نحو استحداث آلية لليقظة والتنبؤ بالأزمات والاستعداد لها أكّد الباحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة بسكرة، نور الصباح عكنوش، أنّ الجزائر تنظر للقمة العربية على أنّها قيمة إستراتيجية وأخلاقية ومستقبلية مضافة للعمل العربي المشترك، في إطار مواجهة التحديات والتجاذبات الخطيرة الآنية والقادمة التي يمر بها العالم.واعتبر البروفيسور عكنوش في حوار أدلى به ل "الشعب"، دور الجزائر الدبلوماسي رياديا على الصعيد العربي، برصيد أصيل ونبيل وتاريخي ورمزي مستمد من تراث الحركة الوطنية المجيدة ومبادئ ثورة أول نوفمبر المظفرة. - الشعب: كيف تقيّمون دور الجزائر في لمّ الشمل العربي في ظلّ التحديات الإقليمية وحالة الاستقطاب الحاد التي تشهدها العلاقات الدولية؟ نور الصباح عكنوش: يجب أن نتفق أنّ القمة العربية تنعقد في واقع نسق دولي مضطرب، الذي يضع العرب أمام تحديات متعدّدة على الأصعدة الجيو إستراتيجية، التنموية، التكنولوجية، البيئية، الغذائية والوجودية المهدّدة لنا في ظلّ الخلافات البينيّة والأزمات الداخلية التي أضعفت بنية ودور الهيكل العربي، وجعلته عاجزا عن تقديم أجوبة واضحة لراهن ومستقبل العمل العربي المشترك. وكلّ تلك التحديات تزيد من ثقل الحمل على كاهل الجزائر في مسعى لمّ الشمل كخيار إستراتيجي، وهي التي دأبت منذ أول مشاركة في القمم العربية، في الفترة ما بين 13 و17 جانفي 1964م، بمصر الشقيقة، أن تؤدّي دورا مركزيا في توحيد الصفّ العربي، والدفاع عن وحدة الأمة في إطار مقاربة دبلوماسية تستند على تراث نضالي كبير ومورد بشري كفء من جهة، وعلى قيم العروبة المستمدة من روح الحركة الوطنية، من جهة أخرى، وهو ما يؤهلها اليوم لإنجاز اختراق على مستوى لمّ الشمل وتحقيق وحدة الصفّ العربي. والحقيقة أنّ الجزائر لم تنتظر انعقاد القمة للدفع بأسباب الإجماع والتوافق بين العرب، حيث نجحت، منذ 15 يوما، في تحقيق مصالحة ووحدة فلسطينية كانت لوقت قريب من الخيال السياسي، وأصبحت اليوم نموذجا جاهزا للتطبيق والتسويق، وقبل ذلك، عملت خلال السنتين الأخيرتين بقوّة على تعزيز قيم الحوار والسلم والوحدة في ليبيا على سبيل المثال لا الحصر، وعليه نخلص إلى أنّ القمة ستكون تتويجا لهذا الدور التوفيقي للجزائر، الذي سيتطوّر موضوعيا من لمّ الشمل إلى التكتل العربي. - بعد مرور ثلاث سنوات على تعذّر انعقادها، تنعقد القمة العربية على أرض الشهداء وفي ذكرى ثورة الفاتح نوفمبر الخالدة في التاريخ، هل يمثل ذلك فرصة حقيقية لإنهاء حالة الاستعصاءات لمواجهة المتغيرات الدولية؟ أعتقد أنّ المكوّن العربي استهلكته الأزمات على اختلاف أشكالها وأبعادها على الأقل في العشرية الأخيرة، التي كانت حبلى بالتنازع والفرقة، حيث لا يمكن اليوم تدبيرها دون شجاعة في المكاشفة والمصارحة بين الأطراف المعنية، وإرادة في التقدم بالعمل العربي المشترك نحو الأمام في مثل قمة كقمة الجزائر، باعتبارها فرصة إستراتيجية لإعادة هندسة المكون العربي "المتعب" و«القلق" ممّا حدث سابقا داخله وحوله، وممّا سيحدث لا قدر