ليس من السهل أن تكتب عن قامة وشخصية متعدّدة في تكوينها، وتمثل بالنسبة لقطاع واسع من المثقفين والباحثين نموذجا للباحث الجاد والرسالي، والذي عرف الأستاذ الدكتور أبوالقاسم سعد عن قرب، سيدرك أن هذا الرجل يعد واحدا من رجالات الفكر والبحث المتميزين، الذين تداخلت عوامل عديدة في تكوين وصقل شخصيته الفكرية. هو شاعر وناقد أدبي وباحث ومؤرخ ومفكّر ومجاهد وإعلامي، وهو مؤسس المدرسة التاريخية في الجزائر، كان الرجل عالما بحق، زاهدا ورافضا لكل المناصب السامية التي عرضت عليه، وعاش وكرّس حياته للعلم ولكتابة تاريخ الجزائر الحديث، لذا يقول أبو القاسم سعد الله عن مؤلفاته وعن نفسه «... من أراد أن يعرفني عليه أن لا يكتفي بالقراءة السطحية والعابرة لمؤلفاتي، بل عليه أن يغوص فيها عميقا..» وهو الذي ألّف 56 مؤلفا تناول فيها عديد القضايا المختلفة في الحياة الجزائرية التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية والأدبية، حيث كان يكتب في القضايا الشائكة والأفكار الجامحة، وكتاباته كلها كانت تحيل إلى مرجعية ورؤية وأسلوب تفكير سعد الله المتميز بالعمق والبحث الجاد والإيمان بالديمقرطية والتعدّد، وهو لا يدعي أبدا أنه يمتلك الحقيقة المطلقة. إن سعد الله يمتلك مشروعا اشتغل عليه لسنوات عدة، انقسم المشروع إلى مشروعين أحدهما متعلقا بالحركة الوطنية، والآخر مرتبطا بتاريخ الجزائر الثقافي وترميم الذاكرة وإعادة بناء الذات. ولهذا كما ذكرت سابقا أن الحديث عن أبي القاسم سعد الله ومساره العلمي يحتاج منا إلى قراءة متأنية وعميقة لجهوده وحياته وكفاحه، وتتبع سيرته الغنية والمؤلمة من أجل التعرّف عليه، وتقديمه للقارئ بصورة واضحة وشفافة. تعرفت على الراحل الدكتور أبوالقاسم سعد الله في نهاية السبعينيات، وأنا تلميذ في التعليم الثانوي، عندما كنت أتهجى الكتابة الشعرية في بداياتي، حيث اطلعت على شعره وخاصة قصيدته «طريقي» التي كانت بيان تحديث للشعر الجزائري، هذه القصيدة البيان نشرت في جريدة البصائر بتاريخ 23 مارس 1955 العدد 313، ثم أعيد نشرها في ديوان «الزمن الأخضر»، هذا أول لقاء بسعد الله، عندها عرفت سعد الله الشاعر، ثم تعرفت عليه عن قرب عندما كنت طالبا في جامعة الجزائر وعند اشتغالي بالصحافة في الثمانينيات من القرن الماضي. يقول سعد الله في قصيدة «طريقي» يارفيقي لا تلمني عن مروقي فقد اخترت طريقي وطريقي كالحياة شائك الأهداف مجهول السمات عاصف التيار وحشي النضال صاخت الأنات عربيد الخيال كل مافيه جراحات تسيل وظلام وشكاوى وحول تتراءى كطيوف من حتوف في طريقي يارفيقي ... من هذه الطريق وهذا المروق يختار سعد الله طريقه، ويرسم مساره شعريا وثوريا وعلميا، طريق بدأها من وادي سوف التي ولد فيها بلقاسم سنة 1930 في «البدوع» بقمار، والتي تعود تسميتها أبو القاسم سعد الله الإبداع، وأرجعها إلى الأصل العربي البدع والابتداع، أي إنشاء الشئ من لاشئ. ولد سعد الله وترعرع في أسرة تنتسب إلى عرشين كبيرين هما عرش «أولاد عبد القادر» من جهة الأب أحمد بن محمد بن سعد، وعرش «أولاد بوعافية « من جهة الأم العبيدية هالي ابنة الأخضر بن مبارك بن سالم، كانت نشأته في هذه الأسرة الكريمة التي تمتهن الزراعة، خاصة غراسة النخيل وزرع مساحات من التبغ الذي كان المورد