تداعت شوارع وأزقة المدينة القديمة وتحولت بفعل الإهمال وفشل عمليات الترميم وإعادة الاعتبار لأطلال وبقايا بنايات لا تزال تتشبث بأعمدة الترميم التي وضعت منذ سنوات وتحديدا في 2015 والتي لا تزال قائمة لحد اليوم. هذه الأخيرة التي تحولت من وسيلة للترميم وإعادة المنظور الجمالي للمدينة القديمة إلى مجرد أعمدة وسلالم تهدد المارة والتجار بالسقوط والانهيار المفاجئ، ما جعل الوضع المتدهور والمتدني للمدينة العتيقة، التي تعتبر من أكبر المواقع الأثرية والتي تمتد على مساحة 37 هكتارا، لا تنفك وأن تتراجع جراء إفراغها من سكانها «الأصليين» واستغلت بطريقة عشوائية من طرف عابرين انتهزوا شغورها للإقامة بها بصفة مؤقتة من أجل الاستفادة من سكنات اجتماعية، الأمر الذي ساهم جدّيا في تدهورها إلى درجة القضاء على نمطها المعماري العتيق، حيث قام العديد من السكان الوافدين إليها بهدم أجزاء وبناء أجزاء شوّهت معظم مداخلها ومخارجها، مع صمت الجهات المعنية المكلفة بحمايتها من أيادي التهديم التي تطال مدينة تعجّ بتاريخ عظيم ومع انتظار هؤلاء للسكن الاجتماعي تموت المدينة العتيقة ببطء. أحياء وشوارع عناوين تُقاوم الزمن «الشعب» وفي جولة استطلاعية رصدت عديد الأحياء والأزقة العتيقة التي تصنع بمجدها وتاريخها مصطلح المدينة القديمة، التي تمثل وسط مدينة قسنطينة بنسبة عالية، فالمدينة القديمة لا تقتصر فقط على السويقة وبناياتها وإنما تضم أحياء القصبة ورحبة الصوف، الشارع والجزارين، الرصيف ورحبة الجمال، وهي أزقة وشوارع قديمة قدم المدينة، تحتضن مدارس قرآنية عتيقة، زوايا ومساجد، آثار وفنون تعود لحقب زمنية قديمة، هذه الأخيرة تعرف نفس الوضعية التي آلت إليها السويقة وبناياتها، فمع عمليات الترحيل تفاقمت وضعيتها وزادتها محاولات الترميم تدهورا. المدينة العتيقة المتكونة من تجمع لسكنات ومبان قديمة والتي تعتبر مرآة لهوية جماعية لا يزال القلب المنهك ينبض لمدينة ساهم التوسع العمراني الكبير الذي شهدته خلال العقود الأخيرة في «إمتصاص» هذا الجزء العريق من تاريخ المدينة في انتظار عملية حفظ مستدامة وناجعة. بين النية المعلنة والواقع لا تزال تعاني مدينة قسنطينة القديمة إلى اليوم من تدهور شديد في نسيجها العمراني بعد ما فقدت نحو ثلث بناياتها، منذ استقلال الجزائر، وأما الباقي فهو مهدد بالانهيار بالرغم من تصنيفها ضمن التراث الوطني في 1990. هذه المدينة التي تصنف كتراث عمراني إسلامي وشاهد بارز على تقاليد وثقافة المجتمع الحضري المحلي وكجزء حي من الذاكرة الجماعية الجزائرية والإسلامية، مهددة بالزوال إذا لم تسارع الدولة والسكان إلى الاهتمام بها على الرغم من مجهودات الدولة التي تبذل، منذ 1980، للمحافظة على هذا التراث العمراني، والتي باءت كلها بالفشل. «الشعب» في حديثها مع سكان المدينة العتيقة استنكروا الوضع المتهالك لبنايات السويقة وباقي الشوارع والأزقة القديمة التي تشكل طابع المدينة وهوية سكانها مطالبين بإنقاذ ما تبقى من هذا التراث الثقافي والحضاري الذي ينهار على مرأى مشاريع الترميم والمخططات التي لم تجسد لإنقاذ ما تبقى من القلب النابض للمدينة الصخرة، حيث لا تزال اليوم تصارع الزوال والاندثار بفضل سكانها المتشبثين بعاداتها وتقاليدها فتجدها مفعمة بالحيوية والنشاط صباحا بفضل المحلات التجارية التي لا تزال تقدم خدمات خاصة بالمدينة وعاداتها لتتحول ليلا الى مدينة أشباح. غياب ثقافة الترميم والحفاظ على التراث من جهتها أكدت البروفيسور ومديرة البحوث الهندسية والمعمارية، الخبيرة في التراث، عضو مؤسسة الأكاديمية الجزائرية للعلوم والتكنولوجيات، سامية بن عباس، على أن ثقافة الحفاظ على التراث منعدمة لدى جميع الاطراف، حيث أن المدينة القديمة تعتبر أقدم إرث كمدينة في الجزائر، يعود تاريخها إلى ما قبل القرن الرابع قبل الميلاد، حيث تحدثت عن أولى محاولات الترميم لكن بذوق التهديم، حيث أنه في سنة 1985 تم وضع شركة تابعة للبلدية الأم اختصت في هدم البنايات القديمة من خلال لجنة متكونة من إداريين، شرطي، رجل حماية مدنية، تكفلت بالخروج الى مواقع البنايات القديمة بعد بلوغهم