الله في أيّ لحظة على تخوم المنطقة المفتوحة على كلّ الاحتمالات في ظلّ فقدان البوصلة، خلال السنوات الأخيرة، وكذا الحاجة الماسة لخارطة طريق جديدة لاستبصار التهديدات والتحديات. ولهذا تبدو القمة نقطة ضوء وسط ظلام حالك، ونتوقع منها بالتالي أن تجنح إلى الآليات ما استطاعت لها سبيلا، لأنّ الأمر ليس هيّنا والأدبيات لم تعد تكفي. لقد استنتجنا مثلا أنّ ما ميّز ما سبق من قمم، هو التخمة في الأدبيات وندرة الآليات أو الميكانيزمات العملية لحلحلة الوضع العربي المتموضع في حالة انتظار حدوث شيء ما، دون المبادرة والتحرك ضمن رؤية مشتركة لاستباق الأزمات وحلّها بأقل التكاليف وأسرع وقت. رهانات المرحلة تَتَطلّب استدراك الوقت السياسي والتنموي الذي ضاع مع جائحة كورونا وبعدها حرب أوكرانيا وغيرها من الأزمات المستجدة، إذ يجب على عجل النهوض من جديد بمشروع حضاري عربي متكامل، والجزائر بحنكتها السياسية تدرك خطورة اللحظة التاريخية وتضع العرب في الصورة من خلال القمة قبل فوات الأوان. — هل يُمثّل التئام القادة العرب في الجزائر سانحة لتحقيق تكامل بأبعاد سياسية واقتصادية وأمنية لطالما تطلعت إليه شعوب المنطقة؟ الجامعة العربية كمؤسسة نؤمن اليوم كنخب أنّها تحتاج إلى حوكمة بمعايير جديدة على صعيد إصلاح هيكلي ووظيفي شامل، يسمح لها بأن تكون بيئة حاضنة لتكامل وإتحاد سياسي واقتصادي وأمني عربي مثلما ترنو له الشعوب العربية بعد إخفاقات سابقة. ويَتأتّى ذلك من خلال اقتراح مشاريع تنموية مشتركة، وفتح أسواق بينية وتبادل الخبرات والتجارب في مجال البورصة، الاستثمار في الثروة وحركة رؤوس الأموال، مع البحث في تعزيز رقم التبادلات البينية الضعيف، حتى الآن، عبر دعم دور المجتمع المدني العربي والقطاع الخاص، لتحقيق اندماج أكبر سينعكس إيجابيا على الاستقرار والتنمية في المنطقة، ويضمن تأمينها من كلّ الهزّات مستقبلا. مع العلم أنّه لا يمكن الفصل بين المتطلبات الاقتصادية والسياسية والأمنية لتجسيد التكامل وإنهاء مرحلة التكاسل التي ميّزت العمل العربي في الحقبة السابقة، وضيّعت على الأمة فرصا حقيقية للإقلاع الحضاري الذي يمكن إعادة تفعيله في إطار إتحاد بالمعنى البراغماتي وفق مقتضيات العولمة في القرن 21. - تمكنت الجزائر بفضل دورها الدبلوماسي الرصين من فضّ بعض الخلافات العربية العربية، كيف حققت ذلك؟ الدور الدبلوماسي للجزائر على الصعيد العربي دور أصيل ونبيل، فهو مبني على رصيد تاريخي ورمزي من تراث الحركة الوطنية المجيدة ومبادئ ثورة أول نوفمبر الخالدة، بدءا بدور الوفد الخارجي في القاهرة، خلال خمسينيات القرن الماضي، والمشاركة في مؤتمر باندونغ لعدم الانحياز، إلى عضوية الأممالمتحدة فرئاسة الجمعية العامة للمنتظم الأممي وحلّ أزمة الرهائن الأمريكان في طهران، وصولاً إلى إعلان الدولة الفلسطينية وغيرها من نقاط القوة الكثيرة جدا في سجل الدبلوماسية الجزائرية الحافل بالإنجازات التاريخية لصالح العرب والعالم. وعليه لا غرو أن تنعكس هذه الخلفية النضالية والروح الثورية على جودة أداء الدبلوماسية