في الوقت الذي كانت فيه الجزائر منشغلة باستكمال بناء مؤسساتها الدستورية، بتنظيم أوّل انتخابات تشريعية في العهد الجديد، كانت تجري على حدود الجزائر أكثر من مناورة عسكرية بمستوى عال من التحرش، بدأت بإعلان فرنسا المخادع عن تعطيل عملية «بارخان» بالساحل، ثم نقل القيادة الأمريكية بالمنطقة وقوات «أفريكوم»، وانتهت بتحريض حفتر، كما تقول مواقع، للتحرك نحو الحدود الجزائرية مباشرة بعد فشل مناورات «الأسد الإفريقي» في تعطيل منظومة إس 400 الجزائرية، فيما وصفته تقديرات بأنه استهداف أمريكي معلن للجزائر يريد إضعافها قبل الدخول معها في حوار استراتيجي جديد قادم لا محاولة، فيما كان الرد الجزائري والروسي سريعا وقوّيا، يستبق ركبان مسار إعادة رسم التوازن الاستراتيجي العسكري بين ضفتي الحوض الغربي للمتوسط ومنطقة الساحل. الرد الميداني الرد الجزائري على هذه المناورات كان في ما هو معلن وما هو غير معلن: سريعا وفعالا، تابعته عن كثب كثير من المواقع العسكرية المتخصصة، التي توقفت عند الرد العسكري المباشر على مناورة حفتر، المدعوم إماراتيا فرنسيا وإسرائيليا، بتحييد سلاح إلكتروني إسرائيلي، أدخل، كما أكدت مصادر، عبر الطرف الإماراتي لقوات حفتر، وتنفيذ عملية انتشار واسعة للقوات على طول ألف كيلومتر من الحدود الشرقية كإجراء رادع، سبق أن ردع مناورات فرنسية مماثلة، وعزل طيران الرافال الفرنسي في المنطقة، وكان له تأثير على القرار الفرنسي بسحب القوات الفرنسية من الساحل وتسليم القيادة للولايات المتحدة. المواقع نفسها ربطت بين هذا التراجع الفرنسي إلى الخلف وإدراج قوات «آفريكوم» في مناورة «الأسد الإفريقي» الأخيرة ل «تمرين افتراضي» بحسب تعبير مجلة «ميليتاري ووتش» استهدف بوضوح وحدتين لمنصات (إيس 400 ) في الناحيتين العسكريتين الثالثة والرابعة بحسب تقرير مفصل للمجلة. وبحسب المجلة، فإن هذه التدريبات تأتي بعد «عقد من توسيع الوجود العسكري الأمريكي في القارة الأفريقية، والذي بدأ عندما قادت أمريكا حملة لتفكيك الحكومة الليبية في عام 2011 بدعم أوروبي»، وهي تدريبات تحاكي «بشكل ملحوظ هجمات على بلدين خياليين هما (روان ونيهون) وكلاهما كانا يقعان على أراضي الجزائر» واعتبرت المجلة أن التركيز على الجزائر ليس فقط، لأنها «القوّة العسكرية الرائدة في المنطقة، أو لأنها لا تزال خارج نطاق نفوذ العالم الغربي، ولكن أيضاً بسبب أنواع الأسلحة التي طبّق المشاركون في تدريبات «الأسد الأفريقي» الهجوم عليها، وهي أسلحة (أس 400) بعيدة المدى، وأنظمة الصواريخ الجوية». وبحسب المجلة، فإن «الجزائر هي المشغّل الوحيد لمنظومة (أس 400) في القارة الأفريقية، وتنشر أيضاً أنظمة (أس 300) الأقدم، وأنظمة متعددة أقصر مدى، مثل (بنتسر وبوك) كما كانت منذ عام 2013 «المستورد الوحيد للأسلحة الروسية من بين الدول العربية والأفريقية» لتضيف من باب التبرير لهذا البعد الجديد في مناورات «الأسد الأفريقي» واستهدافها المباشر لأوّل مرة للجزائر، أن الجزائر تكون قد «صعدت جهودها لتحديث دفاعاتها، منذ أوائل عام 2010، ويرجع ذلك إلى مصير جارتها ليبيا»، وأكدت المجلة أن الجزائر تمثّل «تحدياً هائلاً» لأي مهاجم محتمل، بحيث أن شبكة دفاعها الجوّي هي «أكثر قدرة بكثير» من أي شبكة دفاع جوي واجهتها الولاياتالمتحدة منذ الحرب الكورية». أسلحة الجيل الخامس ولأن هذا التهديد كان مباشرا وصريحا، فقد نقل أكثر من موقع تسريبات عن مجريات القمة الروسية الأمريكية الأخيرة، أن الطرف الأمريكي قد طرح على طاولة النقاش مساومات بشأن نوعية الأسلحة التي