منذ أن تعثرت عملية إجراء الانتخابات في ديسمبر الماضي، دخلت ليبيا مرحلة من الترقّب زادت حدّتها مع إقدام مجلس النواب على تشكيل حكومة موازية لحكومة الوحدة الوطنية التي تمسكت بمواصلة مهامها وعدم تسليم السلطة، إلا لهيئة ينتخبها الشعب، ما جرّ البلاد إلى انسداد سياسي تجلى واضحا في فشل محادثات القاهرة حول المسار الدستوري وعدم الاتفاق على القاعدة الدستورية للانتخابات الرئاسية والبرلمانية المؤجلة. دخل الوضع في ليبيا مساحة جديدة من التحديات والمخاوف، بعد أن فشلت كل محاولات إعادة إطلاق المسار الانتخابي الذي يعتبر المسار الوحيد الآمن لخروج ليبيا من أزمتها، وآخر هذه المحاولات، كانت مباحثات القاهرة التي بعثت الكثير من الأمل في البداية، خاصة بعد أن أحرزت توافقا غير مسبوق بشأن غالبية النقاط التي كانت عالقة لأمد طويل بما في ذلك تحديد مقار المجلسين «النواب» و»الدولة» وتخصيص عدد المقاعد في غرفتي السلطة التشريعية وتوزيع الصلاحيات بين رئيس الدولة ورئيس الوزراء ومجلس الوزراء والحكومات المحلية، لكن الأمور تعقّدت والخلافات برزت، عندما وصل الوفدان الممثلان لمجلسي النواب والدولة لبحث شروط الترشح لأول انتخابات رئاسية، حيث برز تباين كبير بشأن مسألة السماح للعسكريين ومزدوجي الجنسية من الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، لقد تضاربت المواقف وتناقضت الرؤى وكان الخلاف سيّد الموقف، لتعود الأطراف الليبية من القاهرة دون خبر مفرح تزفّه إلى الشعب الليبي، وحتى لقاء الفرصة الأخيرة بين رئيسي مجلسي النواب والدولة، عقيلة صالح، وخالد المشري، في جنيف انتهى دون اتفاق، ما سدّ أبواب الأمل في انفراجة قريبة رغم أن المستشارة الأممية لدى ليبيا، ستيفاني وليامز، حاولت طمأنة الشعب الليبي، ووعدته بأنها ستبحث عن بديل لحل الأزمة التي تعصف به، كما دعت القادة الليبيين إلى الامتناع عن استخدام تاريخ 22 جوان كأداة للتلاعب السياسي، في إشارة إلى موعد انتهاء المرحلة الانتقالية، الذي حدده ملتقى الحوار الوطني الليبي في. وقد حاول خصوم رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، استغلال انتهاء آجال خارطة الطريق التي أقرّتها الأممالمتحدة، ليطالبوه بتسليم السلطة، لكنه أصرّ على مواصلة مهامه من منطلق أنه يحظى بتفويض أممي، ولأن نهاية ولايته مرهون بتنظيم الانتخابات وهو الأمر الذي لم يحصل. معلوم أن الأممالمتحدة أعلنت قبل أشهر قليلة، أن موقفها لم يتغير إزاء اعتبار عبد الحميد الدبيبة هو الرئيس الحالي للحكومة الليبية، وأنها تجري مشاورات متواصلة مع الليبيين حول هذا الأمر. جاء ذلك وفق ستيفان دوجاريك، المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، عقب اختيار مجلس النواب في طبرق، فتحي باشاغا، رئيسا للحكومة. هذا وإن كانت الأممالمتحدة قد أخفقت في تحقيق اختراق ينهي الأزمة الليبية، فإن محاولاتها ودعواتها لم تتوقف لبعث المسار الانتخابي، تلبية لتطلعات الليبيين الذين سجلوا للتصويت للانتخابات، كما أنها متمسكة بالتوصل إلى ترتيبات جديدة للمرحلة القادمة، يمكن البناء عليها في صياغة توافقات داخلية تحسم الصراعات السياسية الراهنة وتجنّب الانزلاق إلى العنف، خاصة مع انتشار المجموعات المسلحة والمليشيات الأجنبية التي تضمر الشرّ لليبيا وشعبها. المنعرج الخطير الضغط يولّد الانفجار، بهذا القول يمكن أن نفسّر التوتر الحاصل منذ الجمعة الماضية في ليبيا، فبعد أزيد من عقد كامل من الأزمة بكلّ أوصافها وتداعياتها، وبعد أن فشلت كل جهود