المالي للعائلة، عاش سعد الله الفقر الشديد تحت السياسة الاستعمارية العسكرية بوادي سوف، التي اتبعت سياسة التجهيل والتفقير والمرض، ويذكر سعد الله أن الناس أثناء الحرب العالمية الثانية، «كانوا يتناولون أوراقا من النباتات الجافة عوض نبتة الشاي وكنا نأكل في اليوم تمرات معدودات لكل واحد منا،،،»، أما اللباس فلا يذكر سعد الله انه لبس جديدا في تلك الفترة كان الكبير يترك لباسه للصغير، وبالرغم من هذا الفقر وشغف العيش الذي تعيشه العائلة، وحاجة الوالد الفلاح لابنه بلقاسم «هو الاسم الرسمي في الحالة المدنية»، لكي يعينه في أشغال الفلاحة، إلا أن والده كان حريصا، رغم كل الظروف التي تعيشها الأسرة، على أن يدرس ابنه بلقاسم ويتعلّم، لقد كان والده يردّد على مسامعه دائما «لقد أوقفتك في سبيل العلم»، أما والدته فيحكى أنها رأت في منامها أضواء باهرة تغطي فناء البيت وتمتد مع البصر، سارعت وهي مندهشة لكي تتضرع لله سبحانه وتعالى أن يفتح على ابنها «بالعلم الشريف»، حفز الوالدان الطفل بلقاسم على شقّ طريقه نحو العلم والمجد المعرفي، وكان الفضل أيضا لخاله الشيخ الحفناوي هالي وزوج خالته الشيخ محمد الطاهر تليلي، هذان الرجلان أثرا كثيرا في شخصية أبي القاسم سعد الله، فهما متعلمان في جامع الزيتونة بتونس. ألحقه والده في سنّ الخامسة بجامع القرية لحفظ القرآن الكريم إلى أن ختمه كاملا سنة 1944، وصلى جماعة بالناس صلاة التراويح في مسجد القرية طيلة شهر رمضان وذلك سنة 1946، المؤكد أن سعد الله لم ينتسب في هذه الفترة إلى المدرسة الفرنسية النظامية، وذلك بسبب رفض الأهالي لها. قرّر أبو القاسم سعد الله متأثرا بخاله الشيخ الحفناوي هالي، الالتحاق بجامع الزيتونة بتونس، لاستكمال دراسته، إلا أن ظروفه المادية حالت دون التحاقه هذه السنة، ّ سفره إلى السنة الموالية حتى يجمع بعض المال، وبدأ في حفظ المتون وهي ضرورية للدخول إلى الزيتونة. رحلة العلم من الزيتونة إلى القاهرة يذكر سعد الله دائما أسباب سفره إلى تونس من أجل التحصيل العلمي في الزيتونة، من بينها تشجيع والده له على خوض التجربة، ووالدته التي كانت شديدة الحرص على أن يكون ابنها بلقاسم عالما مثل أخيها الشيخ الحفناوي الذي التحق بجامع الزيتونة وعاد منه وهو حاصل على شهادة التطويع، لقد كان لصديق والده الشيخ محمد الطاهر التليلي دور كبير في إرسال أبي القاسم سعد الله إلى تونس وجامعها العامر الزيتونة. أتيحت لسعد الله الفرصة سنة 1947 لولوج عوالم جامع الزيتونة، الذي كان متعلقا به لاستكمال دراسته، ومعجبا بطلبته من أبناء بلدته الذين كانوا عادة يلبسون لباسا تونسيا يتمثل في الجبة والشاشية الحمراء وهو لباس الطلبة الزيتونيين، كانوا متميزين بأناقتهم على مستوى اللباس ويمتلكون ثقافة واسعة ويتحكّمون في اللغة ويحفظون الأشعار والأمثال والمسائل الفقهية والنحوية، فكان أبوالقاسم سعد الله عندما يجلس إليهم، يكون مستمعا جيدا ويتملكه شئ من الاندهاش والانبهار، وأسر في نفسه كل هذا الإعجاب والدهشة وظل يمني النفس أن يكون مثلهم حفظا ولباسا ومعرفة. التحق سعد الله بمستوى السنة الأولى لأن مستواه وزاده المعرفي كان بسيطا، لا يؤهله دخول السنة الثانية أو الثالثة، حيث وجد نفسه كما يذكر لا يحسن حتى تحرير رسالة ولا يتقن