تصدرها روسيا للجزائر، وكان التركيز بالخصوص على أنظمة الدفاع الجوي ( إس400 ) وأسلحة أخرى من الجيل الخامس في مجال سلاح الطيران ومنظومات الصواريخ، طلبات يكون بوتن قد قابلها بكثير من التجاهل، بحسب هذه المصادر، على اعتبار أن روسيا لا تفاوض الولاياتالمتحدة فيما تزود به حلفاءها. غير أن الجزائروروسيا لم يكتفيا بالرد الميداني استخباريا وعمليا على هذه المناورات شرقا وغربا، بل سارعت روسيا مباشرة بعد القمة إلى إرسال وفد عسكري، يوم 17 جوان الماضي، بقيادة مدير المصلحة الفيدرالية للتعاون العسكري والتقني لفدرالية روسيا، ديميتري شوغاييف، الرئيس المشترك للجنة الحكومية الجزائرية الروسية المكلفة بالتعاون العسكري والتقني، حضر اللقاء عن الجانب الجزائري، إلى جانب رئيس الأركان الفريق شنقريحة، كل من رئيس دائرة المؤن، ومديرين مركزيين بوزارة الدفاع الوطني، وعن الجانب الروسي سفير فيدرالية روسيابالجزائر، والمدير العام لشركة (روزوبورون إكسبور) وتناولت المحادثات بين الطرفين مختلف جوانب التعاون العسكري والتقني، وسبل تطويرها وتنويعها وتعزيزها أكثر، وذلك من خلال منح هذا التعاون مضمونا أوسع في قطاعات. الحوار الاستراتيجي ومع أن اللقاء أحيط بكثير من التكتم من الطرفين، فإن تنظيمه، غداة القمة الروسية الأمريكية، قد دفع بالمتابعين للشأن العسكري إلى المضاربة حول مضمونه العسكري، وربطوه بتداعيات الاستهداف العسكري الأمريكي الأخير للجزائر عبر مضمون رسالة مناورة «الأسد الأفريقي» وذكر أنه قد خصص لسبل تعزيز الدفاعات الجوية الجزائرية أمام تهديد أمريكي بات صريحا، وقد يتعاظم على امتداد أغلب حدود البلاد، حتى وإن كان كثير من الخبراء والمحللين قد وضع هذا التصعيد في خانة «الضغط الاستباقي قبل مبادرة الولاياتالمتحدةالأمريكية لفتح حوار استراتيجي جديد مع الجزائر» تفرضه التطورات الجيوسياسية في الحوض الغربي للمتوسط، وفي ربوع الساحل، تعلم الولاياتالمتحدة أنه يفرض عليها، إن عاجلا أو آجلا، فتح مثل هكذا حوار، مع بلد بات يشكل على الأرض قوة إقليمية لا يمكن تجاهلها، لا من جهة أهليتها لقيادة بناء استقرار دائم في الإقليم، ولا من جهة تحكمها في المنفذ الوحيد من الشمال للقارة الإفريقية. ومن جهتها، تعي القيادة الجزائرية حجم وأبعاد هذا التهديد، وتستعد بدورها لفتح أكثر من حوار استراتيجي، سواء مع شركائها التقليديين ( روسيا والصين) أو مع الولاياتالمتحدة والقوى المؤثرة داخل حلف النيتو ( الولاياتالمتحدة، ألمانيا، إيطاليا، فرنسا، وتركيا وإسبانيا) فقد سارع قائد الأركان الفريق شنقريحة إلى زيارة موسكو، الاثنين الماضي، تلبية لدعوة من وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو، وكشفت وزارة الدفاع الوطني في الجزائر، عن أن الفريق شنقريحة سيشارك في فعاليات الندوة التاسعة للأمن الدولي، التي تنظمها فيدرالية روسيا، يومي 23 و24 جوان الجاري بموسكو. الزيارة بدورها، حركت المواقع العسكرية المتخصصة، التي نسبت للزيارة مضامين عسكرية بحتة، تقول أنها مخصصة لإبرام صفقات تسليح جديدة مستعجلة، منها: تعزيز منظومات الدفاع الجوي بمزيد من الوحدات من بطاريات (إس 400 ) وتسريع صفقات سابقة تشمل طائرات (سوخوي 57 وسو 35 وسو 34) التي كانت كثيرا من الضغوط الفرنسية والأمريكية قد عطلت تنفيذها في وقت سابق. وأيا كان مضمون هذه الزيارة، فإنها ليست ببعيدة عن استحقاقات مستجدة أمام البلدين تجاه هذا التهديد وأمام الضغوط التي قد تتصاعد على الجزائر، بعد الانسحاب الفرنسي وتراجع أدواره سواء في الساحل أو في