تسمية "الرواية الإصلاحية"، جاءت نسبة إلى المدرسة الفكرية التي صدرت عنها هذه الرواية، وعبّرت عن وجهة نظرها في معالجة قضايا الأمة وقضايا الإنسان الجزائري الذي عانى الأمرين من سياسة القمع والمسخ والتجهيل والمسخ والسلخ عن قيمه ودينه، لكن ذلك لا يعني بحال من الأحوال أن جمعية العلماء كانت تمارس الإكراه على الكتاب ليتجهوا هذا التوجه أو ذاك.. لقد حشدت المنتقد ثم البصائر في سلسلتها الأولى كل الأقلام الوطنية الأسيرة فأطلقتها لتعبّر عن مختلف النزعات الاجتماعية والسياسية والفكرية، وتبعا لنزعة التحرّر تخلص النثر من أكثر المحتويات القديمة ونبذ الطلاء ليعبر عن الحقائق في أسلوب واضح سريع الحركة قصير الفاصلة مباشر المعنى.. اللافت للنظر في الرواية الإصلاحية، هو تركيزها على القضايا الاجتماعية، وخاصة تلك المرتبطة بعنصري الأسرة، أي علاقة الرجل بالمرأة في ظل الأعراف والقيم السائدة في المجتمع، فذلك كان موضوع رواية "غادة أم القرى" وموضوع رواية "الطالب المنكوب"، لكن هذا الموضوع، يتخذ مطية لتمرير كثير من الرسائل الإصلاحية ذات البعد الأخلاقي من مثل محاربة الظلم، وكف يد القوي عن الفقير، والدعوة إلى خلق التواضع والتآزر بين أفراد المجتمع الواحد مع التقيد بما تفرضه القيم العربية الإسلامية من أخلاق وشرائع، وكثيرا ما تنتصر للقيم الأخلاقية السامية كنوع من التوجيه والتنوير الاجتماعي، وهذا ما ينسجم مع الطرح الأخلاقي للجمعية العلماء، وفي عملية إعادة بعث الهوية الضائعة، والتي انتهجت فيها سياسة مهادنة متفادية للصدام سواء كان مع القوة السياسية المهيمنة أو مع الفرد الذي تهدف إلى إصلاحه، وقد اعتمدت هذه الرواية في بنيتها الفنية على التنميط الأخلاقي للشخصيات، فكانت الشخصية الروائية تجسّد قيمة أخلاقية تصارع قيمة أخلاقية أخرى، لذلك هيمن النمط الأخلاقي على شخصيات الروايات الإصلاحية، فزكية وجميل صادق في رواية "غادة أم القرى" يمثلان نموذجا للشخصية الطيبة صاحبة القيم، وصاحبة الأخلاق الحميدة الرافضة لهيمنة الطمع والتكبّر والتجبر وشراء الذمم، وفي مقابل هذا النموذج، يظهر نموذج الشخصية الشريرة العابثة التي تستهين بكرامة الآخر، وتحاول النيل منه بأي طريقة كانت، ويلاحظ القارئ أن شخصية رؤوف وشخصية الشيخ أسعد، خير من يمثل هذا النموذج في الرواية، ورغم النهاية غير المتوقّعة للرواية بموت البطلين الخيرين، إلا أن القيم الخير هي التي انتصرت في النهاية، بعد أن أدرك المجتمع في النهاية براءتهما. هذا النموذج الطيب الخير يتجسد في رواية "الطالب المنكوب" من خلال شخصية الطالب عبد اللطيف الذي يضحي بحياته من أجل من يحب، وهذا الموقف جعل من العائلة الثرية تعدل من رؤيتها الطبقات المجتمع، وتحد من تكبرها ورفضها للطبقة الفقيرة.. إن هذه النمذجة تنسجم تمام الانسجام مع فكرة التوجّه الإصلاحي الذي يقسم المجتمع إلى صنفين مختلفين صنف خير وصنف يمتاز بأخلاقه الوضيعة، والهدف والغاية المرجوة هو هداية الصنف الثاني للأخلاق الحميدة التي تقتضيها القيم الإسلامية؛ لذلك أول ما تحرص عليه الرواية الإصلاحية في تصوير الشخصية ورسم معالمها هو الغوص في نواياها وتبيان سوء أخلاقها أو صلاحها، وذلك بما تأتيه من أفعال وأقوال تكون القيم الإسلامية، والعرف العربي هو المرجع الأساس في الحكم لهذه الشخصية أو عليها، وكأن هذه الأعمال الروائية تجسيد