شاهد على هزيمة الاستعمار وفرحة الاستقلال تشتهر ولاية بومرداس السياحية بتسمية "روشي نوار"، وهو مصطلح اقترن بفترة زمنية سابقة تعود للحقبة الاستعمارية، حينما تحوّل هذا المكان القريب من الشاطئ المركزي إلى ما يشبه القرية السياحية تجتمع فيها عائلات الكولون بحثا عن الراحة والاستجمام، تقابلها فترة أخرى ناصعة وصفها الكثير من المؤرخين بالمفصلية، كونها جمعت أول حكومة جزائرية مؤقتة بقيادة عبد الرحمان فارس التي أدارت بدورها مرحلة حسّاسة بدأت من تاريخ وقف اطلاق النار بتاريخ 19 مارس 1962، إلى إعلان استقلال الجزائر يوم 5 جويلية من نفس السنة، لكن قبل هذه المحطة القريبة جدا زمنيا، تكتنز الولاية وتنام على معالم أثرية شاهدة على تعاقب الحضارات.. تُنسب تسمية مدينة بومرداس حسب أغلب الدراسات التاريخية إلى الولي الصالح سيدي الشيخ علي بن احمد البومرداسي، الذي استوطن المنطقة وأسس الزاوية الحالية التي تحمل اسمه والمعروفة باسم الزاوية "الفوقانية" التي تقع في حي اولاد بومرداس، ومن ثم بدأ الاشعاع الديني والفكري يتوسّع بهذه المنطقة، التي تحوّلت إلى منارة فكرية وعلمية يقصدها طلبة العلم من كل الأصقاع والمناطق من داخل الجزائر وخارجها بفضل سمعتها وزواياها المشهورة، من أبرزها زاوية الشيخ عبد الرحمان الثعالبي بيسر، زاوية سيدي اعمر الشريف وزاوية سيدي محمد السعدي، وكلها شكّلت حظائر علمية ومنطلقا لعدة بعثات دينية ورحلات قام بها أئمة وشيوخ زوايا نحو البلدان المجاورة والمدن العامرة حضاريا وعلميا طلبا للعلم ونشرا لتعاليم الدين الاسلامي. وقبل هذه الفترة الحديثة لبداية تشكل مدينة بومرداس التي تبلورت مع بداية الفترة الاسلامية والعهد العثماني، وأخيرا مرحلة الوجود الفرنسي التي أسّست النواة الأولى للمدينة واطلاق تسمية روشي نوار، شهدت هذه المنطقة الساحلية الوسطى من الجزائر الممتدة عبر شريط ساحلي يصل إلى 80 كلم عدة حقب وفترات تاريخية، تعاقبت عليها الكثير من الحضارات الانسانية، لا تزال معالمها شاهدة في بعض المدن المعروفة والأكثر شهرة من بومرداس بداية من المرحلة الفينيقية الممتدة بين سنة 500 قبل الميلاد و146 سنة قبل الميلاد، ثم فترة الحضارة الرومانية التي يحصرها بعض المؤرخين بين أعوام 42 ميلادي و142 ميلادي، الفترة البيزنطية ما بين "534 و707" ميلادي ثم خضعت المنطقة للفترة الوندالية قبل أن تخضع لحكم الدولة الاسلامية مع بداية الفتوحات التي قادها موسى بن نصير. وقد تشكلت بالمنطقة طيلة هذه الفترات والمراحل التاريخية الطويلة عدة مدن عريقة خصوصا عبر الشريط الساحلي، أبرزها مدينة "روسوبيكاري" المعروفة حاليا باسم زموري البحري وقبلها مرسى الدجاج خلال الفترة الاسلامية من حكم الحماديين، ثم مدينة "سيسي" أو رأس جنات الحالية، وأخيرا مدينة دليس أو "روسوكوروس" وجميعها تعود للفترة الفينيقية التي أسست مدن أخرى ساحلية وموانئ لممارسة النشاط التجاري، أبرزه ميناء دلس الذي لا يزال إلى اليوم يحتفظ بأثار هذه الحقبة قبل أن يتوسّع على يد الفرنسيين، إضافة إلى عدة مدن تاريخية لا تزال تحتفظ ببعض الاثار القديمة وأغلبها للفترة الرومانية منها مدينة تاورقة. آثار ومعالم شاهدة على عراقة المنطقة تزخر ولاية بومرداس بعدة معالم ومواقع أثرية شاهدة على عراقة المنطقة وازدهارها في فترات سابقة وحضارات تركت بصماتها الخالدة، التي تراوحت بين مواقع بسيطة كمنابع المياه، الطرقات، منارات وغيرها، وصولا إلى آثار مدن بأكملها كمدينة دلس المعروفة التي تحتفظ إلى اليوم بشواهد كثيرة تبرز تعاقب أبرز الحضارات الانسانية أحدثها القصبة العريقة التي يعود عهدها إلى مؤسسها وواضع نواتها الأولى معز الدولة ابن صمادح سنة 1068م القادم من ألميريا، مرورا ببجاية وصولا إلى عصر الدويلات الاسلامية ثم الفترة العثمانية، حتى دخول