ومهندس اتفاقيات إيفيان، لقبته جريدة «باري ماتش» بثعلب الصحراء لما أظهره من قدرة على الجدل والإقناع، من الدبلوماسيين القلائل الذين أنجبتهم الجزائر، فقد كان من الرجال الذين صنعوا للجزائر سمعتها الدولية ونجحوا في الدفاع عن القضايا العادلة، قال عنه الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد: «لو كان لي 6 أشخاص مثل بن يحيى لجعلت من الجزائر قوة إقليمية «، واصفا فقدان وزير خارجيته بأنه خسارة لذراعه الأيمن، وقال عنه رضا مالك «السياسي المحنك»، أما رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي اللبناني وليد جنبلاط فوصفه بالرجل المتواضع يمثل دولة رصينة. ولد محمد الصديق بن يحيى بشارع سي الحواس بقلب مدينة جيجل، بتاريخ 30 جانفي 1932، تحصل على شهادة الليسانس في الحقوق بجامعة الجزائر،ينتمي إلى عائلة معروفة بجيجل فوالده من أعيان المدينة. انضم قبل الثورة إلى حركة الانتصار للحريات الديمقراطية عام 1951، انسحب منها لكنه بقي متصلا بمناضلي الحزب، كما شارك في تأسيس الإتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين سنة 1955 رفقة أحمد طالب الإبراهيمي ولمين خان، كان من المنظمين لإضراب الطلبة الجزائريين عن الدراسة والتحاقهم بصفوف جبهة التحرير الوطني يوم 19 ماي 1956، كما قام بتمثيل جبهة التحرير الوطني في مؤتمر الشباب المنعقد بباندونغ سنة 1955. عُين عضوا في المجلس الوطني للثورة، وعضوا في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية سنة 1960، ثم مديرا للديوان برئاسة الحكومة المؤقتة عام 1960، وشارك في المفاوضات الجزائرية الفرنسية خلال الفترة 1960 - 1962، فأدى دورا كبيرا في التأثير على مسارها، وقد أعجبت بحنكته الشخصيات الفرنسية المشاركة في المفاوضات حتى لقبته صحيفة «باري ماتش» الفرنسية بثعلب الصحراء، لما أظهره من قدرة على الجدل والإقناع. كان يراجع قراءة محاورات اتفاقيات إيفيان ويعيد تصحيحها لينير الطاقم الذي حاور المستعمر من أجل استرجاع حقوق الجزائريين قبل وبعد الاستقلال، كان يعرف بنود الإتفاقية جيدا كونه ساهم بجزء كبير في صياغة نصوصها. عين سفيرا بموسكو، لندن، ووزيرا للإعلام في 22 أكتوبر 1966، كان أول منظم لمهرجان إفريقيا عام 1969، ووزير التعليم العالي والبحث العلمي من 1970 حتى 1977، ثم وزير المالية من 1977، ووزيرا للخارجية عام 1979 إلى غاية وفاته. مسار الفقيد حافل بالإنجازات عايش كل مراحل الثورة حتى الاستقلال، ونجح في تحرير الرهائن الأمريكيين ال52 الذين كانوا محتجزين في السفارة الأمريكية بطهران لمدة 444 يوما سنة 1981. يقول عنه ابن عمه إنه كان يجالس الكبار بإحدى مقاهي جيجل ويستمع لحديثهم ليتعلم منهم، كان عمه يناديه محمد الوطني، لمواقفه الثابتة وذكائه الخارق، كان متطوعا من أجل القضايا الإنسانية في العالم. وفي شهادة لرفيقه المرحوم زهير إحدادن قال إن محمد الصديق بن يحيى كان مثقفا وذكيا له تكوين سياسي وقانوني، كان يعرف الفكر الفرنسي وخفايا السياسة الفرنسية، شديد الإخلاص لوطنه، كانت له قدرة للاستماع للجميع والقيام بحوصلة ليستخرج الرأي السديد الذي يرضي الجميع. صالح بلقبي: بن يحيى من المحامين الجزائريين القلائل الذين يملكون وسيلة للاتصال مع المناضلين وفي شهادة للمجاهد والدبلوماسي الأسبق صالح بلقبي أكد أن محمد الصديق بن يحيى كان من التلاميذ النابغين في الطور المتوسط والتعليم العالي، مشيرا إلى أن الفقيد كان من أقاربه عن طريق الأم واكتشف ذلك صدفة، فالفقيد ينتمي لعائلة لها سمعة هم من أعيان مدينة جيجل كل سكان المدينة يحترمونهم، وكان من أصغر الطلبة الذين أدوا دورا في إضراب