الأفكار الجمعية الإصلاحية، إنها تعيد طرح السؤال الأبدي المؤرق.. سؤال قديم جديد كيف نعالج هذا المجتمع؟!. إن هذا التوجّه الخير، جعل من الروح الرومانسي تسري في هذه الأعمال الروائية، حيث ينهزم البطل وينكص على عقبيه ويسلم أمره لقوى أخرى لتحكم له أو عليه سواء كانت قوة غيبية قاهرة، أو قوة ذات سلطة مادية، ولعلّ هذا يرجع إلى طبيعة الشخصية الإصلاحية التي نراها مجردة من وسائل المواجهة التي تضمن له النصر، فهي شخصية مسالمة، واضحة رافضة للمناورة والمساومة، تسير في خط مستقيم لا تحيد عنه رغم ما تلاقيه من وهاد وتلال وحواجز ومطبات إنها " تعبير عن الأزمة الحادة بين الفرد - المختلف والمتفرد وبين المجتمع.. كما يرى غالي شكري في طبيعة التوجه الرومانتيكي بصفة عامة. هذا يقود بالضرورة إلى التأكيد على السمة المهادنة للخطاب الروائي الإصلاحي، وهو خطاب لا يسعي إلى قلب قيم المجتمع قلبا جذريا، بقدر ما يهدف إلى تقويم الخلل الطارئ على قيمه، دون البحث في الأسس الفكرية والاجتماعية والتاريخية لهذا الخلل، وذلك يعود إلى الطمأنينة التي يجدها الكاتب في الموروث الديني الذي يرى فيه الكاتب حلولا لكل معضلات الحياة، ومنه جاءت فكرة المصالحة بين الطبقات عوض التصادم والصراع، وهذا ليس بمستغرب من مبدع تربى على تقديس النص القرآني والحديث النبوي الشريف والتي تؤكد على التآخي والتآزر. الإصلاح يحمل في طياته عملية تقريب وتوفيق بين طبقات المجتمع، حتى لا تبغي إحداها على الأخرى، وحتى لا يحقد الفقير على الغني، فلا يكون الأمر بالثورة والعنف والنهب وقلب نظام المجتمع وكسر قيمه، وإنما يكون بإصلاح ما اعوج من قيم المجتمع، فإذا كان جميل صادق في رواية "غادة أم القرى" قد ظلم من رؤوف صاحب النفوذ والثروة والسطوة، فإن عدالة الأمير من شأنها أن تعيد الأمور إلى نصابها، وفوق هذه العدالة عدالة الله سبحانه وتعالى التي لا تحابي ولا تميز بين غني وفقير، لذلك تسجل لنا رواية "غادة أم القرى" اطمئنان الأم لهذه العدالة.. تتساءل المرأة الأم المفجوعة بالظلم المسلط على فلذة كبدها ووحيدها، ويجيبها صوت الإيمان الله الجئي إلى الله. وهذا لا يعدو أن يكون ترجمة لروح الإيمان التي تسكن الفكر الإصلاحي وتسكن الكتابة الإصلاحية، شعرا وقصة ورواية، فالبعد الديني والإيماني يعد من المرتكزات الأساسية للكتابة الإصلاحية، لأنها تهدف أولا وأخيرا، إلى تثبيت القيم الدينية عند المتلقي وتعميقها فيه. جماليات الرواية الإصلاحية من الناحية الفنية، تبدو الرواية الإصلاحية مخلصة للنص السردي التراثي متناصة معه تناص اجترار، حيث يشكل هذا النص الزاد المعرفي والفني الذي تربى عليه كتاب هذه الرواية، وفي مقدمة النصوص التي تأثر بها هؤلاء كتاب "ألف ليلة وليلة"، وكتب المقامات، بالإضافة إلى القصص الشعبي العربي، ويبدو ذلك في اللغة المستعملة والتي تظهر فيها المسحة القديمة بدلالاتها ومعانيها وبنيتها، كما تظهر في طريقة رسم الشخصيات والفضاء ووعي الشخصيات وسير الأحداث لم يكن بإمكان الرؤية التقليدية، إلا أن تخلق شكلا أو رؤية جمالية تقليدية، فقد أفرغت كل المشاكل المعالجة أدبيا ضمن قالب شكلي قديم، وبذلك تكون هذه الرواية استجابة واعية لظروف تاريخية وحضارية وسياسية في موضوعاتها وفي جمالياتها وتعبيرا عن وعي سائد في فترة هامة من فترات التاريخ الجزائري التي عرفت بمقاومة هيمنة الآخر