أحكام ترتيل القرآن الكريم، ولا مبادئ الحساب ولا قواعد الفقه، لذلك خضع لامتحان عسير مكّنه من التسجيل في السنة الأولى، نظام التعليم بجامع الزيتونة الدراسة لمدة 7 سنوات، منها 4 سنوات لشهادة الأهلية و3 سنوات للتحصيل، وكل فرع أو جامع يمثل سنة دراسية، حيث يعرف الطلبة بمستوياتهم الدراسية حسب الجامع الذي ينتمون إليه، حيث ينتظم الطلبة في حلقات حول شيخ من المشايخ المكلف بتدريس علم من العلوم الواجبة عليهم. لقد فسحت تونس للطالب سعد الله الطموح المجال واسعا، لكي ينهل من حلقات الدرس داخل جامع الزيتونة، والتواصل خارجه بالمنتديات الأدبية، والمكتبات وصفحات الجرائد، كانت رحلته في هذا الفضاء والمشهد الأدبي والثقافي التونسيالجزائري مشوقا وممتعا، حيث صقّل سعد الله موهبته وأسّس لشخصيته وملامحها المستقبلية وطموحاته العلمية. عاد المرحوم سعد الله إلى الجزائر يوم 19 نوفمبر 1954، بعد حصوله على شهادة التحصيل من جامع الزيتونة، حيث رفضت جمعية العلماء طلبه للمنحة لاستكمال دراسته، لأن طموحه أكبر من الشهادة التي تحصّل عليها، وعليه عاد من أجل الحصول على عمل بمدينة الجزائر، ومكّنته الجمعية من التدريس في إحدى مدارسها الحرة، ودرس لعام كامل بين مدرستي الثبات بالحراش والتهذيب بعين الباردة، جمع من منصب عمله هذا، مصاريف السفر للدراسة بالمشرق. اعترضت سعد الله مشكلة نوعا ما مستعصية، وهي كيفية حصوله على جواز سفر للخروج من الجزائر، فالمدة التي قضاها بالجزائر لم تمكنه إصدار جواز سفر، لأن المدة كانت قصيرة جدا، لم تكن تخوله للحصول على إقامة رسمية من الجهات الإدارية المختصة، لأن الإدارة الاستعمارية رفضت منحه جواز السفر بحجة عدم أداء الخدمة العسكرية الإجبارية. رجع مرة أخرى سعد الله إلى تونس لاستخراج جواز السفر، وذلك لأنه كان مقيما بها طالبا لمدة 7 سنوات، ولتواجد جالية جزائرية من السوافة، الذين طلب منهم مساعدته في إجراءات السفر إلى المشرق، فقد تمكّن من الاتصال بصديقه الشيخ علي خلف الذي كان سهرا للشيخ الطاهر جميل شيخ «الجالية القمارية» بتونس، وبتدخل منه مكن سعد الله من استخراج جواز سفر. استطاع أبو القاسم سعد الله أن يسافر إلى القاهرة، وقد وصلها بعد جهد ومشقة وتعطيل بسبب تأشيرة الدخول إلى مصر، وصل القاهرة بالطائرة يوم 24 سبتمبر 1955، لم يكن يعرف أحدا هناك في مصر، والذي ظلّ عالقا في ذهنه هو مكتب جمعية العلماء بالقاهرة، وذهب إليه ونزل سعد الله ضيفا عند الشيخ الإبراهيمي لمدة أسبوعين، إلى حين تمكنه من ترتيب أموره، بدأت مساعيه من أجل التسجيل في جامعات القاهرة، لكن باءت كل جهوده بالفشل، وبعد تحركات وتدخلات كتب له الله عز وجل التسجيل بإحدى الجامعات المصرية، حيث تمّ قبوله في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، بعد دخوله مسابقة القبول في 12 ديسمبر 1955، يقول سعد الله «.. بعد اختبار أو مقابلة قبلت في كلية دار العلوم، وفتح لي المجال للإقامة والحصول على منحة من الجامعة العربية، وقد أنقذني أمام اللجنة حفظ القرآن الكريم، وقراءة أبيات من قصيدتي «الطين». اندمج سعد الله في الواقع المصري، رغم كل الصعوبات والمشاكل التي عاشها منذ قدومه القاهرة، خاصة الخلاف الذي حدث بينه وبين الشيخ الإبراهيمي، وهو نتيجة سوء تفاهم لم يكن