إنّ النموذج الإيديولوجي في الرواية الجزائرية يعكس ذلك الإيمان الكامن في نفس الكاتب بضرورة الانتصار لما هو إنساني وعادل. لذلك اتجهت روايات الواقعية الاشتراكية للانتصار للبطل الاشتراكي المكافح من أجل العدل والتنوير والتطور والمساواة بين الجميع.. كذلك كان الأمر مع اللاز، البطل الثوري المقموع من القوى المضادة والرجعية حسب تعبير الرواية، حيث انتصر في النهاية وأنقذ جميلة من التشويه، وفي ذلك إشارة إلى أنّ البطل الثوري صاحب التصور اليساري، يمثل المنقذ الحقيقي للمجتمع في نظر كتاب الرواية الواقعية الجزائرية والعربية بصفة عامة، لذلك يعتقد المثقف المؤدلج أنّه "يمثل الطليعة القائدة في تطوير البلد، بما يمتلك من نموذج حضاري". لكن في كثير من الأحيان، يتحوّل هذا البطل إلى بطل إشكالي مأزوم بقيمه النيرة، في ظلّ مجتمع ينهار ويتآكل، فيلخص بذلك الرجل الباحث عن رقي مجتمعه، والذي يصدم بكثير من العقبات والمعوّقات. وإذا حاولنا أن نجمل أهم الموضوعات التي تناولتها الرواية الواقعية الجزائرية، فإنّنا نقف على جملة من الموضوعات المهيمنة والمتكررة في هذه الرواية حتى باتت هذه الموضوعات مستهلكة ومجترة، وتكاد الروايات تعيد صياغة نفس الأحداث بطرق مختلفة نوعا ما. الموضوع السياسي رغم أنّ الرواية الواقعية في مرحلة السبعينيات حاولت أن تكون رواية إنسانية، أيّ أنّها راهنت على القيم الإنسانية العامة التي تؤسّس لمجتمع عادل خال من الاستغلال والاستعباد، في ظلّ العدالة الاجتماعية التي بشرت بها دولة الاستقلال والحرية، إلا أنّها في النهاية ارتهنت لما هو سياسي وشعاراتي، فتحوّلت إلى أداة لترويج مشاريع السلطة.. الهتاف باسم مشاريعها دون التأكّد من نتائجها، حتى إنّ هتافات الطلبة في رواية "العشق والموت في الزمن الحراشي" بحياة الاشتراكية والثورة الزراعية، وترديد عبارات التأييد للرئيس بومدين في كلّ مرة، يدلّ على ذلك الارتهان للسياسي قبل الأدبي، كما أنّ النزعة التبريرية التي نجدها في بعض الروايات لأخطاء السياسة، تدلّ على ذلك الارتهان، وخير دليل ما تجده في رواية "نهاية الأمس" للكاتب عبد الحميد بن هدوقة التي تعتبر ذلك قدر الشعوب الجاهلة، وهذا ما يذهب إليه إدريس بوذيبة في كتابه الموسوم ب«الرؤية والبنية في روايات الطاهر وطار". وعلى الرغم من سيطرة الطابع السياسوي على النصوص الروائية التي ظهرت في السبعينيات، فإنّها لا تخلو من طرح جذري يقوم على محاكمة التاريخ أو الواقع الراهن بلغة فنية جديدة ويعود هذا إلى أنّ الكثير من الروائيين كانوا مناضلين، أو مرّوا بتجربة السجن والتشرّد أثناء الثورة. لقد مجّدت هذه الأعمال الروائية مشاريع السلطة وتغنّت بها، وبشرت المجتمع بحياة سعيدة في ظلّ الخيار الاشتراكي، يسودها الرخاء والعدل والأمن والازدهار، وصورت كلّ معارض لهذا الطرح بصورة العدو والرجعي الذي يسعى إلى خيانة وطنه.. إنّها رواية متحمّسة لبناء دولة وطنية بعد أن شهد جيل هذه الرواية ويلات المستعمر وويلات الحرب، إنّها رواية تستجيب لواقع اجتماعي وثقافي خاص في فترة خاصة؛ ذلك أنّ "الكاتب يتفاعل مع محيطه الاجتماعي الذي يعيش فيه لذلك فحضور البنية الاجتماعية وارد في النص". وانطلاقا من هذا التوجّه، نلاحظ طغيان معجم محمّل بحمولات إيديولوجية وسياسية تعبر عن المرحلة السياسية في زمن السبعينيات، فتكثر المقرات ذات الصلة مثل الديمقراطية والاشتراكية، وحقوق العمال والنضال والكدح والبورجوازية والإمبريالية والرفاق والحزب واللجنة.. إلخ، وكلّها من المصطلحات السياسية المتداولة سياسيا وحزبيا في هذه المرحلة. الموضوع الاجتماعي لا نجانب الصواب إذا قلنا إنّ الرواية السبعينية رواية اجتماعية بامتياز، فلم تغادر موضوعا يتصل بحياة الفرد والمجتمع الجزائري إلا طرقته، في إطار رؤية فلسفية وإيديولوجية واضحة