التسوية، قرّر الشعب الليبي أن يقول كلمته ويدعو إلى إزالة كلّ العقبات التي تقف حجر عثرة أمام الذهاب إلى انتخابات تحقق الاستقرار، مع الإصرار على رفض المرتزقة وتناحر السياسيين والوضع المعيشي القائم. وعكس هذا التحرك الشعبي، الإحباط المتزايد لدى الليبيين من الانقسام السياسي الذي تجدد قبل أشهر، وقسم السلطة إلى حكومتين متنافستين، لاسيما بعد انهيار الانتخابات الليبية التي كانت مقررة في ديسمبر الماضي. والكرة الآن في مرمى السياسيين ليستجيبوا إلى صوت الشعب فيضعوا خلافاتهم جانبا، وينهوا صراعهم المحموم على السلطة، ففي 2013 أجبرت المظاهرات المؤتمر الوطني العام (البرلمان التأسيسي) على عدم التمديد لنفسه مجددا، وكذلك مظاهرات 2020 في طرابلس وبنغازي ومدن أخرى أرغمت أطراف الصراع على التوافق عل حكومة وحدة، ووقف القتال. واليوم أيضا يجب على فرقاء ليبيا أن يجنّبوا البلاد والشعب السقوط في مصيدة العنف، وهذا بإجراءات ملموسة تنهي المرحلة الانتقالية وتعيد المسار الانتخابي، ويبدو إلى اللحظة، أن السياسيين الليبيين الذين هزّتهم احتجاجات الشارع، متعاطفين مع مطالب الشعب المشروعة، وأكدوا التزامهم بتنفيذها. فرئيس المجلس الرئاسي الليبي، محمد المنفي شدد على أهمية التهدئة وإجراء الانتخابات في أقرب الآجال لتجاوز الانسداد السياسي. من جهتها، أكدت وزيرة الخارجية في حكومة الوحدة الوطنية الليبية نجلاء المنقوش وقوفها مع مطالب الشعب ووعدت بحمل رسالة الليبيين في كل لقاءاتها حتى يسمع العالم الصوت المتطلع إلى دولة موحّدة قويّة عبر انتخابات حرة يشارك فيها الجميع دون استثناء. بدوره اصطف رئيس الحكومة الوطنية عبد الحميد الدبيبة إلى جانب المتظاهرين، وشدد على حتمية إجراء الانتخابات. وتعليقاً على احتمال اقتراح فترة انتقالية جديدة للخروج من الأزمة، قال «لن نقبل بمراحل انتقالية أخرى في ليبيا، وسنعمل على تسليم السلطة لمن يختاره الليبيون». كما أضاف: «نرفض أي مناورة سياسية تقسم السلطة بين أشخاص أو جهات بعينها». وختم مشددا على أنه من حق الشعب أن يختار من يريده لإدارة البلاد. لا للعنف نعم للحوار الغضب الذي يحمله الليبيون في صدورهم يجب أن لا يدفعهم مطلقا إلى العنف والفوضى، وللأسف الشديد شهدت في الأيام الماضية أعمال تخريب وحرق طالت حتى مقر البرلمان في طبرق، وهذا المنحنى التصعيدي يشكل خطرا على ليبيا التي عانت من الاحتراب الداخلي في السنوات الماضية ولم تستعد بعض هدوءها إلا بفضل اتفاق وقف إطلاق النار، الموقع في 23 أكتوبر 2020. وإذا كان الجميع متعاطفا مع الشعب الليبي ويدعم رغبته في الأمن والاستقرار. وإجراء الانتخابات، فإن الجميع أيضا يدعوه إلى الهدوء وعدم إخراج حرية الرأي والتعبير عن السلمية، وفي الإطار، دعا ستيفان دوجاريك، المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة المتظاهرين الليبيين إلى تجنب العنف، وحث كل الأطراف على العمل للتغلب على الجمود السياسي الذي يعمق الانقسامات، داعيا كل الأطراف في ليبيا إلى الامتناع عن أي أعمال قد تقوض الاستقرار. من جانبه، دعا السفير الأمريكي ريتشارد نورلاند إلى تجنب العنف، وأكد أن الحوار والتسوية بين الفاعلين الرئيسيين وحدهما سيحددان معالم الطريق للانتخابات والاستقرار السياسي. بدوره، قال الناطق الرسمي باسم الأمين العام لجامعة الدول العربية، جمال رشدي، إن الانتخابات هي السبيل الوحيد لتجديد شرعية جميع المؤسسات الليبية. ونقل الناطق عن أبو الغيط «رفضه الكامل للأفعال الميليشياوية، أو تخريب