استغلال المورد البشري أضخم استثمار في تاريخ الجزائر تمثل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة العصب النابض للاقتصاد الوطني، وإرساء كثافتها ضرورة ملحة ومستعجلة، كي تكون في قلب التحول الاقتصادي الجاري، عبر تنويعها وترقية فعاليتها، بهدف وضع الآلة الإنتاجية على سكة التحديات الاقتصادية، والتموقع – بالتالي - عبر الأسواق الخارجية، وأخذ مكانة مهمة في ركب الدول الناشئة بفضل المقدرات الهامة المرصودة للمتعاملين الاقتصاديين والمؤسسات وحاملي المشاريع المبتكرة من الشباب الطموح؛ لأن الثروة البشرية صارت على المحك وينتظر منها الكثير كمحرك لاقتصاد قوي، وأداء تنموي متين لا يتأثر بتقلبات أسعار النفط، يلبي الطلب الاستهلاكي الوطني ويرفع من الموارد المالية بالعملة الصعبة. يشكل خيار الاقتصاد الأخضر المتاح بتكلفة منخفضة، وإرادة مشبعة بوعي وعزيمة، حتمية لا مفر منها، وهذا المسار من شأنه أن يسمح بالتوجه نحو استغلال أوسع للطاقات المتجددة، المتاحة من الشمس والرياح على وجه الخصوص، ما يعني التقليل من استنزاف الطاقات التقليدية الأحفورية، ولعل الظرف الإيكولوجي، في سياق عالمي يكتنفه خطر التغيرات المناخية، بات يفرض على البشر التكاتف من أجل شق الطريق نحو بناء اقتصاد أخضر، يحمي صحة الإنسان ويكرس سلامة البيئة على حد سواء. وتعكس تجارب العديد من الشباب في هذا المجال، قدرتهم الابتكارية على إيجاد أفكار ذكية وغير مسبوقة، لا تحتاج سوى التشجيع والتوجيه والتأطير عبر الجامعات والمعاهد ومراكز التكوين المهني؛ لأن الاقتصاد الوطني سيستمد قوته وينتهج منحى النمو التصاعدي من رؤية الشباب الطموح وطاقته الكامنة، ومن مشاريع تبدو - منذ الوهلة الأولى - أنها تخفي وراءها كثيرا من التميز والإبهار، أي رؤية رواد أعمال يعطون نفسا جديدا لأداء الاقتصاد. وحده نسيج المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، قادر على دفع الدورة الاقتصادية إلى حركية متسارعة وأداء منتظم وقوي. لذا، فإنّ رهان الدولة الجزائرية، في الوقت الحالي، يرتكز على رصد المورد البشري وجعله في جوهر التنمية، وبالتالي استبدال المعادلة السابقة القائمة على تسخير الأموال لإنجاز الاستثمارات واستحداث المؤسسات. إذن، يمكن القول إن مستقبل الاقتصاد والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة واعد على المديين المتوسط والطويل؛ لأن الرؤية واضحة والمسار شفاف، بفضل برنامج رئيس الجمهورية الطموح والمشجع للقدرات الوطنية، من خلال الاهتمام بها، ومن ثم استغلالها لتحويلها إلى ثروة تعزز الخارطة الاقتصادية وترفع من مردودية الإنتاج الوطني. وينتظر الكثير من الجهود المبذولة لتغيير وجهة الاقتصاد الوطني، من خلال ترسانة قانونية ومقدرات بشرية وبرنامج واعد لرئيس الجمهورية، وهذا ما يؤكده الخبير في المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، عبد اللطيف حمامدة، وهو الذي تناول الوضع بالتحليل وفق رؤية