ليبيا وحتى في المغرب، وتسليمه القيادة ميدانيا للولايات المتحدة، بعد اعترافه بالفشل في عملية (باراخان) وانحسار دوره في الملف الليبي. هذا التحرك السريع نحو تنشيط العلاقات الجيوستراتجية بين الجزائروموسكو، يتجاوز منسوب التهديد الذي رافق مناورات «الأسد الإفريقي2021 ) بمضمونها الجديد، أو التحريك السافر لقوات حفتر، التي فتحت مثل المغرب بوابة جديدة لحضور إسرائيلي مباشر، أو عبر دور إماراتي فرنسي محتمل في غرب وجنوب ليبيا، بل يتعداه إلى استباق المواجهات القادمة حول السيطرة على الحوض الغربي للمتوسط شمالا، وامتداداته بإقليم الساحل، الذي تعتبره أوروبا «حدودا جنوبية لأمنها القومي» وترى فيه الولاياتالمتحدة «ساحة لوقف النفوذ الروسي والصيني نحو قلب القارة السمراء». غرب المتوسط والساحل وفي هذا السياق ليس من الصدفة أن تتزامن ثلاث مناورات، اشترك فيها أكثر من طرف، حيث نفذت الولاياتالمتحدة مناورة «الأسد الإفريقي» ضد منظومة (إس 400) من قاعدتها في إيطاليا، وبطائرة ب 52 غربا انطلاقا من المغرب، فيما اشتركت فرنساوإيطاليا في نفس الفترة في مناورة بحرية تحت عنوان (فالكون 50 ) بسفينة «فريم» الايطالية، كانت تستهدف حسب بيان لوزارة الدفاع الفرنسية منظومة دفاع جوي بالمنطقة، مع العلم أنه لا يوجد في المنطقة، من ليبيا شرقا إلى خليج غينيا جنوبا، أي نظام دفاع جوي أهل للاستهداف سوى أنظمة الدفاع الجوي الجزائرية. وحتى تكتمل المناورة الكبرى، وتتخذ شكل «العدوان الثلاثي» على الجزائر، حركت حفتر نحو الحدود الليبية الجزائرية لتمنح غطاء لتجربة سلاح إلكتروني إسرائيلي موجه للتشويش على روابط (الجي بي إس) للمنظومات الرادارية الجزائرية بشرق البلاد، ومعها محاولة جر الجزائر لردة فعل غير محسوبة، قد تشوش على مخرجات لقاء أمس بألمانيا حول الأزمة الليبية وعلى الدور الجزائري المرتقب في حل الأزمة الليبية. وفي الجملة قد تكون هذه آخر فرصة، سواء لفرنسا أو للولايات المتحدة ولحلف النيتو، ل «تغيير موازين القوة بالإقليم» تريد استباق القادم من التغييرات الجيوستراتجية الأمنية والسياسية والاقتصادية، التي سوف يشهدها الحوض الغربي للمتوسط ومنطقة شمال إفريقيا والساحل، سوف يكون موضوعها الرئيس: النفاذ إلى قلب إفريقيا بعد ترويض منطقة الساحل، ومسار طريق الحرير المعتمد على «محور الجزائرنيجيريا» مع تفريعاته الجهوية، ومعه معركة السيطرة على مناجم توليد الطاقات البديلة (الشمسية والهيدروجين)، بوصفها «طاقة مؤسسة لثورة صناعية وتكنولوجية ترث عهد الطاقات الأحفورية». طريق الحرير ومناجم الطاقة الخضراء فالجزائر التي تعرضت لهذه المناورات في بحر أسبوعين، ليست هي المؤهل الأول والوحيد، لعبور طريق الحرير إلى قلب إفريقيا، بما أنجز حتى الآن على مستوى الإنشاءات القاعدية التي كلفت البلد أكثر من 2.6 مليار دولار على الطريق العابر للصحراء، بل هي أكثر الدول تأهيلا لتمكين القارة الأوروبية من تحقيق «الانتقال الطاقوي» عبر التمويل الآمن بالغاز أولا، ثم ب «الطاقة الخضراء الصرفة» عبر الهيدروجين، المرشح أوروبيا لتحقيق الهدف الذي سطرته للتخلص من جميع الطاقات المنتجة للانبعاث الحراري قبل حلول سنة 2050، وقد بدأت الدول الرائدة في هذه التكنولوجيات ( ألمانيا الدنمارك واليابان) تستكشف آفاق «التعشيق» المحتمل بين الطاقة الشمسية كمصدر نظيف، ليس فقط لتوليد الكهرباء، بل ولاستعمالها في إنتاج الهيدروجين الذي له ميزتان: وسيلة جيدة لتخزين الطاقة الكهربائية، ثم باعتباره وسيلة آمنة تنقل عبر الأنابيب مثل الغاز الطبيعي إلى