ظلت المساجد منارات تضيء حياة البشرية منذ بناء أول مسجد في الإسلام، ومنها خرج العلماء والمفكِّرون والأدباء والساسة والزعماء والقادة، الذين غيَّروا التاريخ في أكثر من منعطف، ولم تكن في يوم من الأيام مكانا منغلقا على مريديه، يعيدهم إلى دنيا تجاوزوها أو أخرى لم يأت بها الدين، فكانت مآذنه صداحة على الدوام بالحق، تُبشِّر الناس بما تهوى أنفس الطاهرين منهم والمحبّين للحياة، باعتبارها معْبَرا ربّانيا لدار الخلود، حتى ولو خرج من ظهرانيهم مَن وصف تلك المآذن بأنها "الصواريخ التي لا تنطلق" أو آخر يسعى إلى توجيهها إلى صدور أهلها وأبنائها، لتكون مواقع لانتحارات المسلمين، في أكثر من رقعة جغرافية من بلاد الإسلام، وفي أكثر من موقعة تاريخية، ولا تزال نارها تشتعل بيننا إلى اليوم . استطاع المسجد- في الليالي الحالكات من فترة الاحتلال- أن يقوم بدور كبير، في الحفاظ على مُكوِّنات الأمة، وظل مُحرِّكا أساسيا لها، يُحرِّضها على الثورة ضد حالة الضعف المفروضة عليها، وقد تفوَّق على المؤسسات العلمية الإستراتيجية الكولونيالية، حينما تخرّجت من "زواياه"جحافل من الرجال والنساء استطاعوا تحويل بوصلة السير في الاتجاه الصحيح، مما جعل أعداء الأمة، يستنسخون نماذج مُزيَّفة من تلك المساجد، حاولت أن تلعب دور المُثبِّط للعزائم، انطلاقا من تفسير متعمّدِ الإساءة إلى قيّم الإسلام، كقول منشِّطيها إن الاحتلال الفرنسي قضاء وقدر، ولأن الإسلام يفرض على أتباعه الإيمان بهما، فإنه يُحرَّم الوقوف في وجه "الاستعمار" فحدث صراع مرير بين الأصل والنسخة المُشوَّهة، اجتهد كلٌّ منهما في ترويض الآخر لصالح "الجماعة" التي تقف وراءه، إلا أن الانتصار كان لجماعة الحق، وسقطت النسخة . الجزائر التي انتصر لها دينها، خرجت من دائرة الاحتلال مطمئنّة على حال مساجدها، فأهملتها ولم تُولِها العناية التي تستحقها، في اللحظة التاريخية المفصلية من انبعاثها الجديد، مما ترك الساحة فارغة يتسلل منها البعض، ويحتل تلك المساجد في غفلة من الدولة، التي يُعتَبَر الإسلام أحد أدلّة الإثبات على وجودها حسب دستورها، وهو احتلال يوازي ذلك الذي اغتصب فيه بعض المندسّين مراكز حساسة في مفاصل الدولة، فعاثوا فيها فسادا وخرابا وفتنة، ولم تستفق من حالة "التّرْك" إلا عندما اتّجه سكان المساجد الجدد ببيوت الله إلى وِجهة مغايرة لتلك التي تريدها معظم فئات الشعب ونخبه الإيجابية، اختلطت فيها سياسة التحزّب، بطرق الشعوذة السياسية، بالأفكار الشاذة الدخيلة على المجتمع، بعدما أقحمها أصحابها في أصول الدين، ولم تتفطّن الجزائر للوضع المستجد إلا حينما أصبحت الجوامع، ساحات لتجميع كلِّ مَن لا يتلاقى توجّه الدولة الوطنية المدنية مع هواه، وتجنيده من أجل التنديد بها، بل غدت محاضن لإنتاج الحقد عليها والعمل على الإطاحة بها، خاصة في ظل بيئة اتُّهِمت فيها مؤسساتها بكل أنواع الفساد والإفساد العام، إلى أن انفتحت على الجزائريين أبواب الموت، في بداية تسعينيات القرن الماضي، بفعل تصارع المصالح الشخصية والفئوية والأيديولوجية، ولم تستطع تلك المساجد إخمادها، لتحصد الآلاف من الأرواح، وتحرق ملايير