وتدمير المنشآت العامة للدولة الليبية، كوسيلة مفترضة من البعض للتعبير عن الاحتجاج». الخيارات السلمية هي الحل مرّت ليبيا منذ 2011 بمرحلة صعبة، شهدت العديد من الأحداث والتطورات الخطيرة، بداية بانتشار المرتزقة والمقاتلين الأجانب والمجموعات الإرهابية، إضافة إلى التدخلات الخارجية، إذ أصبحت البلاد حلبة لتنافس وتسابق مجموعة من الدول على فرض نفوذها وسيطرتها على ليبيا، ثم نشوب صراع على السلطة قسّم البلاد وشتّتها بين حكومتين وقيادتين، وقد امتدّ هذا الصراع إلى درجة الاقتتال الداخلي، وحتى الجهود التي بدلها أكثر من طرف لتسوية الأزمة الليبية والتي كان الجميع يعتقد بأنها وضعت قطار السلام على سكته الصحيحة خاصة بعد إقرار وقف القتال وتحديد تاريخ لإجراء الانتخابات، باءت بالفشل، وعاد الانسداد السياسي ليفرض نفسه، لكن هذه المرّة الشعب الليبي، قرّر أن يحسم الأمر، وينهي مرحلة الشدّ والجدب التي طالت، مطالبا بالانتخابات، وهي بالفعل الحلّ الوحيد لإعادة بناء المؤسسات الليبية، ومن خلال ذلك إعادة توحيد الصفوف للتفرّغ لمواجهة باقي التحديات، وعلى رأسها إخراج المقاتلين الأجانب ونزع سلاح المجموعات المسلحة وإدماجها في الحياة العامة، والالتفات إلى إعادة الإعمار. ومن المهم التشديد على أن ما تريده ليبيا اليوم، هو الهدوء والبحث عن الحلول من خلال الحوار لا من خلال العنف والحرق والتخريب، فالخيارات السلمية دائما هي الأصلح والحل يأتي عبر الصندوق، لا عبر فوضى الشوارع. محاولات لمعالجة الانسداد استجابة للمطالب المشروعة لأبناء الشعب الليبي، وتحقيقا لتطلعاتهم للتغيير، أعلن المجلس الرئاسي، التوافق حول إطار عام لخطة عمل تعالج الانسداد السياسي في البلاد، وتكليف عضو المجلس، عبدالله اللافي، إجراء مشاورات عاجلة مع الأطراف السياسية للتوافق على تفاصيلها، وإطلاقها في شكل خارطة طريق تنهي المراحل الانتقالية عبر انتخابات رئاسية وبرلمانية في إطار زمني محدد. ومن أبرز العناصر الحاكمة للخطة «الحفاظ على وحدة البلاد وإنهاء شبح الحرب والانقسام، وتعزيز حالة السلام القائم وتجنب الفوضى، والحد من التدخل الأجنبي والدفع في اتجاه حل وطني يقدم على ما سواه». جاء ذلك بعدما التقى رئيس المجلس محمد المنفي، ممثلين عن 31 حزبا سياسيا، أمس الأول، فوضوا المجلس «بتسلم زمام الأمور، وإصدار مراسيم سيادية تنهي المراحل الانتقالية فورا». وقال المصدر، إن الأحزاب دعت إلى «تحديد موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية بشكل متزامن قبل نهاية العام».وكان رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، قال قبل اجتماع جنيف الذي عُقد في 28 و29 جوان الماضي بين رئيسي مجلسي النواب، عقيلة صالح، والدولة، خالد المشري، أن هذه الاجتماع سيكون «الفيصل»، مؤكدا أنه «لو فشل هذا الاجتماع سيكون لنا كمجلس رئاسي دور باستخدام سلطتنا السيادية حتى لا يترك هذا الأمر للتمطيط والتأجيل». أمام ليبيا اليوم طريق واحد للخروج من أزمتها، وهو تحقيق توافق ينهي الانسداد السياسي ويقود إلى إجراء الانتخابات، وتعيين سلطة واحدة موحدة تعمل بمعية كل الليبيين على إعادة الأمن والاستقرار، والاستجابة للمطالب المعيشية للمواطنين وتعويضهم عما عانوه وما خسروه خلال السنوات ال 11 الماضية. يبقى في الأخير التأكيد على أن الأزمة الليبية لم تصنعها الفواعل الداخلية فقط، بل هناك جهات خارجية عديدة ساهمت في تفاقمها، الأمر الذي يحتّم على هذه الجهات رفع أيديها عن ليبيا وتركها تعالج مشاكلها بنفسها.