اعترف الشيخ عبد الرزاق ڤسوم في حوار مع جريدة “الشعب” بوجود تحولات كبيرة في المجتمع الجزائري أثرت بشكل كبير على مكانة القيم والدين، وهو ما جعل بعض الظواهر السلبية تنتشر على غرار اكتساح المادة كأساس للعلاقات الاجتماعية، وبروز العنف اللفظي والجسدي، وتراجع دور الأسرة والمدرسة والمسجد في مجال تربية النشء بعد أن تم الاهتمام بالتعليم فقط. كما تطرق فضيلته إلى محاولات إغراء الجمعية للانخراط في العمل الحزبي، وهاجس الاسلاموفوبيا، وطرق نشر الإسلام الصحيح، وتوضيح رؤية وموقف جمعية العلماء المسلمين من الكفاح المسلح خلال الثورة التحريرية المباركة، بالإضافة إلى أجواء التحضير لشهر رمضان.. ”الشعب”: كيف تقيم أداء الجمعية في ظل التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها الجزائر؟ ll الشيخ عبد الرزاق ڤسوم: أولا، يجب أن نؤكد على حقيقة وهي أن جمعية العلماء المسلمين هي أم الجمعيات في الجزائر من حيث نشأتها التي كانت في 5 ماي 1935، ولها كل الشرف والمصداقية لأن تكون الحكم العادل بين مختلف الاتجاهات الوطنية والإسلامية والعلمانية وغيرها، وبالتالي فنحن نضطلع بمسؤولية ثقيلة، ونحن مطالبون بان نكون في مستوى التحديات. أما عن التحولات التي عاشتها وتعيشها الجزائر، وكذا التحولات الإقليمية والدولية فهي بمثابة تحديات تزيد من تحفيز جمعية العلماء المسلمين في تطوير آدائها للاستجابة إلى تطلعات المجتمع الجزائري والأمة العربية بصفة عامة، فعلى المستوى الداخلي يهمنا الانخراط في بناء الديمقراطية الفتية في الجزائر، والتحسيس بأهمية الانتخابات لصيانة الوطن من كل الهزات الأمنية والسياسية. وبالنظر لدور ومكانة الجمعية فقد اتصلت بنا عدة أحزاب سياسية قصد الانخراط فيها وخوض الانتخابات تحت مظلتها لكننا رفضنا الانحياز والتحزب، وأوضحنا للجميع أننا ندعم الايجابية والحياد مع جميع الاتجاهات، وفاءا لخط الجمعية، فنحن لسنا خصما لأي تيار سياسي. وتبقى علاقاتنا مبنية كذلك على قدر التوافق مع مبادئنا وثوابتنا التي لا تتسامح مع التقصير في الإسلام واللغة العربية والوحدة الوطنية، وهي الثوابت التي تفرض علينا الاستقلالية والتزام الحياد وبها نحدد مستوى علاقاتنا مع مختلف التيارات. وعلى الصعيد الخارجي تبقى تربطنا علاقات ثقافية مع عديد الدول كتونس وليبيا ومصر وموريتانيا والمغرب.. وحتى فرنسا، وهي بعيدة كل البعد عن السياسية والتحزب، ونبقى نعمل على تحسين العلاقات مع هذه البلدان والعمل على تعزيز الأمن والأمان والاستقرار، ونحن نحضر لقاءات وملتقيات في كل الدول لتطوير وتحسين علاقات الجمعية والتعريف بمختلف مبادئ الإسلام الحنيف لبناء مستقبل يسوده التسامح والاعتدال واحترام قناعات كل فرد. l رفضتم التحزب، فهل تعارضون الممارسة السياسية؟ وألا تتخوفون من التأثير على مكانة الحركة أو فهمها خطأ؟ ll لا نخفي على أحد توجهنا، فالتحزب ممنوع علينا بينما السياسة نمارسها بطريقة عادية جدا لأننا مطالبون بالمشاركة في تنوير الرأي العام بأسس العلاقة بين الشعب والسلطة والعلاقة بين مختلف أفراد المجتمع عن قناعة وأهداف نبيلة تخدم المصلحة العامة والوطن. l لقد عاد بقوة هاجس الإسلاموفوبيا وازدادت الهجمات المعادية للإسلام، فكيف يمكن تصحيح هذه النظرة في ظل العلاقات الدولية المتوترة؟ ll أولا، يجب التأكيد على أن جمعية العلماء المسلمين منذ نشأتها تعمل على حماية الإسلام والدفاع عن السنة الشريفة وتبني المنهج المالكي مع تشجيع التفتح والتسامح لبناء مسلم متوازن عقيدة ومذهبا وحتى إيديولوجيا، وكل ذلك من مقومات الإسلام. وشعبنا وفروعنا الولائية والبلدية والقائمون بالوعظ والإرشاد المنتشرون عبر كامل التراب الوطني يتبنون هذا النهج في المساجد ومع المواطنين من أجل التعريف بالإسلام انطلاقا من مصادره ومراجعه الصحيحة قصد قطع الطريق على كل استغلال للدين الحنيف، والتصدي لكل التجاوزات والغلو اللذين يحاولون ربطهما بالإسلام أو من خلال مرجعيات يحاولون إلصاقها بالدين الإسلامي، وهو ما تطلب منا التحرك قصد تغليب كفة الكلمة الطيبة والحوار الهادئ والمجادلة بالتالي هي أحسن، وهي طريقة للرد داخليا وخارجيا على محاولات الأعداء الرامية لتشويه صورة الإسلام مع محاولة توعية الشباب والمثقفين بأبعاد وخلفيات الحملة المعادية للإسلام. وأؤكد أن المهمة ليست سهلة بالنظر للإمكانيات الضخمة التي سخرها أعداء الإسلام لهذه الحملة والتي تسعى لتقديم الدين الإسلامي على أنه مبني على العنف اللفظي والجسدي والعدوانية والإرهاب بجميع أشكاله، غير أن مسعانا سيتحقق بإذن الله بوقف هذه الحملات. l هل تعتقدون أن تصحيح صورة الإسلام ممكن في ظل الترسانة الإعلامية والتكنولوجية التي يمتلكها الغرب؟ ll حقيقة الذي ينظر لهذه الترسانة الإعلامية والتكنولوجية الغربية يفهم كيف بسطوا هيمنتهم الثقافية والإيديولوجية ومن ثمة فرض منطقهم، ونحن مطالبون باتباع مجموعة من الخصائص أهمها تثقيف الشباب الجزائري والعربي بحقيقة دينه من خلال ثقافة موضوعية مع السعي إلى أن تكون إلزامية في كل الاختصاصات الجامعية لتحقيق توازن بين العلوم الدينية والدنيوية، فلا يعقل أن يتخرج طبيب دون أن يعرف أبسط مقاصد الدين الإسلامي. ومن العوامل التي يمكن أن نقاوم بها هذه الهيمنة الغربية إعادة مسؤولية المرجعية الدينية للعلماء الأكفاء المتشبعين بعلوم الشريعة والملتزمين بمذهبهم والمتمكنين من اللغات والمتحكمين في التكنولوجيات الحديثة والمحصنين بالوطنية والاعتدال والتسامح. وتبقى وسائل الإعلام الوطنية وتلك التابعة للدول العربية والإسلامية مطالبة بتقديم خطاب يستمد حقيقته من واقع الأمة والمجتمع والابتعاد عن نقل القضايا الخيالية والميثالية البالية التي لم يعد لها وجود في عالمنا اليوم. وأعتقد أن النهوض بالخطاب المسجدي وإسناده إلى علماء مكونين مطلعين على حال المجتمع وظروفه ومشاكله وملمين بمختلف المسائل الوطنية والدولية، مثلما سبق ذكره، من شانه أن يصحح الكثير من الاختلالات ويساهم في تقديم الصورة الحقيقة للإسلام والمسلمين، وهذه هي أسس تجديد الخطاب الديني. l ألا تتصورون أن الحديث عن الخطاب المسجدي والأئمة والعلماء من شانه أن يخلق تداخلا مع دور وزارة الشؤون الدينية والأوقاف؟ ll لا، بالعكس، الحديث عن مسائل النهوض بالخطاب المسجدي ومنح العلماء المكانة اللازمة والتكوين اللازم ليس تداخلا بقدر ما هو عمل مشترك ومنسق مع وزارة الشؤون الدينية والأوقاف التي تتعامل معنا بثقة كبيرة حيث نحظى برعاية مميزة، فعند تنظيمنا لأي ملتقى على مستوى التراب الوطني تضع الوزارة تحت تصرفنا كل الإمكانيات والتسهيلات. l هل صحيح أن المادة طغت على حياة الجزائريين، واذا كان الأمر كذلك ماذا تقترحون لمعالجة هذا الاختلال؟ وهل للموضوع علاقة بانتشار الآفات الاجتماعية؟ وهل تبادرون بإسداء النصح للهيئات والمسؤولين في إطار نشاطكم التوعوي والتحسيسي؟ ll بالفعل، لقد عرفت الحياة الاجتماعية والاقتصادية للجزائريين تحولات كبيرة، ولا يخفى على أحد اليوم طغيان المادة على جل المعاملات، لكن العيب هو في أن نتخلى عن القيم الروحية والأخلاقية، فالإسلام ليس ضد من يحسن أموره المادية والاقتصادية ولكنه حذر من الإقبال المتوحش أو الأعمى على المادة، فالإنسان المسلم عقله مليء بالقيم السامية، وبالتالي فهو يمنح حصانة من التعلق بالمادة فقط. وعليه فالتوزان في الحياة أمر مهم للغاية حتى نتفادى سيطرة الدنيا على قلوبنا. ويعود انتشار الآفات في المجتمع بالدرجة الأولى إلى تخلي الفرد عن قيمه ومبادئه وابتعاده عن الدين لأن ذلك يجعل منه