نداءات بالانهيار، وهنا كشفت أن هذه المؤسسة هي المسؤولة عن تخريب قرابة 50 بالمائة من المنازل ومسؤولة عنها وتركتها وسط الركام ولحقت الكارثة سنة 2010 حين تم تهديم 34 منزلا بحجة التساقط المطري وتضررها، ما أدى إلى إحداث ضرر بحوالي 120 منزل مجاور آخر. وترك الركام كجزء من ديكور المدينة إلى غاية تظاهرة قسنطينة (عاصمة الثقافة العربية) وبقيت عمليات التنظيف حبرا على ورق لحد الساعة، وهو الأمر نفسه بالنسبة للمخطط الدائم للحفاظ على المدينة القديمة الذي وضع القواعد وكيفية حماية التراث، بحيث يتم وبطريقة مباشرة ترحيلهم نحو سكنات جديدة ليتم تهديم البناية دون مراعاة معايير الهدم مع ترك مخلفاته. حلم فنادق سياحية ومطاعم تقليدية في سنة 1994 تم إدراج المدينة القديمة ضمن مخطط شغل الأراضي والذي أستغل كأداة للعمران التراثي والمحافظة على السويقة ليتم التخطيط لإعادة الاعتبار للبنايات العتيقة وتحويلها لفنادق سياحية ومطاعم تقليدية تعكس عادات المدينة وإعطاء الطابع الاقتصادي ما يسمح بالحصول على مداخيل تساعد في استكمال برامج الترميم، إلا أن البرامج التي وضعت مع تعاقب المسؤولين لم تتجسد على أرض الواقع، بالرغم من وجود «الدراسة والبرامج والأرضية»، كما كانت هناك محاولة ترميم سنة 2011، أين تم استقدام مكاتب دراسات من غرداية لإعادة ترميم بنايات السويقة إلا أن نوعية البنايات بين الولايتين مختلف وهو ما ساهم أيضا في تسريع انهيارها، لتليها مرحلة استعداد الولاية لاستضافة تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية سنة 2015، أين تم إهمال ترميم البنايات فعليا والاقتصار على تجميل الواجهات فقط، ما تسبب في انهيار البنايات التي برمجت للترميم والتي قدرت ب 74 بناية آنذاك، لم يتم إنجاز إلا 4 منها، وتركت قسنطينة على حالها بزيادة خرابها، خاصة المساجد التي تعد روحها. «روح الملح» للإضرار بالأساسات وواصلت المتحدثة، أن بعد الاستقلال عرفت المدينة نزوحا ريفيا كبيرا خاصة سنوات الستينيات والسبعينيات، فيما تحول سكان المدينة العتيقة إلى باقي الأحياء الراقية وتركوا منازلهم للنازحين من الأرياف بأسر متفرقة، حيث أصبحت تباع المنازل بالقطع المجزأة، بعد أن كان المنزل الواحد يضم «العائلة الكبيرة»، وهنا تقول أول عملية تخريب مسّ المدينة، لتواصل أن ثاني تخريب كان سنة 1984. ومع الدستور الجديد الذي كرس حق المواطن في السكن، استغل البعض هذا «المكسب» في قيامهم بتخريب المنازل العتيقة للحصول على سكن وأصبحت المدينة مركزا لذلك حيث استعمل البعض روح الملح للاضرار بالأساسات، كما أضافت أن ثالث تخريب، كان بعد أن أسست الشركة البلدية للانجاز التي أوكلت لها مهمة ترميم المدينة القديمة، إلا أن العملية كلفت الكثير حيث أن ترميم منزل واحد يساوي بناء 10 منازل خارج المدينة. خطر استمرار الانهيار العمراني وكشفت الخبيرة في التراث «سامية بلعباس»، أن الإحصائيات التي قدمتها منذ سنوات، وفق بحث أشرفت عليه شمل 1144 عمارة مدرجة ضمن مخطط الحماية التي أعلنت عنه الدولة وفق نصوص قانونية، خضعت 1065 منها فقط للتحقيق من قبل اللجان والمؤسسات المخولة بالحماية دون 99 أخرى، حيث أن 133 وجدت في وضعية حسنة في حين أن 312 في حالة متوسط و575 منها جد متردية والبقية هشة، مواصلة في ذات السياق، أن المنازل التي تتواجد في حالة متردية أغلبها توجد في المدينة العتيقة خاصة المنطقة 3 وتحديدا بحي السويقة، حيث من بين 309 سكن، 294 منها تعرف انهيارات وتدهورا كبيرا. وذكرت أنه من بين أسباب هذا التدهور العدد الكبير للسكان على مستوى هذه الدور والسكن فيها أحيانا بطريقة غير قانونية، يضاف إليها أعمال التوسيع دون اللجوء إلى الجهات المختصة وتهديمها فرديا، مؤكدة أن تجاوز هذه السكنات المنهارة وشبه المنهارة مع باقي السكنات المتضررة يرفع من معدل استمرار الانهيار العمراني مستقبلا، كما أن البنايات «الكولونيالية» أحدثت حالة لا توازن مع النسيج العمراني القديم، حيث أن الارتفاع في البنايات مقارنة مع السكنات القديمة أفقد سكانها دخول الشمس والهواء مع تزايد الرطوبة التي أدت إلى تصدع الجدران.