الجزائرية التي اصطبغت، طيلة الستين سنة الماضية من تاريخها، بصبغة نوفمبرية في مقاربتها لحلّ الأزمات ومعالجتها للقضايا وصناعتها للتّسويات، وكذا اقتراحها للحلول على مستوى قضايا الأمة العربية، وهو ما لمسناه أكثر في الديناميكية الجديدة للنشاط الدبلوماسي الجزائري في بعده العربي، خلال العامين الأخيرين، وفاءً لتقاليد حميدة أجمعت العرب حكومات وشعوبا على أهميته في حلّ أعقد الأزمات، بالاعتماد على المصداقية والثقة التي تطمئِنّ لها مختلف الأطراف. مصداقية الجزائر الدبلوماسية نابعة من كونها لا تطلب مقابلا ولا تبغي غنيمة ولا مصلحة من وراء تدخلها في حلّ الأزمات، بل هدفها مبدئي يجعل منها ركنا شديدا يأوي له كلّ الفرقاء لحلّّ مشاكلهم وخلافاتهم، وهو ما يشهد به الجميع دون مجاملة من خلال تجارب ناجحة معها في إدارة أصعب المواقف في صمت وبعيدا عن الأضواء، تنظر لأيّ بؤرة توتر في العالم العربي وفي محيطه الجغرافي من منظور الأمن القومي العربي المشترك وليس من منظور ذاتي، ممّا يفسّر سعيها على مستوى آخر للعب دور في حلّ أزمة سدّ النهضة بين مصر وإثيوبيا تغليبا لمصلحة الأمن المائي العربي ككلّ. - لماذا الجزائر حريصة على إنجاح القمة وتحقيق التكامل العربي، من وجهة نظركم؟ الجزائر بكلّ ثقة وقوّة لديها جاهزية لوجيستيكية وتنظيمية من جهة، وقابلية تاريخية ومعنوية، من جهة أخرى، لاحتضان الحدث العربي الأول، وتنظر إلى القمة العربية كقيمة إستراتيجية وأخلاقية ومستقبلية مضافة للعمل العربي المشترك أمام التحديات الخطيرة الآنية والقادمة. وكما قال رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون "الجزائر أولى بلمّ الشمل العربي"، فإنّ هذه الأولوية التي تحوزها نجدها تدفع بأسباب إنجاح القمّة، وبالرغم من كونها عادية إجرائيا وموضوعيا إلاّ أنّها بسياق وأفق غير عادي في محيط استثنائي تدرك الجزائر انعكاساته السلبية على وجود العرب كأمة تتربص بها الدوائر، وتهدّدها يوميا مختلف أجيال المخاطر الظاهرة والخفيّة. لهذا حتى لا يرتد الوضع على الأمة بشكل أكثر سوءاً ممّا هو عليه الآن، تقترح الجزائر بشجاعة وبمسؤولية فرصة جديدة للملمة الوضع العربي، واستدراك ما ضاع من وقت ثمين بالمعنى التنموي والحيوي والوجودي في سنوات عجاف. — ^^ كيف تتوقعون تعاطي القمة مع بعض الأزمات؟ ^ القمة تنعقد في سياق أزماتي مؤثر على صحة الجسم العربي، وهو من طبيعة البيئة العربية الراهنة بتراكماتها،، طيلة العشرية الأخيرة، بما عطّل العمل العربي المشترك، وبالتالي يجب أن نبحث بواقعية عن آليات جديدة لحلّ الوضع بسرعة وفعالية وبمنظور إستراتيجي وليس مناسباتيا. وهنا يمكن للجامعة العربية كمؤسسة جامعة أن تنجز أشياء إيجابية بدعم الإرادات الخيّرة في مناطق الأزمات، وإيجاد صيغ حوار وتفاهم حميدة بين الأطراف المختلفة بعيدا عن التأثيرات الخارجية من قوى محيطة تعمل بالمال والإعلام والسلاح على تأزيم الوضع الداخلي العربي، ومحاولة تفكيكه بما يخدم مصالحها على حساب أمن واستقرار المنطقة لجعلها رخوة وهشّة بالمعنى الجيو سياسي