إنسانا سهل الانحراف والميول للآفات، وحتى عقيدته تتزعزع وينعكس ذلك سلبا على علاقته مع الأسرة والعائلة والمجتمع، وحتى مردوده الاقتصادي ووعيه بأمهات القضايا يتراجع. وعليه فان تجنيد طاقات الأمة من علماء ومثقفين وجامعيين لإعادة الثقة للمواطن من خلال غرس قيم الإسلام واللغة العربية فيه، وهذا ما يؤدي إلى تحصينه وتكوين مواطن صالح يحافظ على أخلاقه ومبادئه وثوابته الوطنية. كما أن الأسرة والمدرسة والمسجد مطالبون برد الاعتبار للتربية لأن الجميع حاليا يٌعلم ولا يربي، وهو ما يؤثر على تنشئة الأجيال الصاعدة. وحتى إعادة الاهتمام للثقافة الإسلامية أمر مهم جدا في وقتنا الحالي للنهوض بالمجتمع والعمل على رد الاعتبار لكل ماهو إسلامي وعربي دون إغفال التحولات التكنولوجية والتزود باللغات الأجنبية التي نبقى نذكر بها في كل مرة لما لها من دور في ترقية الحوار وتعزيز الفهم والتفهم وغيرها من المجالات التي يمكن أن نؤثر فيها. وباختصار، فهذه الأمور من شأنها أن تضع حدا لمحاولات التدخل الأجنبي في منظومتنا التربوية التي يهدفون من خلالها لطمس كل ما له علاقة بالإسلام. أما من ناحية إسداء النصح للمسؤولين والهيئات فنحن نتواضع لهذا الجانب ومن باب الاحترام نحن لا نبخل على أي من يتصل بنا من أجل الاستشارة أو رأي في الأفكار أو المبادرات. l لقد أحدث موقف جمعية العلماء المسلمين من العمل المسلح عشية تفجير الثورة التحريرية جدلا كبيرا بين من يؤكد المساندة والرفض، فهل لكم أن تضعوا القراء في الصورة وتزيلون الغموض عن الرأي العام الوطني؟ ll إن هذه النقطة التي يستعملها الكثير ممن يعيشون في ضبابية قصد الإساءة لسمعة جمعية العلماء المسلمين، أقول إن الجمعية كانت السباقة للدعوة إلى العمل المسلح في سنوات الثلاثينيات، وأذهب بعيدا بالقول أن الثورة هي التي التحقت بجمعية العلماء المسلمين، فما كتبه الشيخ عبد الحميد بن باديس في الثلاثينات حول الاستعمار ما هو إلا دعوة للانتفاضة ضد الاستعمار، وقد طالب في نهاية الثلاثينات بتكوين جبهة موحدة تجمع كل الجزائريين بمن فيهم أعضاء الحزب الشيوعي في 1953 تحسبا للتفاوض، وقد تم ذلك بقيادة الشهيد العربي التبسي، وهي الجبهة الأولى التي سبقت الجبهة الثانية التي هي جبهة التحرير الوطني التي أنشئت في 1954، وحديث الشيخ البشير الإبراهيمي “إن استرجاع ما أخذ بالقوة لن يكون إلا بالقوة”. وفي نفس السياق فقد أصدر الشيخ الراحل البشير الإبراهيمي بيانا في 2 نوفمبر 1954 وتم إذاعته يوم 3 نوفمبر 1954 دعا فيه الشعب الجزائري إلى مساندة الثورة، والإشكال الذي يحاول البعض إثارته هو سعي جمعية العلماء المسلمين لمعرفة قادة الثورة قبل إعلان التأييد والولاء لها، وهو ما حدث بعد أن تم الاطمئنان للشخصيات التي تقود الثورة. lشهر رمضان على الأبواب، بماذا تتوجهون للشعب الجزائري في ظل محاولات ربط الشهر الكريم بالمادة والأسعار بعيدا عن قيمه السمحة؟ ll إن شهر رمضان كما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو شهر الأمة وشهر الإنسانية، ويجب أن نرى فيه مقومات الأمة ماديا ومعنويا، ومنه فالابتعاد عن الجشع واحتكار المواد الأساسية أمر مهم مع التركيز على الترويج للروحانيات لتحقيق التوازن النفسي، فالوازع الديني له دور مهم في هذا المجال دون إغفال الجانب القانوني الذي يجب أن يكون حازما في التعامل مع المضاربين والمحتكرين. وحتى العلماء والأئمة مطالبون بالانخراط في التحسيس بأهمية الترفع عن الصفات السلبية التي تزيد من متاعب المسلمين في شهر الرحمة حتى نتمكن من التفرغ لرد صفات التسامح والتضامن والتخلص من العنف الذي يطبع السلوك وإلا سنكون قد فشلنا في إحياء الشهر الكريم. ويجب على كل مواطن أن يسمو من خلال التركيز على العبادات وترك الملذات.