استشرافية، فهو يرى أن التعويل على رواد الأعمال، عبر استغلال طاقات الشباب بالجامعات والمعاهد، سيحقق الكثير في آفاق العشر أو العشرين عاما المقبلة، كما يعتبر أن فرص الاستثمار بالجزائر ينظر إليها على أنها مضمونة من طرف الأجانب؛ لأن الجزائر بلد بحجم قارة، يتسع لأكثر من 500 مليون نسمة، ويعد بوابة الأفارقة نحو العالم. وفي سؤال حول رؤيته لوتيرة إنشاء المؤسسات، والمستوى الذي يمكن أن تصل إليه، خاصة مع صدور قانون الاستثمار الجديد، قال حمامدة إن الحديث ينبغي أن يبدأ مما أكدته بعض مكاتب الدراسات الجزائرية، فقد سبق وأن حدّدت تكلفة دعم إنشاء المؤسسات الصغيرة والمتوسطة واشارت إلى أن إنفاق الحكومة طيلة عشرين سنة بلغ ما لا يقل عن 20 مليار دولار لتمويل المؤسسات المنشأة في إطار ثلاث آليات، يتعلق الأمر بكل من "أونساج" و«أونجام" و«كناك"، وهي تكلفة - يقول الخبير حمامدة - سمحت بإنشاء ما يناهز 1.4 مليون مؤسسة منذ عام 1997، عن طريق الآليات أو الميكانزمات الثلاث، أي ما يقابله استحداث 400 ألف مؤسسة من طرف "أونساج" و850 ألف مؤسسة استحدثتها آلية "أونجام"، بينما استحدثت "كناك" 150 ألف مؤسسة ، وأضاف يقول إن هذه المؤسسات كان يعول عليها كثيرا في امتصاص البطالة، غير أنه، للأسف يستدرك محدّثنا - فإن آخر إحصائيات جاء بها الوزير المنتدب لدى المؤسسات الصغيرة والمتوسطة آنذاك، نسيم ضيافات، كشفت أن نسبة نجاح هذه المؤسسات لم يمثل سوى نسبة 10٪، غير أننا يسجب أن ننتبه، فهذه المؤسسات – يضيف حمامدة - لم تكن فاشلة، وإنما تعرضت لعراقيل أثرت على مسار عملها وديمومتها، ومن هنا، ينبغي الأخذ، بشكل عاجل يؤكد الخبير - بتدابير رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، عبر الابتعاد عن تأسيس المؤسسات الاجتماعية، والذهاب إلى إنشاء مؤسسات اقتصادية، أي تجسيد المقاربة الاقتصادية بشكل مستعجل. وفي سياق متّصل، أشار الخبير حمامدة إلى ضرورة الانتباه إلى رهانات برنامج رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون؛ لأنه منذ ثلاث سنوات كاملة، واللغة القائمة استشرافية في الجزائر الجديدة، ويجب الحديث عن العالم الجديد المفتوح بحد ذاته، خاصة وأن برنامج رئيس الجمهورية – يقول المتحدث - يتضمن مقاربة اقتصادية من خلال بعث برنامج لرواد الأعمال ذي صبغة اقتصادية، ويكون هؤلاء خريجي المدارس العليا والجامعات والمعاهد، ومنحهم فرصة إنشاء مؤسساتهم، وبالتالي المساهمة في توسيع وبناء البنية التحتية للاقتصاد الوطني، لذا يجب أن نتساءل عن الدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في الدورة الاقتصادية خلال آفاق 2030 و2050. قانون الاستثمار.. محفز من جهة أخرى، طرحنا على الخبير عبد اللطيف حمامدة مسألة الحاجة إلى خارطة للمؤسسات الإنتاجية بصورة عاجلة، بقصد تنويع الإنتاج والاستجابة لطلب السوق المحلية وكبح الاستيراد، فذهب إلى أن استحداث قانون الاستثمار الجديد، يمكن وصفه، دون