كان ما ذكرنا أولى علامات التحول في الخطاب الروائي الجزائري الثمانيني، وقد جاء هذا التحول استجابة واعية لتحولات سياسية واجتماعية وثقافية كانت تنبئ بمستقبل مضبب المعالم، مجهول السمات، منفتح على اتجاهات تطور مختلفة، فبين الطيب بن الخضر الجبايلي وثقافته الزيتونية، وشخصية الأحمر صاحب الثقافة الماركسية، وبين الشامبيط وابنه الرأسمالي القادم من أمريكا، تنفتح الرواية على صراع إيديولوجي شديد الشراسة، وما هو إلا صراع تيارات سياسية وفكرية بدأت تظهر على الساحة الوطنية منذ بدأ الحديث عن بداية مرحلة جديدة، لا أثر لشعارات المرحلة السبعينية فيها، هي مرحلة الانفتاح على التعدّد السياسي لذلك نجد أن روايه الثمانينات تظهر أكثر حواريه من سابقتها في السبعينيات.. لقد اعتمدت الرواية النموذج الإيديولوجي، وصارت الشخصية تختصر حمولات إيديولوجية تصارع من خلالها بقية الشخصيات دون أن تكون الأفضلية لطرف على آخر، مما جعل زاوية الرؤية في هذا النوع من الرواية تساوي بين الشخصية وراوي الحدث، ولعلّ هذا هو الملمح الثاني من ملامح التحول في الرواية الثمانينية، ففي رواية "الجازية والدراويش"، تحاول كل شخصية تقديم نفسها للمتلقي من خلال ضمير الأنا، الراوي الشخصية، وتقدم رؤيتها وفكرها وثقافتها ومخططاتها، وحاولت الرواية الثمانينية تجاوز البنية الفنية للرواية الواقعية الصارمة، فتوجهت في بعض الأعمال وجهة رمزية مثل رواية "الجازية والدراويش". ويمكن اعتبار رواية الثمانينيات رواية المرحلة الانتقالية من صرامة الواقعية إلى رحابة التجريب والتجديد، والذي ستتعمق مجالاته في الرواية التسعينية وما بعدها ليؤسس لمرحلة جديدة من مراحل تطوّر النص الروائي الجزائري المعاصر. موضوعات رواية الثمانينيات يمكن حصر الموضوعات التي تناولتها رواية الثمانينات في رثاء البطل الثوري والتنديد بالتراجع الواضح عن المشاريع الثورية، تصوير الصراع الإيديولوجي المحتدم بين التيارات السياسية والفكرية الجزائرية محذرة من مغبة الإنسياق وراء الأحقاد والضغائن، رصد الأفكار الجديدة التي دخلت المجتمع وبدأت تغير من حياة الجزائريين بالاتجاه نحو الانتهازية والوصولية وإنكار القيم والتنكر للتاريخ والرموز. التسعينيات.. أو مرحلة تجديد النص الروائي ما يمكن تسجليه للرواية الجزائرية بامتياز هو قدرتها على مواكبة الحدث الوطني وقدرتها على تكييف خطابها مع المستجدات في الواقع، وتغيير وجهة نظرها إزاء كثير من القضايا وفق تغير التداول الاجتماعي لهذه القضية أو تلك، يصدق هذا حين نعيد تتبع مسار هذه الرواية منذ ميلادها تحت هيمنة الاتجاه الواقعي المتأثر بالنظرية الماركسية والتي حاولت أن تكرس فكرة الانتماء الإديولوجي كقيمة عليا، يحكم من خلالها على مختلف النشاطات الاجتماعية والسياسية والثقافية. حيث يمكن أن نصف الرواية في هذه الفترة بأنها رواية دعائية، عمل أصحابها على تبنى قرارات السلطة ورؤيتها". ثم جاءت الهزات العنيفة لأحداث الثمانينيات، وانهيار المشروع الاشتراكي وتراجع السلطة عن خياراتها ومشاريعها، فراحت الرواية تنعي هذا المشروع وتشكّك في كثير من منطلقاته محاولة التشكيك حتى في ارتباط الفكر الاشتراكي بالمجتمع وارتباط المجتمع به.. أو كما عبرت عن ذلك رواية "الجازية والدراويش".. "لكل شيء يا بني