لسعد الله فيه أي دور، إنما الظروف المحيطة ببعثة جمعية العلماء وعلاقة الشيخ الإبراهيمي ببعض الفعاليات المصرية، أدى إلى اختلاف في الرؤى بين الشيخ الإبراهيمي والسلطات المصرية، وهذه الظروف كان ضحيتها سعد الله من جهتين، علاقته بالشيخ الإبراهيمي وعلاقته بأعضاء البعثة وأشخاص كان لهم دور كبير في تأجيج الصراع وإشعال نار الفتنة، وذلك بسبب مقال كتبه سعد الله في البصائر عن جهود الشيخ الإبراهيمي وأعماله في سبيل الجزائر وخدمة الطلبة، وهذا المقال جلب له نقمة من كانوا مع وضد الشيخ الإبراهيمي، وعن هذه المحنة التي عاشها قال سعد الله «.. لست من هؤلاء ولا من هؤلاء ظلما وبهتانا وعدوانا..». لقد أثرت هذه الحادثة في نفسية المرحوم سعد الله وكادت تعصف بأحلامه في مواصلة الدراسة والرجوع إلى الجزائر بخفي حنين كما يقول المثل العربي، لكن إرادة الله جعلت سعد الله يصبر ويحتسب على هذا البلاء الذي انجلت حقيقته واتضحت وسرعان مازال ذلك اللبس، لأن علاقة سعد الله بالجمعية وشيوخها ورجالاتها المخلصين ومبادئها وأفكارها قوية. عندما سجل المرحوم سعد الله بدار العلوم جامعة القاهرة، كان من بين الأساتذة الذين درسوه تمام حسان وإبراهيم أنيس وحامد إبراهيم ومحمد قاسم وأحمد هيكل وعبد الرحمن أيوب وعمر الدسوقي وهم من خيرة وأفضل الأساتذة في الجامعة المصرية، وبعد الدراسة المنتظمة تمكّن سعد الله من الحصول على شهادة الليسانس في الأدب العربي والعلوم الإسلامية وذلك في جويلية سنة 1959. تقدّم الأستاذ أبوالقاسم سعد الله إلى وزارة الثقافة في الحكومة المؤقتة بخطاب، يتضمن ثلاثة مطالب، أحدهما يطلب استكمال دراسته في بلد أجنبي، وثانيهما مواصلة دراسته للماجستير بالقاهرة، وثالثهما التدريس في إحدى البلدان العربية، تمّ رفض مطلبه الأول من قبل الإتحاد الطلابي بسويسرا، بحجة أن الشهادة المتحصل عليها لا تؤهل صاحبها للدراسة بالخارج، أما مطلبه الثالث التدريس بإحدى البلاد العربية، فإن مصالح جبهة التحرير الوطني قدمته إلى بلدان عربية منها الكويت والمغرب الأقصى، لكنه رفض الذهاب للتدريس في التعليم الثانوي، وقرّر أن يواصل الدراسات العليا، ولكن هذه الظروف لم تحبط عزيمته ولا طموحه وبقي ينتظر فرصته وقدم طلبه من جديد. قام سعد الله بإجراءات التسجيل لمواصلة دراسته العليا الماجستير بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وكان بين أمرين إما التسجيل في تخصص النقد الأدبي أو فرع التاريخ، لكن هذا الفرع كان يرأسه الدكتور ضياء الدين الريس، الذي كان عالما وله مزايا عديدة، إلا أنه يترك مسافة بعيدة بينه وبين الطالب على حد تعبير سعد الله، لذا لم يتحمس للتسجيل في هذا الفرع، وأختار الشعبة الأدبية تخصص النقد الأدبي، التي كان يرأسها الدكتور عمر الدسوقي، وهذا ما دفع سعد الله للتسجيل في هذا الفرع، لأنه كان معجبا بشخصية الدكتور الدسوقي، حيث وصفه بأنه من أقوى الأساتذة علما وهيبة ويحترمه زملاؤه لعلمه واقدميته وقوة شخصيته وصرامته. بعد الدراسة في الدراسات العليا بدار العلوم، اختار سعد الله أن يٌعرف بالأدب الجزائري الذي كان مجهولا في المشرق، وهذا الاختيار يكشف عن ذكاء ورغبة في بناء الذات الثقافية الجزائرية التي دمرتها السياسة الاستعمارية الفرنسية، وعليه كانت