شك، بالخطوة الجيدة نحو تحقيق عديد الرهانات الاقتصادية، وفي نفس الوقت، لا ينبغي أن نغفل عن مكاسب موجودة وتحققت في السابق، لأن الجزائر بعد الاستقلال، بنيت على ثورة زراعية وصناعية وسياحية، وبنى تحتية، ومطارات وموانئ ومدارس وجامعات ومستشفيات، وأنفقت من الخزينة العمومية نحو 1.000 مليار دولار، غير أنه مع حكومة الرئيس عبد المجيد تبون، صار التركيز والتحدي قائما على الاستثمار، لكن ليس من خلال التمويل عبر الخزينة العمومية، بل الاعتماد سيكون عبر استغلال المورد البشري ،ويمكن القول يؤكد حمامدة - إنه أضخم استثمار في تاريخ الجزائر، أي الاستثمار في العقول، وإعادة الاعتبار لدور المواطنة في البنى التحتية، علما أن برنامج رئيس الجمهورية يضيف حمامدة - يخوض حربا ضد البيروقراطية، ويعمل على إرساء الشفافية والحوكمة الذكية ولعل قانون المضاربة خير دليل؛ لأنه حاسم في إنهاء البيروقراطية ومكافحة الفساد، ويمكنه أن يعبد الطريق نحو إرساء الاستثمارات مع مستثمرين محليين وأجانب. ويؤكد محدّثنا في ذات السياق - أن العالم، في الوقت الراهن، يعاني اقتصاديا واجتماعيا، ولا يمكن لمؤسسة أو خبير أو جامعة في العالم تحديد نموذج اقتصادي مستقبلي؛ ففي لغة الاقتصاد والتنمية المحلية والاستثمار، هناك ما نسميه "المخاطر"، فلا أحد يمكن أن يتوقع تقلبات أسعار النفط، وكذا الحرب الروسية الأوكرانية، وارتفاع أسعار المواد الأولية بالأسواق العالمية، وفي هذا الظرف تتمتع الجزائر بوضع مالي أفضل بفعل انتعاش أسعار النفط والغاز، ما نتج عنه أريحية مالية. إعادة الثقة في المؤسسات الإنتاجية وبما أن الرهان كلّه حاليا على رسم معالم نسيج مؤسساتي يعول عليه في استحداث الثروة وتنويع الإنتاج الوطني، سألنا الخبير حمامدة عن الإمكان والمتاح أمام رسم هذه المعالم، فقال إن خطة المستقبل تتمثل فيما أكده رئيس الجمهورية حول شراكة رابح - رابح، ويشمل ذلك شراكة رابح - رابح مع المؤسسات المحلية، خاصة تلك المتعثرة، سواء كانت صغيرة أو كبيرة أو متوسطة، عمومية أو حتى خاصة، وأضاف أن عدة برامج استفادت منها المؤسسات العمومية في إطار دعمها؛ لهذا، دعا محدثنا إلى مساعدة مؤسسات الشباب المتعثرة؛ لأنها كلها مؤسسات جزائرية، سواء كانت عمومية أو خاصة، وهذا ما يطلق عليه الخبير اسم "الحوكمة الذكية"، حيث يتم تجسيد شراكة رابح - رابح، بين شركتين جزائريتين في البداية، وبالتالي، إعادة الثقة في جميع المؤسسات الجزائرية، والعودة ببنية جديدة للنسيج المؤسساتي. ويمكن أن نضيف إلى ذلك - يواصل محدّثنا - الشراكة بين المؤسسات الجزائرية مع نظيرتها الأجنبية؛ لأن الجزائر بلد قارة، وتتسع لكثافة سكانية تفوق 500 مليون نسمة، ومن ثم تحويل الصحراء إلى جنة حقيقية بأراض صناعية وزراعية، وهنا يشير الخبير حمامدة إلى تأخر كبير مسجل في مجال الخدمات، ويقول بأن هذا الدور يمكن أن تقوم به المؤسسات الناشئة؛ لأن هذا القطاع يحقق أكثر من 70٪ من الناتج الداخلي الخام بالدول