الطلبة في 19 ماي 1956 مثل عمارة رشيد، عبد السلام بلعيد وبن بعطوش ورئيس فرع الجزائر لجمعية الطلبة بغلي. وأضاف محدثنا أنهما كانا يدرسان معا في الجامعة المركزية، فالشهيد كان يدرس حقوق أما بلقبي فكان في شعبة الأدب العربي، حيث لم تكن في الجزائر إبان الاستعمار إلا جامعة واحدة، وكان بها عدد قليل جدا من الطلبة الجزائريين لا يتجاوزون 400 طالب من مجموع 5 آلاف طالب في جميع المجالات آنذاك. ونظرا إلى الحاجة لتمويل دراستهم اشتغل أغلب الطلبة كحراس في الثانويات، يأتون للجامعة لحضور الدروس الهامة والأساسية وكان من بينهم محمد الصديق بن يحي الذي كان يشتغل كمحامي متربص عند محامي بالعاصمة من جنسية أوروبية وفي نفس الوقت يتابع دراسته بالجامعة، حسب ما أفاد به بلقبي. ويضيف الدبلوماسي الأسبق:» كان هناك مركز يجمع الطلبة الجزائريين داخليا موجودة بشارع «روبارتس» بتليملي حاليا وهو مستشفى قديم مخصص لقدماء محاربي الأهالي، ثم تحول إلى مرقد ومطعم لعدد قليل من الطلبة الجزائريين الذين توفرت لديهم الفرصة لمتابعة الدراسات العليا، كنا نسكن في نفس الإقامة وهذا ما نسج بيننا الاتصالات المتواصلة». وقال أيضا: «كان ينتمي لحزب الشعب الجزائري الذي سمي فيما بعد بحركة انتصار الحريات الديمقراطية، ولهذا كان من الأشخاص المؤهلين للاتصال بالمسجونين في أول نوفمبر 1954، وهم المناضلين الذين استنطقتهم الشرطة الفرنسية في ظروف استثنائية، ومنهم من قتل ورمي في البحر بعد التعذيب، بن يحيى كان من المحامين الجزائريين القلائل الذين يملكون وسيلة ليكونوا في اتصال مع المناضلين لإنقاذهم من الموت وإيداعهم سجن سركاجي «. وشاءت الأقدار أن يلتقي المجاهد بلقبي بالفقيد بعد الاستقلال بوزارة الخارجية، عندما كان أول مدير للتعاون الدولي والثقافي وبن يحيى كان من السفراء الأوائل للثورة الجزائرية. في المقابل تأسف المجاهد على أن الفقيد رحل دون تدوين مذكراته ولم يترك أي وثيقة عن إنجازاته، رغم حياته السرية في مجالات كثيرة لأنه كان متحفظا جدا، فالمكتبة الجزائرية تفتقد لمعلومات عن هذا النابغة والشخصية التي قل نظيرها في زماننا. نجا محمد الصديق بن يحيى في حادث سقوط الطائرة في 30 ماي 1981 في باماكو بمالي، حيث كلف بمهمة إلى بوركينافاسو حول قضية الصحراء الغربية، وعند الرجوع من بوركينافاسو تعرضت الطائرة لحادث على مستوى مطار باماكو بينما كانت تهم بالهبوط، كان الجو ممطرا جدا فنزلت الطائرة قبل أن تصل إلى رواق المطار، وللأسف الحادث الثاني أودى بحياته. في هذه النقطة أوضح بلقبي أن الفقيد تعرض لحادث سقوط الطائرة بمالي توفي من كان فيها ونجا محمد الصديق بن يحيى رفقة شخصين، قائلا: «كنت آنذاك سفيرا بليبيا، طلب مني الرئيس الشاذلي أن أحضر بن يحيى إلى ليبيا لقضاء فترة العلاج وأعطاه مسكن في غابة قريبة من العاصمة طرابلس، لم يكن يعلم بالأمر إلا هو وأنا «. وأضاف أن الشاذلي استدعى بن يحيى لإجراء وساطة بين العراقوإيران لإنهاء الحرب بينهما وكانت الجزائر تحاول في كل مرة تسوية المشكل، لكن لقي حتفه وبقيت ظروف موته والوفد المرافق له محاطة بكثير من الغموض. وأشار بشأن الرحلة الأخيرة لبن يحيى بأنه كلف كسفير في ليبيا بتقديم طلب حق العبور لدى السلطات الليبية للطائرة الخاصة للفقيد والنزول في حالة الاضطرار، كما طلب منه القيام بنفس المسعى عندما كان سفيرا بمالطا، قائلا: «طلب مني تقديم أسماء الشخصيات الذين على متن الطائرة لاستقبالهم، لكن لم يعط لي الإذن بإخبارهم فقامت السلطات الإيطالية بالتنسيق ما بين سلطات مطار الجزائر ومطار مالطا «. ويضيف: « اتصل بي مسؤولي مطار مالطا ليلا وأعلموني أنهم فقدوا الاتصال