أطروحة الماجستير الموسومة ب»محمد العيد آل خليفة رائد الشعر الجزائري الحديث « إشراف الدكتور عمر الدسوقي، لدراسة شعره والتعريف بالشاعر الكبير محمد العيد آل خليفة وتقديمه للآخر حتى يدرك أن الجزائر عربية وتمتلك شعراء كبار، وأن الشعر في الجزائر لا يخلو من التجديد. اعتقد أن هذه الأطروحة هي بداية ترميم الذات، لأن اختيار سعد الله كان ذكيا ومدروسا وفي مسعاه العلمي كان يهدف إلى كتابة تاريخ الشعر الجزائري الحديث، وهو بداية مشروعه الكبير الذي أنجزه فيما بعد تاريخ الجزائر الثقافي. يعتبر سعد الله أول من درس الشعر الجزائري الحديث، وأول من بادر بجمع شعر محمد العيد لدراسته، على الرغم من أن الشيخ الإبراهيمي كان يمتلك نسخة مخطوطة من ديوان محمد العيد آل خليفة كان أرسلها إليه الشاعر لطبعه في مصر. أنهي أبو القاسم سعد الله تحرير رسالته للماجستير في السنة الأولى من الدراسات العليا، ولكن القانون لا يسمح للطالب بمناقشة رسالته وهو مازال طالبا في هذه السنة من الدراسة. وشاءت الأقدار أن سعد الله لم يناقش رسالته للماجستير أمام لجنة مناقشة، وذلك بسبب المنحة التي منحت له. وأودع الرسالة مخطوطة عند الشيخ الإبراهيمي وهو من تكفّل بنشرها كتابا في دار المعارف بالقاهرة سنة 1961. سعد الله في العالم الجديد.. «أمريكا» كان سعد الله من أنشط الطلبة بالقاهرة، وسطع نجمه شاعرا مجددا وصحفيا بارعا في خدمة الثورة بكتاباته، وأسهم بقوة في النوادي الشعرية والنشاطات الطلابية، وكان عضوا ناشطا في اتحاد الطلبة الجزائريين، ولهذا ظل سعد الله يجتهد ويحلم بالدراسة في بلد أجنبي؛ لأنه كان متأثرا بالذين جاؤوا بمناهج تدريس حديثة درسوها في جامعات أجنبية. أدرك سعد الله أن هناك فروقا بين مدرسيه في جامع الزيتونة، وجامعة القاهرة، وهذا راجع لاختلاف التكوين، وقد أدرك ذلك سعد الله بحسه المتأتي من معرفته العميقة بالتحولات الحاصلة في المجال المعرفي، وطموحه لتحقيق حلمه في السفر للدراسة في بلد أجنبي، وهذا الحلم خامره منذ كان طالبا في تونس، وعلى الرغم من حصوله على الشهادة العليا الليسانس وتحضيره للماجستير بالقاهرة، فلم يتخّلّ عن حلمه إلا أنه كان شغوفا للمعرفة، ولم يتسلّل الإحباط إلى قلبه، وظل يناضل من أجل الحصول على منحة من أجل الدراسة في دولة أجنبية. رفض طلبه الأول لأسباب لا نرى حاجة للخوض فيها، ثم تقدم مرة أخرى - بمطلبه الخاص بالمنحة إلى الحكومة المؤقتة، وذلك قبل ذهابه للمشاركة في المؤتمر الرابع للاتحاد المنعقد ببئر الباي بتونس أوت سنة 1960، وطلب ثلاث دول أجنبية هي اسبانيا، وسويسرا وأمريكا، وجاءه الرد بقبول طلبه في شهر أكتوبر، ومن حسن حظه، أن الملحق الثقافي الأمريكي قد اختاره السادس في قائمة ترتيب الطلبة المقبولين من 14 طالبا مترشحا لهذه المنحة. بعد إتمام إجراءات السفر بتونس، أين تحصّل أبو القاسم سعد الله على جواز سفر تونسي، وذلك لانعدام التمثيل الدبلوماسي بين الجزائروأمريكا، لأن الولاياتالمتحدةالأمريكية لم تكن تعترف بالجزائر وقتها، سافر سعد الله إلى أمريكا بعد إتمام كل وثائق السفر، من تونس إلى لندن ومنها إلى نيويورك، وتعتبر أمريكا أول بلد أجنبي يزوره سعد الله، دخلها وهو يجهلها ولا يعرف عنها شيئا، كانت أول مشكلة اعترضته هي مشكلة اللغة، ولم يكن الزاد اللغوي بالانجليزية الذي تعلّمه في القاهرة كافيا للاتصال مع الأمريكيين، كما أن الحياة في أمريكا تختلف كثيرا عنها في تونسوالقاهرة، ولهذا واجه سعد الله صعوبات كبيرة في الاندماج في البدايات، ويذكر سعد الله أن هناك عاملين في مواجهته للصعوبات هما: «..