المتقدمة، علما أن استثماراتها بقطاع الخدمات تشمل نحو 70٪، وهذا ما تتطلع إليه الجزائر لترقية استثماراتها بهذا القطاع الحيوي من خلال استشرافها آفاق 2030-2050. وبخصوص رأيه في مناخ الأعمال بالجزائر، وإن كان جاذبا للمستثمرين، قال حمامدة إننا ما دمنا نتحدث عن المؤسسات الناشئة،لا ينبغي أن يفوتنا وجود صندوق تمويل بصورة شراكة مع المؤسسات الناشئة، ويضم حاليا 400 شركة ناشئة، وحين نتحدث عن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، سنرى عن قريب ما صرح به الوزير ياسين وليد، أي نرى نوعا جديدا من رواد الأعمال، من خلال إنشاء المؤسسات الصغيرة من طرف "أوناك" العام المقبل. في هذا الصّدد، أشار محدثنا إلى غياب صناديق خاصة بالتمويل، ويرتقب أن يتم سن مشاريع قوانين من طرف وزارة المالية، لانفتاح أكبر للمنظومة المصرفية الجزائرية على العالم، على خلفية أن الاستثمارات الأجنبية الحقيقية، يتم حسابها بالصناديق الخاصة وليس المستثمرين الخواص؛ لأن هذه الصناديق تتمثل في شركات استثمار منضوية بأموالها داخل الصناديق، وعند عثورها على ضمانات في أي دولة، فإن أموال الخواص المودعة بالصناديق، سوف تحول نحو الاستثمارات المضمونة، وأضاف أن "كل المستثمرين الأجانب يملكون فرص النجاح في مشاريعهم بالجزائر، وبالتالي تنويع الإنتاج الوطني وتطوير الصادرات والتقليل من الواردات، وتتحول الجزائر إلى بوابة للأفارقة في 2030، من أجل الاقتراب من السوق الأوروبية وأبعد من ذلك؛ لذا، فإن البنوك مدعوة إلى الانفتاح وتنويع خدماتها، وبالتالي الاستثمار في القيمة المضافة وفي المورد البشري، وهذا ما تعمل به الدول المتقدمة". وبخصوص حصة الشباب من القروض الموجهة للمؤسسات الناشئة المراهن عليها كثيرا في استحداث الثروة، أكّد الخبير عبد اللطيف حمامدة أن الشباب لا يواجه أي مشاكل بخصوص الحصول على القروض عن طريق مختلف الآليات المتوفرة لاستحداث مؤسسات صغيرة أو ناشئة، لكنه أشار إلى وجوب الانتباه إلى معاناة الشباب بسبب تسديد العديد من الرسوم، بعد اقتناء آلات المشاريع، فالشاب يقول المتحدث - يسدد من القرض البنكي المخصص للمشروع، رسوم الجمارك والقيمة المضافة، بعكس المؤسسات الكبرى المستفيدة من امتيازات لا تمنح للمؤسسات الصغيرة، وفوق كل ذلك، نحتاج في هذا الظرف إلى الحوكمة الذكية، ورقمنة كل الإدارات والابتعاد عن البيروقراطية المرقمنة، من أجل بلوغ بنى تحتية اقتصادية حقيقية، عن طريق تبني الديمقراطية التشاركية، وإشراك الجميع بطرح الاقتراحات. وفي الأخير، أكد عبد اللطيف حمامدة أننا لا ينبغي أن ننظر إلى عدد المؤسسات المنشأة، بل نبحث ونسعى في كل ذلك إلى جودة وتنافسية وقوة أداء هذه المؤسسات، فالعبرة ليست بالكم والعدد يؤكد المتحدث ثم يواصل قائلا - هذا الدور تقوم به الجماعات المحلية؛ لأنها وحدها من تمنح خارطة الاحتياجات من خلال طلبات البلديات، وكل ذلك يندرج ضمن الحوكمة الذكية، فتكون المقترحات تحتية وليست فوقية.