ثقافيا ودينيا ولغويا وحضاريا، فقد أكدت على الهوية العربية الإسلامية للشعب الجزائري، كما أكدت على قداسة القيم الإسلامية وعملت على تعميقها والدعوة إليها، ومكنت اللغة العربية من دخول عالم الرواية في الجزائر، رغم تراثيتها، فخدمتها ومنحت لها فرصة التطور والرقي. مرحلة الرواية الواقعية لا شكّ أن مرحلة السبعينيات كانت أكثر الفترات التاريخية الجزائرية حركية وتحولا لما شهدته من مشاريع وسمت بالمشاريع الثورية وكانت تهدف إلى تنقية المجتمع من المخلفات المدمرة للمجتمع التي خلفها المستعمر من أبرزها التخلف العام في كل المجالات، فالريف يرزح تحت طائلة الفقر والجهل وهيمنة طبقة مستغلة هي مزيج من العملاء القدماء للاستعمار والإقطاعيين، وهذا أنتج واقعا مزريا تضاربت فيه المصالح وتداخلت بين أغلبية فقيرة وأقلية مستأثرة بكل خيرات البلاد، أما المدينة فهي لا تقل سوءا عن حالة الريف، فالفقر والبطالة والجهل والأمية ضاربة بأطنابها في المجتمع.. إنها حالة مجتمع يخرج من هيمنة مستعمر غاشم بعد حرب ضروس دامت سبع سنوات عجاف عرف فيها الشعب الجزائري كل أنواع القمع والقهر.. للخروج من هذا الواقع، توجهت الجزائر وجهة اجتماعية خاصة، كانت أبرز معالمها اتخاذ الاشتراكية منهجا لتسيير الحياة العامة للبلاد والعباد وكأي ظاهرة اجتماعية، لم تنبع الواقعية الاشتراكية من الفراغ، فهناك ظروف اقتصادية وثقافية وتاريخية تعقدت فيما بينها لتفرز لنا أسلوب ومنهج الواقعية الاشتراكية وحمل جيل كامل مشعلها. إن القول إن الكتابة الواقعية هي نتيجة وعي فلسفي وقناعة إيديولوجية، عند الكاتب الجزائري فيه شيء من الحق، لكنه ليس كل الحقيقة، فبين الالتزام والإلزام وركوب الموجة والتيار السائد، هيمن التيار الواقعي المؤدلج في الكتابة الروائية الجزائرية، وعموما إن الواقعية بمعناها الشمولي .. في التعبير الواقعي عن الأفكار، وهي بذلك تعد النقيض لما هو مثالي، ولذلك، فإن كتاب الرواية في الجزائر، كانوا واقعيين بطريقة أو بأخرى حتى في مرحلة الرواية الإصلاحية. لكن الجديد في واقعية السبعينيات هو تلك المفاهيم التي ظهرت مرافقة للكتابة الأدبية بصفة عامة مثل الالتزام والنضال ومساندة الطبقة الكادحة وكلها مفاهيم سياسية تسربت إلى الكتابة الأدبية، من منظور أن لا وجود الأدب حيادي في المجتمع الإشتراكي"، وقد ألح نقاد تلك المرحلة على ضرورة تجنيد الأدباء والكتاب الخدمة الهدف السياسي من ذلك ما ذهب إليه محمد مصايف.. "ومهما يكن من أمر، فإن بلادنا في أمس الحاجة إلى مجهودات وإخلاص جميع أبنائها، وبخاصة إلى مجهودات هؤلاء الذين يتمتعون بثقافة واسعة ويملكون وعيا حادا بالقضايا الوطنية، وإحساسا عميقا بحاجيات الوطن والمواطنين وليس بمعقول مطلقا أن يظل هؤلاء الأدباء بمعزل عما يعتمل في بلادهم من ثورات". وانطلاقا من هذا، نلاحظ أن بداية الرواية الواقعية في الجزائر، كانت حين التف الكتاب حول المشاريع السياسية والاجتماعية للسلطة الحاكمة وتبشيرهم بها وبآثارها الجيدة على المجتمع، لكي يأخذ مساره نحو التطور والازدهار والرقي، ولعلّ الثورات الثلاث التي أعلنت عنها الدولة في تلك الفترة، ممثلة في الثورة الصناعية والثقافية والزراعية، كانت أهم المشاريع التي ألهمت الكتاب وأخذت بأقلامهم نحو الوجهة الواقعية الملتزمة، وكانت أول رواية أخذت هذا البعد الفني، ولها من النضج والكفاءة