الفرنسيين الذين قاموا بعدة أعمال تخريبية، بداية بتقسيم المعلم إلى قصبة سفلى وعليا وهدم المسجد العريق المعروف حاليا باسم مسجد الإصلاح قبل إعادة بنائه سنة 1848. ويبقى المعلم التاريخي والحضاري لقصبة دلس يحمل رمزية خاصة لدى سكان المنطقة رغم الوضعية المتردية التي وصل إليها، وتعطل مشاريع إعادة التهيئة التي استفاد منها منذ زلزال 2003، بداية بالمخطط الاستعجالي إلى المخطط الدائم لحفظ واستصلاح القطاع المحفوظ الذي تبناه مجلس وزاري مشترك سنة 2016 وتكليف الوكالة الوطنية للقطاعات المحفوظة بمتابعة ملف الترميم وإنقاذ المعلم، كما تواصل القصبة العريقة جلب عشرات الزوار الشغوفين بكل ما هو تاريخي، والذين تستهويهم هذه الأماكن المثقلة بالحكايات ويوميات من مروا بأزقتها الضيقة، وبكل ما تركوه من آثار شاهدة على عراقة مدينة. مرسى الدجاج.. ينتظر التثمين يعتبر موقع مرسى الدجاج أو التسمية القديمة لزموري البحري معلما أثريا هاما يتربع على حوالي 6 هكتارات، ظلّ لسنوات عرضة للإهمال وزحف الإسمنت ومحاولات عديدة للاستحواذ عليه من قبل الخواص ومقاولات البناء، إلى غاية اليوم الفاصل والتاريخي حينما باشرت فرقة متخصّصة في الآثار من جامعة الجزائر عملية بحث وتنقيب شهر سبتمبر من سنة 2017، بالتنسيق مع مديرية الثقافة لولاية بومرداس، تحت شعار "ريادة واستكشاف أثري بموقع زموري البحري"، بناء على القرار الوزاري المؤرخ في 28 أفريل لسنة 2016 المتضمن قرار تصنيف الموقع الذي أعطى دفعا قويا لانطلاق أعمال البحث والتنقيب، تلتها خطوة ثانية لمباشرة الحفريات واكتشاف أغوار هذا المعلم التاريخي الهام المصنف وطنيا بناء على تقارير عديدة لمختصين منذ سنة 2007 بالنظر إلى أهميته، حيث يعود للحقبة الحمادية والزيرية وحتى الفاطمية بالجزائر في القرن العاشر أي الرابع هجري حسب تصريحات أساتذة المعهد، ويشكّل أيضا مرجعا تاريخيا مهما اختزل عدة حضارات مرت بالمنطقة منها الفينيقية والرومانية. ومع ذلك، فإن الدلائل الأولى المستكشفة في الموقع وبعض التحف الأثرية القليلة المتمثلة في أحجار وفخاريات تشير أنها تعود إلى فترة المرابطين والموحدين، وبالضبط بنو غنية الذين ورثوا المرابطين قبل انهزامهم أمام الموحدين ولجوئهم إلى جزيرة "مايوركا" بإسبانيا في القرن الرابع هجري العاشر وحتى الثاني عشر ميلادي، وبالتالي هي آثار تختزن عمر المدينة في هذه الحقبة التي تتراوح ما بين 150 إلى 170 سنة تقريبا، ليبقى المشروع بحاجة إلى استمرارية من أجل تجسيد الأهداف المسطرة، خاصة فيما تعلّق بدعم قطاع السياحة بالولاية. روشي نوار.. رمزية المكان والزمان رغم قصر المدة الزمنية وانحصارها في فترة تاريخية حديثة تعود للوجود الفرنسي، إلا أن تسمية "روشي نوار" أو الصخرة السوداء مصطلح ارتبط بهذه المدينة الساحلية غير البعيدة عن العاصمة التي وقعت تحت سيطرة الاستعمار الفرنسي سنة 1844، في حملة قادها المارشال بيجو، ثم اختيرت لتكون عاصمة إدارية وفي نفس الوقت مدينة سياحية، تتشكل من فيلات وبنغالوهات تستغلها عائلات الكولون للاستجمام، وبالتالي تشكل لاحقا ما أطلق عليه "فيلاج الروشي نوار" بداية من سنة 1958. كما لعبت المدينة دورا سياسيا مفصليا في مسار ثورة التحرير وكانت محطة لتثبيت وقف إطلاق النار بداية من 19 مارس 1962، إلى غاية اجراء الاستفتاء على الاستقلال، تحت قيادة واشراف الحكومة المؤقتة بزعامة عبد الرحمان فارس ورفع العلم الوطني لأول مرة بهذا المكان الرمز الذي لا يزال يحتفظ بهيبته وعظمته برئاسة جامعة بومرداس حاليا، ويحاكي أطوارا وتفاصيل دقيقة عن تلك الحقبة الفاصلة بين مرحلتين، مرحلة الاستعمار الغاشم وممارساته القمعية في حق الشعب الجزائري، ومرحلة الانعتاق من براثن المستعمر وتحقيق الاستقلال المنشود بعد 132 سنة من المعاناة والانتظار. وبهدف