الدولارات، وتترك آثارا مدمِّرة، ما زالت تُحدِث المزيد من الحروق على أكثر من مستوى، ومن يومها لم يعد المسجد آمنا، يطمئنّ فيه المسلم على نفسه التي فقدت كثيرا من قيمتها، وعلى عقيدته الواحدة التي تعدّدت، وعلى دنياه التي حوّلها المستثمرون في الدِّين إلى جهنم . لم تستعد الجزائر كامل عافيتها، بعد استرداد كثيرٍ من أمنها وهيبتها، لأن الخطاب المسجدي مازال خارج مجال المسعى الوطني العام شعبيا ورسميا، حيث أكّد ثلاثة وثلاثون في المائة (33٪) من جزائريين كانوا عيِّنة لبحث أنجزته جامعة بسكرة، أنهم يأخذون فتاواهم في أمور دينهم وما تعلق منها بدنياهم، من خارج مساجد الوطن ومن مملكة آل سعود بالدرجة الأولى، ولا يثقون في مشايخهم الذين تظن الجزائر أنهم فرسان مساجدها، وقد يكون لهؤلاء الحق إذا ما عرفنا أن ستة وأربعين في المائة (46٪) من الأئمّة المستجوَبين لفائدة نفس البحث، يعتقدون أن إمامتهم ليست سوى وظيفة يسترزقون بها، ولا علاقة لها بالمهمة المقدّسة التي يُفترَض أن يقوم بها المسجد لصالح دولة المجتمع . انزوى المسجد وتقوقع بعدما أصبح خطابه الموجَّه لرواد المساجد عموما، لا يدور إلا حول مسائل النكاح والحيض والنفاس ونواقض الوضوء، ويغرق في أسئلة هامشية، يثير مجرّد طرحها سخرية الآخر، كقول بعضهم بجواز إرضاع المرأة لزميلها كي يُصبِح من محارمها، والصراع بين محلِّلي مصافحة المرأة ومُحرِّميه، ويشتدّ الصخب حول نصف المجتمع هل هي عورة ؟ وغير ذلك من الحكايات التي شغلت فائض وقت الأولين في العصور الغابرة، أما واقع المسلمين اليوم- كلٌّ في بقعته الجغرافية- فقد تركها المتحدِّثون إلى أناس آخرين في منابر أخرى، كثيرا ما تناقضت مع قيّم الإسلام، وربما زادت أتباعَه توتّرا فيما بينهم، وهم الذين لاقى بينهم في هذه الجامعة المانعة، لتدارس حياتهم وأخراهم اللتيْن لم يفصل بينهما، بل جعل أُولاهما إمّا معْبَرًا آمنا يمر عليه التّوابون إلى الأخرى، أو مصيدة يسقط فيها المُصِرّون على الخطيئة، وأعتقد أنه لتخليص المسجد من حالة الخواء والاغتراب عن المجتمع المسلم المعاصر، يجب أن يتجدَّد خطابه العام، وينفتح على أساتذة ودكاترة من مختلف التخصصات الإنسانية الاتصالية والعلمية والتكنولوجية، يتعرّض كل أستاذ "داعية"- ومن داخل المسجد- إلى قضايا الواقع المعيشة، التي من شأنها أن تعمل- فعلا- على إعادة بناء المجتمع الأصيل المعاصر المتحرِّك نحو استجلاب المستقبل، فذلك يعُتبَر بداية واعدة لترميم دوْر المسجد، وتخليصه من محدودية بعض أولئك الذين لا يملكون سوى خطاب التوظيف، من لدن وزارة الشؤون الدينية وهم يظنون أنهم يملكون الحقيقة كلها، حتى ظهر مِن بينهم مَن لم يجد من فتوى يُعلِن بها عن نفسه، غير تلك التي حَرَّم بها احترام السلام الوطني والوقوف عند سماعه، إن السماء المفتوحة على الجميع، بتكنولوجية اتصال عالية التصويب والإغراء والجذب، تدق أجراسها لكل من به صمم، فإن لم نُسرِع الخُطَى في الاتجاه الصحيح، ضاع المسجد مرة أخرى، وتحوّل إلى قاذفة ترمي بحممها على المجتمع كله، وفي أحسن الحالات، سيتحوّل إلى دِيرٍ تؤمّه بقايا للمسلمين وإن كثُر المُصَلّون ...