أن الجزائر كانت في ثورة حياة أو موت، وأقل ما يمكنه أن يخدم به الوطن في تلك اللحظات العصيبة هو أن ينجح في مشروعه، والثاني هو أن مطلبه للمنحة في الخارج كان رفض على أساس أنه لا يملك مؤهلات جامعية، لذا كان كل ما يخشاه هو أن يعطي الفشل برهانا للآخرين على فشل جميع طلبة المشرق ذوي الثقافة العربية، فالقضية باختصار كانت قضية «تحد» ...». إن نظام التعليم العالي بأمريكا مختلف عن نظام التعليم بالدول الأخرى، فهو نظام مبني على ضرورة التسجيل بمركز اللغة الأمريكية، المتخصّص في تعليم الطلبة الأجانب اللغة الانجليزية قبل التحاقهم بالدراسة في الجامعة، وبعد التمكّن من اللغة كتابة وقراءة ومحادثة، يسجل الطالب لدراسة مواد بيداغوجية متخصّصة ويكّلف بأبحاث وعند نجاحه في مقرّر المواد المدرسة عندها بإمكانه الشروع في انجاز أطروحته بعد الاتفاق مع أستاذ مشرف. سعد الله وأولوية تاريخ الجزائر.. اختار سعد الله الطريق الصعب في البحث العلمي، لأنه كما أشرنا سابقا هو رجل صاحب قضية ورسالة، وهذا ما جعله يختار موضوعا جديدا وغير مسبوق في البحث، حيث اختار موضوع «الحركة الوطنية الجزائرية 1900 – 1930» إشراف الأستاذ هارولد دويتش (Harold C. Deutsch)، ويذكر سعد الله في كتابه «حياتي» أسباب اختيار هذا الموضوع: 1 . ظروف الجزائر وثورتها وبحثها عن الهوية التاريخية وكانت الأفكار في دمي منذ أوائل الخمسينات. 2 . دراستي للحركة القومية في التاريخ الأوروبي الحديث والمعاصر، منذ انتشار الفكرة القومية نفسها مع الثورة الفرنسية التي نقلتها إلى وسط وشرق أوروبا، كذلك دراستي للحركات الوطنية في اندونيسيا والهند وتركيا والبلاد العربية. 3 . جهلي بتاريخ الجزائر الذي لم أدرسه في مدرستي ولم يحدثني عنه إنسان ولم أجده في برنامج، وما علمته منه لا يعد معلومات مشتقة من كتاب لأحمد توفيق المدني وتاريخ الجزائر للميلي وموجز تاريخ الجزائر للكعاك وبعض التلميحات التي كانت تبحث في البصائر عن دول المغرب وشعرائها وكتابها وفقهائها وبعض أحداثها. أعتقد أن سعد الله أراد من بحثه هذا في الحركة الوطنية، تصحيح الكثير من الأفكار والمغالطات والتحريف الذي لحق تاريخ الجزائر، وأن المرحلة الممتدة من 1900 إلى غاية 1930، تكاد تكون هذه الفترة التاريخية مجهولة، وتحتاج إلى الدراسة والتحقيق والبحث المعمق، باعتبارها مرحلة مرجعية للحركة الوطنية ولثورة التحرير، ورغم صعوبة البحث في هذا الموضوع، منها خاصة نقص المراجع، لأن أغلب المراجع التي كتبت عن تاريخ الجزائر هي بالفرنسية ومن رؤية استعمارية، وقد طالها الكثير من التحريف والتشويه، وهي مشكلة واجهها سعد الله بالصبر والإطلاع الواسع على مراجع متعدّدة ومختلفة، منها المراجع بالانجليزية والألمانية والإيطالية والإسبانية، والفرنسية بالطبع، لقد استفاد سعد الله كثيرا من كل هذه المراجع لإعادة كتابة تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية، وترميم الذاكرة التي شوّهها الاستعمار