رد الاعتبار لمدينة الصخرة السوداء وتعظيما لدورها التاريخي في قيادة سفينة الثورة نحو برّ الأمان، أدرجت وزارة الثقافة سنة 2013، هذا المعلم الهام ضمن المشاريع المبرمجة للتصنيف كمعالم وطنية، إلى جانب معلم "دار الشيخ بن سالم" بمدينة دلس الذي يعتبر أحد أبرز أتباع ومساعدي الأمير عبد القادر بالمنطقة التي زارها مرتين، مع تسجيل مشروع للتهيئة الشاملة للمعلم ضمن مخطّط التهيئة السياحية للمدينة، وتحضيره مستقبلا ليلعب دورا سياحيا فكان مقصدا لعدة وجوه وشخصيات وطنية وأجنبية زارت الولاية. زيارات ميدانية.. تقف مديرية الثقافة والفنون لولاية بومرداس، بالتنسيق مع عدد من الهيئات الرسمية كالجمارك والجمعيات الناشطة في الميدان، على واقع القطاع المحفوظ المادي واللامادي الذي تزخر به المنطقة، من خلال تنظيم زيارات ميدانية لبعض المواقع الأثرية الحساسة التي تحمل صفة الأولوية من حيث الاهتمام والتحرّك لتجسيد مشاريع التهيئة والصيانة التي استفادت منها ورفع العراقيل عنها.. ويأخذ ملف حماية التراث الثقافي المادي واللامادي بولاية بومرداس ومتابعة تنفيذ المشاريع وعمليات التهيئة والصيانة التي استفادت منها بعض المعالم الأثرية والتاريخية المهدّدة بالاندثار، المحور الأساسي الذي ترتكز عليه مجمل الأنشطة التي تعرفها هذه الولاية، على غرار الزيارات الميدانية التي تعرفها عدد من المواقع كقصبة دلس التي حطّت بها على سبيل المثال مؤخرا قافلة ضمت إلى جانب مختصين في المجال، ممثلين عن قطاع الجمارك الجزائرية التي تقود حملة كبيرة لمواجهة ظاهرة تهريب التحف الأثرية، وغياب الحماية بالمعالم المفتوحة والمعرضة لكل أشكال الاستغلال والاستنزاف.. في مواجهة مجموعات النهب كشفت الحصيلة المقدّمة من طرف ممثلي الجمارك الجزائرية عن إحباط عدة محاولات لتهريب وسرقة قطع أثرية وتحف فنية ذات قيمة تاريخية هامة، تعود لمختلف العصور والحضارات، قدّرها ب 969 تحفة أثرية على المستوى الوطني والمحلي بولاية بومرداس وتشمل عدة أنواع كالفسيفساء، الأحجار، نقود، مسدسات قديمة وغيرها.. وهذا في الفترة من 2018 إلى 2022، وهي الظاهرة التي أصبحت تشكل خطرا فعليا على الموروث المادي واللامادي الجزائري، خاصة وأن مثل هذه الاعتداءات لا تزال تهدّد بعض المواقع بالولاية كان آخرها تعرض موقعين للنهب والحفر العشوائي في كل من "لقاطة" و«يسر حسب ما كشفت عنه مديرة الثقافة بالمناسبة.. وتبقى مثل هذه الاجراءات الردعية والرقابية بنظر المتابعين والباحثين المختصين في الآثار هامة ومفيدة لحماية وإنقاذ العشرات من المواقع والمعالم الأثرية وطنيا ومحليا بولاية بومرداس التي لا تزال بعضها عبارة عن ورشة مفتوحة، بحاجة إلى عمليات تسييج وإحاطة أمنية شاملة منها موقع مرسى الدجاج بزموري الذي انطلقت به أشغال الحفريات، وعدد آخر من المواقع التي استفادت مؤخرا من عملية الجرد الإضافي والتسجيل على مستوى وزارة الثقافة، في انتظار التصنيف والاستفادة من أغلفة مالية لمباشرة أشغال الترميم في إطار مجهودات الحفاظ على التراث الوطني، تجسيدا لمختلف النصوص التنظيمية والتشريعية التي ألحت على مبدأ الحماية، منها القانون 98/ 04 المؤرخ في 15 جوان لسنة 1998 المتعلق بحماية التراث الثقافي.. فيما تبقى التحفة المعمارية والحضرية لمعلم قصبة دلس مفتوحة على كل الاحتمالات إلى غاية إتمام مشروع التهيئة والترميم، حيث كانت هي الأخرى محل زيارة لقافلة مديرية الثقافة المشكّلة أيضا من ممثلي الجمارك للاطلاع على واقعها المتردي، خاصة وأنها تعرّضت منذ زلزال 2003، إلى عمليات استنزاف متواصلة، وسرقات طالت التحف الفريدة، لم تنجو منها حتى حجارة البيوت المهدّمة التي تعود لعقود من الزمن، إضافة إلى الأبواب والنوافذ الخشبية المزركشة التي كانت تزين مداخل البيوت وأزقة المدينة القديمة.