الفنية، رواية "ربح الجنوب" للكاتب عبد الحميد بين هدوقة ونشرت سنة 1971، وهي بإجماع النقاد بداية المرحلة الواقعية في الرواية الجزائرية، يدور موضوعها حول تصوير العلاقات الاجتماعية في ضوء مؤسسة الزواج القسري وحول صورة الريف الجزائري بعد الاستقلال. كانت الانطلاقة مع رواية "ريح الجنوب" لتحقّق الرواية الجزائرية بعد ذلك تراكما هائلا في هذا الاتجاه، فكانت روايات بن هدوقة "نهاية الأمس" و«بان الصبح" و«الجازية والدراويش"، و«غدا يوم جديد"، وكانت روايات الطاهر وطار "اللاز" و«الزلزال" و«عرس بغل" و«العشق والموت في الزمن الحراشي"، بالإضافة إلى كتابات الرعيل المؤسس للكتابة الواقعية في الجزائر، أمثال رشيد بوجدرة وواسني الأعرج، ومرزاق بقطاش، وعبد الملك مرتاض. كل هذه الأعمال الروائية عملت على تشريح الواقع الجزائري معبرة عن أمل هذا المجتمع لتحقيق العدالة الاجتماعية، وتحقيق الازدهار الاقتصادي والحضاري في ظلّ القيم الثورية التي تدعو إلى مساندة الشعوب المقموعة لتقرير مصيرها، وفي ظلّ حركية اجتماعية تعلي من شأن العمل والكدح موضوعات الرواية الواقعية في الجزائر. تجدر الإشارة إلى أن هذا التوجّه أحدث القطيعة مع التوجه الإصلاحي في الرؤية والأفكار والجماليات، وحتى في قراءة الحدث التاريخي، ذلك أن الرواية الواقعية، وهي متأثرة بالجدلية التاريخية المادية، لا ترى في صراع الإنسان ضد أعدائه سوى صراع مادي أساسه صراع الطبقات من أجل الهيمنة وفرض القيم وبلوغ السلطة، وبذلك لا مجال للحديث عن المقدس والأخلاقي والديني في مثل هذه الرواية. وأسلوب هذه الرواية في إطار هذه الرؤية الواقعية الجديدة، يعتمد على المفارقة الحادة والسخرية الشديدة. في تصوير البسطاء الذين يعيشون في القرى والأحياء الشعبية التي تمثل قاع المجتمع، ويعيش فيها أفرادها من الفلاحين والعمال وصغار الموظفين واللصوص وتجار المخدرات ومدمنيها، وهم يمارسون لعبة الحياة من أجل تحقيق أحلامهم الصغيرة، ورغباتهم الغريزية دون كبير حرص على التمسّك بالقيم أو الخوف من القانون؛ لذلك استبدلت هذه الرواية النموذج الأخلاقي بالنموذج الاجتماعي، لتجسد الصراع وتضارب المصالح وتصور أحلام كل طبقة وما تطمح إلى تحقيقه في نضالاتها المستمرة، ولعلّ "ريح الجنوب" للكاتب عبد الحميد بن هدوقة خير من جسدت هذه النمذجة حين قسمت المجتمع بين رجل الإقطاع وعائلته، وبين الطبقة الكادحة الراغبة في الانعتاق من سيطرة الإقطاعيين، وبين الطبقة المثقفة الراغبة في توعية المجتمع والنهوض به من تخلفه، وقد حاول الكاتب رسم هذه النماذج من خلال شخصيات الرواية، تموقعهم الاجتماعي، فعابد بن القاضي الرجل الإقطاعي المهيمن على القرية وأهلها لا يتوانى عن فعل أي شيء للحفاظ على مصالحه الخاصة ومصالح عائلته ولا بأس أن يضحي ببعض العائلة من أجل ما يمتلكه. كما استبدلت بعض الروايات النموذج الأخلاقي بالنموذج الأيديولوجي، حيث يتحول الصراع بين الشخصيات إلى صراع بين إيديولوجيات مختلفة، حتى ليحس القارئ أنه أمام مرافعات فلسفية وعقدية تحاول كل شخصية أن تدافع عن رؤيتها الإيديولوجية لشتى الطرق، قد تبلغ درجة العنف والمواجهة المسلحة وقد حاول الطاهر وطار في روايته "اللاز" وروايته "العشق والموت في الزمن الحراشي" تجسيد هذا الصراع، مع البحث عن جذوره التاريخية منذ زمن الحركة الوطنية وأيام حرب التحرير. الحلقة الثانية