الفرنسي. ناقش سعد الله أطروحته في شهر سبتمبر 1965 بجامعة مينيسوتا، وقد منحته لجنة المناقشة شهادة الدكتوراه، وهو الحلم الذي كرّس سعد الله من أجله حياته. وهذه الأطروحة هي بداية مشروعه في كتابة التاريخ الوطني بكل موضوعية المؤرخ الحصيف الذي يتعامل مع الواقع والأحداث بمنهجية صارمة ودقة علمية. دخل الأستاذ أبوالقاسم سعد الله الجزائر بعد تجربة تدريس في أمريكا سنة 1967، وألتحق بجامعة الجزائر بإلحاح من صديقه المرحوم الدكتور عبد الله ركيبي، وقد حصر نشاطه في البحث العلمي والتدريس والإشراف على الطلبة وتكوينهم تكوينا علميا، وبدأ في تأسيس مدرسة جزائرية في كتابة التاريخ الجزائري. ورفض كل المناصب والمسؤوليات التي عرضت عليه. سعد الله والأفكار الجامحة لقد تجسّّد كل هذا التنوّع في مصادر التكوين في شخصية سعد الله، وانعكس ذلك التفاعل المعرفي على المواقف التي عبّر عنها سعد الله في مختلف القضايا الوطنية والفكرية، مارس سعد الله الكتابة بحب وشغف وموقف، كانت كتاباته دائما متميزة وعميقة بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه، وإنما كان يكتب لكي يثير النقاش ويفتح أفق الحوار. لذا يقول سعد الله إن: «..الكتابة عندي هي دوائي وهي دائي، هي غذائي وهي هوائي، فإذا كتبت رضيت عن نفسي وإذا لم أكتب سخطت عنها ومرّ اليوم وكأنه سرق من عمري ..». تميزت شخصية أبوالقاسم سعد الله بالاستقلالية الفكرية والسياسية والأيديولوجية، كان مؤرخا مستقلا ومفكرا نقديا، لا يمكن تصنيفه أو قولبته، ولكنه على الرغم من ذلك لم ينج من محاولات وضعه في قالب محدد؛ لذا ينتقد الأستاذ سعد الله أولئك الذين يعتقدون أن المؤرخ كالسياسي، إما أن يكون في السلطة أو المعارضة، وهذا في نظره اعتقاد خاطئ، فالمؤرخ بالنسبة إليه قد يكون متفقا مع السلطة في بعض مواقفها، وقد يكون مخالفا لها ومنتقدا تصرفاتها، مع العلم أنه يؤرخ لسلطات سابقة عن زمنه وليس بالضرورة لسلطة قائمة في وقته. كان سعد الله حريصا جدا على الكتابة/الموقف، وذلك للتأكيد على موقفه والتعبير عن قناعاته إزاء القضايا الوطنية، لهذا كتب يقول: «.. إن الإنسان بدون موقف كالشخص الذي يعيش بدون حقيقة، فهو يستحق الإلغاء، بل هو الذي أعدم نفسه..». إن المشروع الذي اشتغل عليه الأستاذ الدكتور أبوالقاسم سعد الله، سواء مشروع الحركة الوطنية أو مشروع تاريخ الجزائر الثقافي، يحيل إلى مرجعية ورؤية سعد الله العميقة في كتابة التاريخ، والبحث عن منهجية علمية في إرساء مدرسة جزائرية في كتابة التاريخ، وقد بذل جهودا مضنية لوضع أسسها، حيث سعى إلى تكوين باحثين جادين من طلبته لكي يواصلوا المسيرة. ظلّ سعد الله يدعو إلى ضرورة تحرير تاريخ الجزائر من براثن المدرسة الكولونيالية، والعمل على تكريس الوعي التاريخي والمنهج العلمي في كتابة التاريخ، وينبغي التوكيد على أن الأستاذ سعد الله، هو قامة لا مثيل لها في العصر الحديث، ولأنه شخصية متعددة ومتكاملة فهو المؤرخ وشيخ المؤرخين الجزائريين، وهو المؤلف لعدد من الكتب التي مازالت تؤثر في الواقع الثقافي، وهو كاتب وشاعر مؤسس للشعر الحديث، وهو العالم العارف، وهو الرجل الزاهد العابد والمتواضع، ورغم كل الظروف التي عاشها والظلم الذي لحقه ولكنه ظل صابرا ومحتسبا. أستاذ بجامعة الجزائر2