عروق تربطه بالأرض، حيث لا عروق، لا شيء سوى الهاوية". لقد شهدت الساحة الأدبية الجزائرية كما هائلا من الأعمال الروائية المختلفة والمتنوعة، كما عرفت ظهور جيل جديد من الكتاب الشباب الذين دخلوا عالم الكتابة الروائية برؤى جديدة مختلفة عن جيل الرواد الأوائل والمؤسسين للرواية العربية الجزائرية، ولعل مصطلح الأدب الاستعجالي الذي وسم أعمال الشباب، إنما جاء ردة فعل من الجيل القديم على كتابات الشباب، لانحرافهم عن المسار الواقعي للرواية، ولإهمالهم البعد الإيديولوجي في كتاباتهم كون هذا الجيل الشاب يرفض كل الإيديولوجيات ويحاول أن يعطي لنفسه هامشا من الحرية في معالجة القضايا بنوع من الحيادية تبلغ أحيانا درجة التسجيلية للحدث اليومي والهامشي والمأساوي، فلم يعد هناك من مشروع اجتماعي يقنع الكتاب الشباب بالتجند حوله والدفاع عنه. في مثل هذه الأجواء توجهت الرواية الجزائرية إلى ركوب موجة التجديد موضوعاتيا وفنيا مدفوعة إلى ذلك بتغير اهتمامات الكتاب وتغيرات تقنية كتابة الرواية، خاصة وأن التقنية الواقعية لم تعدّ قادرة على مسايرة التحولات الاجتماعية، وبدأ بريق هذا التيار يخفت شيئا فشيئا، لتحل محلة اتجاهات تطور مختلفة على مستوى كتابة الرواية في الجزائر، وتلك هي الحقيقة الأولى التي نسجلها حول الرواية التسعينية فهي لم تتجه وجهة فنية واحدة عند جميع الكتاب، وإنما ذهب كل كاتب إلى وجهة يراها مناسبة له وتعبر عن أفكاره وهمومه، لهذا لا يمكن الحديث عن توجه واضح وموحد نحو التجديد في الرواية الجزائرية، فالرواية الجديدة هي حركة تجمع بين عدد من الروائيين يتفقون على مبادئ عامة مشتركة، ولكنهم يختلفون خارج هذه المبادئ العامة وفي هذا السياق، يمكن الحديث ظهور نزعات مختلفة ومتنوعة في الرواية الجزائرية تدخل جميعها ضمن تيار التجديد والتجريب في الكتابة الروائية الجزائرية المعاصرة النزعة الرمزية: خاصة في الروايات التي تناولت أحداث الحقبة الدموية أو حقبة الأزمة، وهنا نشير إلى رواية "غدا يوم جديد" للكاتب عبد الحميد بن هدوقة ورواية "ذاكرة الجسد" للكاتبة أحلام مستغانمي، وهما روايتان اتخذنا من الواقع الجزائري ما بعد الخامس من أكتوبر موضوعا لها، لكن في قالب رمزي ارتدت فيه الجزائر ثوب المرأة التي عايشت الحدث وتأثرت به وعانت من ويلاته، فكل من مسعودة في رواية "غدا يوم جديد"، وأحلام حياة في رواية "ذاكرة الجسد". ترمزان إلى الجزائر في حقب تاريخية مختلفة. وهما شخصيتان روائيتان تتشكل رمزيتهما من خلال التماهي مع التاريخ الجزائري. وبالأحداث الأليمة التي عرفتها الجزائر، والأبعد من ذلك التماهي مع جغرافية الوطن.. تتحدث مسعودة عن نفسها قائلة: "أستطيع أن أضع رجلي اليمنى على سنوات الثمانينيات والتسعينيات، فأجد نفسي أمام أحداث أكتوبر"، لتؤكد هنا على هذا الارتباط الوثيق بين الراوية في الرواية، وبين المروي عنه أو موضوع الرواية حتى ليعجز المتلقي عن الفصل بينهما، فالراوية تؤسس لتاريخها الشخصي، لكنها في الحقيقة تعيد بناء تاريخ الجزائر من منظورها الخاص، وهو تاريخ الرواية وزمنيتها في الوقت نفسه.. إنها رواية تقول حاضرها وماضيها، تريد بناء تاريخها حجرة حجرة. النزعة الشعرية: توجّهت كثير من الأعمال الروائية وجهة شعرية فتخلت عن صرامة اللغة السردية. مستعيضة