من أجل استغلال ثرواتها وإضعاف جبهتها الداخلية. في هذا الخصوص، نرى بأهمية "تعريب" الحلول إن صح التعبير لصالح الدول العربية التي تعاني من الاحتراب الداخلي وتنظر مجتمعاتها بأمل نحو مخرجات القمة العربية لصناعة فرص السلام واستدامته، بعيدا عن لعبة الأمم الكبرى التي تداعت على الوطن العربي بنحو خطير وخطير جدا. - توقيع إعلان الجزائر للمصالحة الفلسطينية سبق انعقاد القمة العربية بأسبوعين، هل المناسبة مواتية لتجسيده واقعا بجهود جميع الأطراف الفاعلة عربياً؟ يُمكن لقمة الجزائر على ضوء التراكم الدبلوماسي الإيجابي، أن تكون الإطار المرجعي الحاضن والضامن لتجسيد إعلان الجزائر للمّ الشمل وتحقيق الوحدة الفلسطينية، وضمان بقائه على قيد الحياة، بل ونموّه وتطوّره إلى حقيقة هيكليّة وبنائيّة وسياسيّة على أرض فلسطين، لاسيما وأنها قمّة فلسطين بالدرجة الأولى، وهي مسؤولية جماعية في ظل التهديدات الخطيرة وغير المسبوقة التي تكاد تعصف بالقضية، كما تخطط له بعض غرف التفكير الغربية والصهيونية. نتوقع أن يكون إعلان الجزائر إعلانا مستداما بحيث يؤثر على الأمد البعيد في المشهد الفلسطيني، باعتباره ليس إعلان لحظة وإنّما هو عمل متكامل الأركان نحو التأسيس لحالة فلسطينية جديدة ستنعكس إيجابا على مستقبل القضية، نظرا إلى أنّه يحتوي على نقاط إجرائية هامة جدا في منظور الانتخابات وإعادة بناء المؤسسات الفلسطينية والعودة لشرعية الشعب الفلسطيني السيد، فضلا عن تفعيل دور النخب الفلسطينية على صعيد تحقيق مشروع الدولة الذي كان إعلانها أيضا بالجزائر في نوفمبر 1988 م. - لكي لا تكون مخرجات القمة العربية حبرا على ورق، ماذا تقترحون من آليات عملية لإنجاح تفعيل القرارات المتوقعة؟ حتى تكون مخرجات القمة العربية عملية ومسندة بآليات واقعية لتجسيد القرارات، يجب أولاً مرافقة مخرجات القمة وفق أجندة محددة وآلية على مستوى القادة لكي تشرف على متابعة نتائجها في مختلف الملفات التي تحوز التوافق وعلى رأسها القضية الفلسطينية وتقييمها بشكل دوري. وثانياً التفكير بجدية في استحداث آلية لليقظة الإستراتيجية للتنبؤ بالأزمات والاستعداد لها، ووضع خطط لإدارتها بمختلف الأبعاد كالأمن والطاقة والغذاء مرورا إلى المياه والإرهاب والإنترنيت والأوبئة الجديدة وغيرها، ومن ذلك ما حدث مع جائحة كورونا، حيث واجهها العرب بشكل فردي دون رؤية جماعية، أو في ظل ما يحدث وما سيحدث مع حرب أوكرانيا التي يختلف العرب في موقفهم منها. أمّا على المستوى الثالث فلابد من دعم دور المجتمع المدني العربي في صناعة القرار داخل الجامعة العربية، وإشراكه في صياغة الرؤى داخل النظام السياسي العربي في إطار تشاركي. ورابعا تفعيل العلاقات مع التكتلات الإقليمية والدولية الأخرى للاستفادة من تجاربها وعملها نحو إصلاح حقيقي للجامعة العربية حتى تصبح لاعبا هاما في الساحة الدولية، من خلال البحث العلمي عن آلية خاصة بتحويل الجامعة العربية إلى إتحاد عربي متكامل ببعد اقتصادي ينسجم بمرونة وفعالية مع المتغيرات البنيوية العالمية المتسارعة في حاضرنا.