بطاقم الطائرة التي طلبت حق العبور والنزول، فاتصلت بوزارة الخارجية بالجزائر وأخبرتهم وهم أيضا فقدوا الاتصال بطاقم الطائرة بعد إقلاعها، ليتبين فيما بعد أنها أسقطت في تفجير استهدف أثناء عبورها الأجواء بين العراق وتركيا». شكلت لجنة تحقيق يرأسها آنذاك المجاهد صالح قوجيل، انتقلت إلى موقع الحادث، وعثرت على بقايا صاروخ جو-جو استخدم في ضرب الطائرة، وبعد البحث تبين أن هذا الصاروخ من ضمن طلبية سلاح روسي تسلمتها العراق، غير أن العديد من المصادر اختلفت في تفسير هذا الحادث، هل كان قصفا متعمدا من أجل إبقاء الحرب بين إيرانوالعراق؟، أو وقع بالخطأ باعتبار أن الأجواء التي كانت مخيمة على المنطقة هي أجواء حرب، تساؤلات عديدة راح ضحيتها بن يحيى. بوحوش: عبقري زمانه يتمتع بشخصية فريدة وصف الأستاذ الجامعي الدكتور عمار بوحوش محمد الصديق بن يحيى بعبقري زمانه يتمتع بذكاء خارق ويحسن المخاطبة، غير متحزب وطني حتى النخاع، ومن الطلبة المؤسسين للاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، قائلا ل «الشعب ويكاند: « المرحوم لديه شخصية فريدة من نوعها لا يعرف إبراز إنجازاته والإشهار بها كان نزيها لا يترك أقاربه يستفيدون من الدولة، عملت معه في الرئاسة يتناقش مع الجميع ويشاورهم لكنه في الأخير يأخذ برأيه السديد»، مشيرا إلى أن الميزة السيئة في الرجل هو كثرة التدخين. ويتذكر بوحوش انه في إحدى المرات كان المرحوم في اجتماع مع عميد كلية الحقوق بعد الاستقلال أحمد محيو الذي كان يحبه كثيرا، فقال محيو لبن يحيي:»من كثرة ذكاءك سوف تفقد بوصلتك «. ويضيف محدثنا: « محمد الصديق بن يحيى كان أول من فكر في اعتماد النظام الأمريكي في التعليم يسمى السميستريالي عندما كان وزيرا للتعليم العالي، وآنذاك مستحيل الحديث عن هذا النظام في الجزائر». ويضيف محدثنا:» رفض اقتراحي باعتماد العلوم الإدارية بحكم وجود المدرسة العليا للإدارة وليس من الممكن إنشاء مدرستين بنفس التخصص في الجامعة «، مشيرا إلى أنه ثلاث ساعات اجتماع في الرئاسة مع بن يحيى، وفي الأخير قرر اعتماد علوم التنظيم، وطلب منه تحضير المواد وتنشيطها قائلا له: « موضوعي أقوى من موضوعك، ثم غير تسمية كلية الحقوق بالعلوم الإدارية والقانونية «. وبحسب شهادة بوحوش فإن الفقيد ليس إنسانا قاصرا يفعل ما يقال له، كان يتبع النظام الأمريكي المرتكز على التشاور ومعرفة كل الآراء ثم يأخذ بالرأي الصائب الذي يقتنع به ويراه الأنسب، مضيفا أن المرحوم لم يكن يخاف لا من بومدين ولا من الطلبة ولا حتى الأساتذة. ويروي بوحوش حادثة وقعت له مع الفقيد عام 1975 عندما كان يشتغل بالرئاسة وأراد العودة للتدريس، لكن محمد الصديق بن يحيى رفض طلبه لأن هناك تعليمة تنص على أن من يملك شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية والقانون لا تسمح له بممارسة نشاط أستاذ محاضر يجب عليه المرور عبر التدرج، فقط الذين لديهم دكتوراه في تخصص التاريخ أو العلوم من يسمح لهم بالتدريس. ورغم أن محدثنا قدم شكوى ثلاث مرات على التوالي إلا أن محمد الصديق بن يحيى رفض مساعدته بالقول: «لو ساعدتك سيتهمونني بأنني أدعم إبن منطقتي «، ما دفع بوحوش للاتصال بالسفير الأسبق المرحوم محمد صالح دمبري الذي كان أحد طلبته لدراسة الموضوع وعرضه على مدير الوظيف العمومي آنذاك عبد الكريم حساني، هذا الأخير طلب من مدير الدراسات بوزارة التعليم العالي مراد بن أشنهو بالتعامل على قدر من المساواة مع كل من يحمل شهادة الدكتوراه وتطبيق القانون الجزائري الذي يتناسب معنا، ونفذ القرار وألغيت التعليمة الفرنسية واستفاد بوحوش من منصب أستاذ محاضر بالجامعة بفضل دمبري وحساني.