عنها بلغة هي القرب إلى لغة الشعر، وقد بدأت هذه الظاهرة في الرواية مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، وكأنها نوع من الهروبية يمارسها الكاتب من واقع مرير لا شيء يغري فيه بالحياة، خاصة زمن الأزمة التي ضربت المجتمع الجزائري وجعلته يلج عوالم الظلامية والموت، ولعل أعمال أحلام مستغانمي هي أكثر الأعمال الروائية ميلا للشعرية المفرطة سواء في التعبير عن القضايا الوطنية أو العالمية، أو في رسم شخصياتها وفضاءاتها الروائية، إنها تجعل من اللغة بطلة للرواية، كما أن خالد بن طوبال، بطل هذه الرواية بداية برواية "ذاكرة الجسد" التي أطلت على مدار الرعب الجزائري في بداياته. فرسمت بريشة اللغة آلام الرجل الوطني وأحزانه، ومرورا برواية "فوضى الحواس" التي زاوجت بين فوضى الوطن الفاقد لذاكرته وفوضى الكتابة الروائية التي باتت تهرب من الواقع إلى فضاءات خيالية تلعب فيها اللغة دور البطولة.. "تماما كخلطي الآن بين وهم الكتابة والحياة وإصراري على الذهاب إلى الموعد الذي أقنعت نفسي عبثا بأنني لست معنية به وأنه سيتم بين كائنات حبرية، لا يحدث وأن تغادر عالم الورق". لقد أمعنت هذه الرواية في اللعب باللغة والاستسلام لسحرها ووهجها حتى قادت أبطالها إلى مصائر لا تقل بؤسا عن مصائر الشخصيات الحقيقية والتاريخية التي كانت مادة للحكي في المتن الروائي، خاصة أن خطابها، منذ الوهلة الأولى، يوحي بالغرابة ويشي بالفاجعة بين مطار وطائرة الجرف به الشوق إليها فلن تصدق أنه "استدل على النسيان بالذاكرة ولن تسأله عن أسباب هبوطه الاضطراري فهي تدري أن البحر سيسرقه منها". على هذا النحو سارت رواية "عابر سرير" مؤسسة عوالمها على تعدد الدلالة وعلى الغرائبية أحيانا وعلى التلاعب باللغة والفضاءات والأسماء.. "كنا مساء اللهفة الأولى عاشقين في ضيافة المطر رتبت لهما المصادفة موعدا خارج المدن العربية للخوف". ورغم أن هذه الأعمال الروائية كانت أكثر التصاقا بالواقع المحلي وبأزماته، إلا أنها قالته بطريقتها وبلغتها وبأسلوبها، فجاءت مفعمة بالشعرية ومتجاوزة للغة الروائية الصارمة. التوجّه التاريخي والتراثي: هذا النوع من الروايات راح يستنطق النص التاريخي والأحداث التراثية باحثة عن إجابات لما تعيشه الجزائر في فترة الأزمة، ولعلّ رواية "الشمعة والدهاليز" لطاهر وطار من بين هذه الأعمال الروائية التي توجهت وجهة تراثية، ورواية "الجازية والدراويش" لعبد الحميد بن هدوقة، مع توجه بعض الكتاب للبحث عن فضاءات جديدة للتعبير بعيدا عن أخبار القتل والتنكيل، ولنا في كتابات وسيني الأعرج مثل كتاب "الأمير". وفي أعمال عز الدين جلاوجي مثل رواية "العشق المقدنس"، خير دليل على ذلك. التوجّه التسجيلي: وهو توجّه ارتهن للحدث اليومي البائس وعايش صدمة المأساة الوطنية، فجاءت هذه الأعمال الروائية مسجلة للأحداث مصورة لبشاعة المجازر ووحشية مرتكبيها وفي بعض أعمال الحبيب السايح رغم خاصية التجريب اللغوي التي يمارسها في رواياته التي تراها أقرب إلى لغة رشيد بوجدرة مثل تمسخت وحتى أحلام مستغامي رغم شعرية لغتها إلا أنها وقعت في التسجيلية المفرطة في مجمل أعمال ثلاثيتها. التوجّه الصوفي: يشكّل هذا التوجه نزعة جديدة في الرواية الجزائرية التي بدأت بداية واقعية معرضة عن الجوانب الغيبية