة ربيعة جلطي. كما أنه من الجدير بالذكر، أن السنوات الأخيرة للبوكر العالمية في صيغتها العربية، عرفت عملين من الخيال العلمي: «فرانكنشتاين في بغداد» لأحمد السعداوي و»حرب الكلب الثانية» لإبراهيم نصر الله. وهذا مؤشر هام جدا، في اعتقادي، على تغيّر عميق في الذهنيات يحدث على أعلى المستويات.