مواطن استهلاك الطاقة بأوروبا كبديل للطاقات الأحفورية والنووية. موقع الجزائر الفريد، المطل على الأبيض المتوسط، وبصحراء شاسعة توفر احتياطي لإنتاج الطاقة الشمسية الضوئية والحرارية هو الأكبر في العالم، الأقرب إلى أكبر سوق للاستهلاك الطاقوي، ليس له اليوم في المنطقة منافس على احتضان المرفق الرئيس لإنتاج «الطاقة الخضراء» من الهيدروجين، تستهلك محليا على طول الطريق العابر للصحراء، وينقل الباقي عبر الأنابيب إلى أوروبا، ليكون في حدود الخمسينيات من هذا القرن المحرك الأول ل «الاقتصاد الجديد الصديق للبيئة» ولأن الموقع الجغرافي للجزائر له هذه الامتيازات، فإنه مؤهل لاحتضان تنافس بين القوى العالمية من الشرق ومن الغرب دون إقصاء، فهو يرحّب، لا محالة، بالتنين الصيني وبالنمور الأسيوية في كل ما يتصل بنقل جانب من آلة الإنتاج الصناعي إلى قلب إفريقيا، وتوطينها لصالح سوق افريقية نامية، يقدر تعداد سكانها في حدود 2050 بحوالي 2,6 مليار نسمة، هي بحاجة إلى رفع دخل الفرد فيها إلى المستوى الأسيوي في الحد الأدنى، كما يرحب هذا الفضاء بالاستثمارات الأوروبية المعنية خاصة بضمان مصدر آمن ومستدام للطاقة الخضراء. استقلالية القرار الجزائري وفي هذا السياق، فإن سياسة الجزائر المتمسكة بعدم الانحياز التي أعاد التذكير بها، أمس الأول، وزير الخارجية، صبري بوقادوم، في أشغال الاجتماع الوزاري للجنة فلسطين التابعة لحركة دول عدم الانحياز، تظل حريصة على استقلال قرارها، وقد سبق أن قدمت منذ الاستقلال أكثر من شاهد على استعدادها للتعامل مع جميع الشركاء من الشرق والغرب في آن واحد، ولم يمنعها على سبيل المثال تسلحها في الأساس من روسيا من الانفتاح على قوى أخرى مثل ألمانياوإيطاليا والصين وحتى الولاياتالمتحدةالأمريكية، كما لم تمنعها صداقتها التاريخية مع المعسكر الشرقي سابقا من الانفتاح على الاستثمارات الغربية خاصة في مجال المحروقات، وما تزال أوروبا هي الشريك الاقتصادي والتجاري الأول، وبقدر ما رفضت محاولات فرنسية وخاصة أمريكية، لبناء قواعد عسكرية على التراب الوطني، فقد رفضت عروضا روسية مماثلة قائمة حتى الآن، وربما كان اصرارها على الإنفاق العسكري يتجاوز حدود الحرص المشروع على حماية البلد، مما تعرضت له الجارة ليبيا، لأنها كانت تريد إقناع جميع الأطراف، بأن «حماية فضائها الوطني والإقليمي هو شأن داخلي صرف» لن تفوضه لأي قوة. ومع هذا الحرص على صيانة السيادة الكاملة، والاستعداد للدفاع عنها، فقد قدمت الجزائر شواهد كثيرة على احترامها للشرعية الدولية وحرصها على بناء الثقة وحسن الجوار، فلا أزمة الصحراء الغربية المزمنة على حدودها الغربية منذ قرابة نصف قرن، ولا الأزمة الليبية، وأزمات الساحل الموحلة، أثرت في قرارها المبدئي بعدم التدخل في الشأن الداخلي لجيرانها، وفي احترامها المبدئي للحدود الموروثة عن الاستعمار. غير أن تكرار مثل هذه الاستفزازات على طول حدودها في الاتجاهات الثلاثة، وانتقالها مؤخرا إلى استهداف مباشر لفضائها عبر مناورتين لأقطاب في حلف النيتو، تستغل الفوضى القائمة في دول الساحل وعلى حدودها الغربية والشرقية، قد تحمل الجزائر على تطوير هذه السياسة من «ملزمة لحماية حدود البلد، إلى الحق في حماية أمنها القومي في فضائها الإقليمي، الذي أشبع اليوم بعشرات القواعد الأمريكية والفرنسية، ويشهد بداية حضور للكيان الصهيوني غربا وشرقا، خاصة وان الدستور الجديد قد حرر الجيش الوطني الشعبي من القيود السابقة، وأهله اليوم للعب دور دستوري في «حماية مصالح البلد بعد واجب حماية الحدود».