ومنتقصة منها في كثير من الأحيان، ولعلّ مكمن الغرابة أن تجد كاتبا مثل الطاهر وطار يكتب رواية الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي، ويكتب رواية الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء، ليعبر من خلالهما عن انفصال الذات المبدعة عن الزمان والمكان بحثا عن عالم أقل توحشا وأقل همجية، وفي هذا السياق نجد رواية للكاتب محمد مفلاح وسمها ب«سفر السالكين"، يصور فيها اليأس الذي يصيب الإنسان بعد حياة طويلة يكافح فيها من أجل حاجات الجسد والدنيا غافلا عن حاجات الروح التي وجدها بطل الرواية في زيارة الأولياء والتجرّد من الدنيا وكل متاعها والتوجّه نحو العوالم الإلهية النورانية، بداية بتخليه عن مشاغل الأسرة الصغيرة وتكليف الزوجة بها وتخليه عن أجرته لها، ليتفرغ لحضور المجالس الروحانية، والبحث عن الأولياء وأضرحتهم باحثا عن الراحة الروحية، حيث يندمج ضمن الحضرة في الغياب المطلق في فضاءات وملائكية، ووصولا إلى رغبته في البقاء ضمن هذا العالم الروحاني الممتع.. "يا رجال الله.. تردد صوت صيحتي المرتجفة في جبال الظهرة السابقة تبعتهم جريت خلفهم، جربت وجربت حتى طرت صرت عصفورا مغردا في سماء فسيحة صافية شعرت بسعادة غامرة وأنا أسبح في الفضاء الجديد الذي أحببت البقاء فيه، رافضا العودة إلى هناك إلى دنياهم إلى أوهامهم. جماليات الرواية الجديدة في الجزائر إن التوجّه العام عند الروائيين الجزائريين في المرحلة التسعينية وما بعدها هو الرغبة الجامعة نحو التجريب المستمر وخوض مجالات جديدة في مجال الكتابة الروائية، وإن كانت الرواية الجزائرية في بداية هذه الفترة قد ارتهنت لما هو مأساوي ومحزن جراء المأساة الوطنية التي شغلت بال المثقف وأثرت في كتاباته، وطبعت إبداعاته بطابع التأزم؛ لذلك نجد في هذه الرواية البطل المأزوم الخائف والمتوتر والمشكك والهارب والمضطهد والمهاجر، كما أن البطل الروائي لم يعد يسعى لبث رسالة تنويرية كما عهدناه في الرواية الواقعية، بل صار جلّ همه البحث عن الخلاص الفردي بعد أن تخلى عنه الجميع. كما أن البنية الفنية للرواية اتجهت نحو التفكّك حتى ليلاحظ القاريء أنها تتجه نحو كتابة اللارواية، حيث تمتزج الفنون ويمسرح الحدث، وتهمش الشخصية ويتلاعب بالأزمنة والفضاءات وتغيب الحكاية وذلك استجابة لواقع مضطرب لا تحكمه مسارات تطور منطقية بل تحكمة فوضى عارمة في كل مجالات الحياة. ذلك أن الرواية كنص لا تعدو أن تكون بنية دلالية تنتجها ذات ضمن بنية نصية منتجة في إطار بنية سوسيو نصية. خلاصة القول: إن الرواية الجزائرية منذ نشأتها كانت شديدة التأثر بالمناخات الثقافية التي عاشت فيها. فعكست السائد في كل فترة من فترات تطورها وازدهارها، وقد كانت استجابة الرواية الجزائرية لمتغيرات الواقع سياسيا واجتماعيا وثقافيا، تتضمن الشكل والمضمون مع انفتاحها على تيارات التجديد، فقد نشأت متأثرة بالفكر الإصلاحي ومتبنية الشكل التقليدي المتناص مع الأشكال السردية العربية القديمة، ثم تحوّلت إلى تجاوز كل ما هو قديم مع التيار الواقعي متبنية وجهة النظر المادية في تصوير الواقع وتحليل معطياته، لكنها اليوم تمارس كل أنواع الخرق والتجديد للشكل والمضمون محاولة مسايرة الواقع المتسارع في التحول والتبدل المستمر. الحلقة الرابعة