المعالم، فمن موضوع المرأة والأرض والطبقة الكادحة في رواية "ريح الجنوب" إلى موضوع محاربة الجهل والتخلّف والحزازات القديمة في رواية "نهاية الأمس"، ومن محاربة الإقطاع واحتكاره لخيرات البلاد في رواية "الزلزال"، إلى تفكيك العلاقات الاجتماعية الجائرة في "التفكك" و«الرعن" لرشيد بوجدرة، وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الرواية كانت دائما تقف في صفّ الطبقات المسحوقة معبرة عن آمالها وأحلامها "فعبّرت أكثر من غيرها عن حاجات الشعب الجزائري المادية، وتوغّلت في فضاءاته الاجتماعية الأكثر عمقا واتساعا"، لكنّ رؤيتها التغريبية والمادية، جعلتها تسير في خط مواز لحركة المجتمع، بل إنّ كثيرا من الفعّاليات والمؤسّسات الاجتماعية ناصبتها العداء، ومارست ضدّها حملات إنکار بلغت حدّ مقت الناس لهذا الكاتب أو ذاك، لما في رواياته من جرأة على قيم المجتمع، مثل الكاتب رشيد بوجدرة الذي يتحاشى الجميع قراءة أعماله ودراستها حتى في الوسط الأكاديمي. وتجدر الإشارة أنّ ضمن هذا الموضوع العام، نوقشت كثير من القضايا مثل قضية المرأة، وقضية الدين والحريات والأخلاق، والتربية والتعليم والعمل والعمال والزواج والعادات والتقاليد والعلاقات الاجتماعية بمختلف تمظهراتها، فإذا نظرنا إلى موضوع المرأة على سبيل المثال، فإنّنا نرى أنّ الرواية السبعينية، قوّضت الرؤية الإصلاحية التي رأت فيها تطرفا في الحجب والتضيق، وأنتجت فنيا نموذجا جديدا لامرأة جزائرية لا وجود لها إلا في مخيلة الكاتب في امرأة متحرّرة مبتذلة طائشة تتعالى على أرثها وتهين كلّ ما يمتّ للأسرة بصلة، وما دليلة بطلة رواية "بان الصبح" لعبد الحميد بن هدوقة إلا دليل على ذلك، فعالجت بذلك ما رأته تطرّفا بتطرّف أشنع منه. الموضوع التاريخي لا نجانب الصواب إذا قلنا أنّ الرواية الجزائرية منذ ميلادها الأول، سواء في نصّها المكتوب باللّغة الفرنسية، أو في نصّها المكتوب باللّغة العربية، كانت شديدة الارتباط بالتاريخ، وحين نقول التاريخ فإنّنا نعني بذلك محاولاتها تسجيل حوادث التاريخ، وتمثل ثلاثية محمد ديب برؤية نقدية لاذعة، أو مستدعية للتاريخ وقارنة الواقع على ضوئه على اختلافات هذا التاريخ بين حديث وقديم ومعاصر. ولنا في روايات الطاهر وطار وعبد الحميد بن هدوقة خير مثال.. "اللاز" و«الزلزال" و«عرس بغل"، مثل "ريح الجنوب" و«نهاية الأمس" و«بان الصبح" و«الجازية والدراويش" و«غدا يوم جديد"، كما نلمح هذا التوجّه في الرواية الجزائرية المعاصرة مثل ما هو حاصل في روايات أحلام مستغانمي.. "ذاكرة الجسد"، "فوضى الحواس" و«عابر سرير"، ويعود هذا الارتباط الوثيق بين الرواية والتاريخ في الجزائر إلى خصوصية التحديات التي عالجتها هذه الرواية، حيث واجهت واقعا شرسا كانت فيه البداية من الصفر ولم يكن الأمر بالبساطة التي يمكن أن تتصوّرها، وكان لابد من عملية فرز على أسس وطنية، وذلك على مستوى سياسي، وعلى مستوى ثقافي واجتماعي وعقدي، بل على كلّ المستويات والمجالات وكان لابد - ضمن هذه الظروف - أن ينشأ وضع ثقافي يحاول استثمار الرصيد الثوري الجاد والمشرق... مستغلا الحقبة التاريخية، ومستعيدا للماضي في كثير من الأحيان. ويصدق القول على الرواية الجزائرية في بداية السبعينيات، حيث نظرت إلى التاريخ، وخاصة تاريخ الثورة، ثم تاريخ الحقبة الزمنية التي كتب فيها النص الروائي، نظرة تقديسية، وقارئ الروايات لهذه الحقبة سيلمح ذلك الجدل الواسع بين الواقعي والتاريخي، فأغلب القضايا التي عالجتها الرواية في تلك الفترة إنّما عولجت على ضوء ما هو تاريخي، وخاصة تاريخ الثورة، وفي خضم الحماس الكبير والرغبة في إعادة صياغة الوعي الاجتماعي بالتاريخ وبالهوية في ضوء الفكرة الإيديولوجية، كانت نظرة الرواية السبعينية تحاول جادة البحث في التاريخ الجزائري عما يمكن أن يوحي للقارئ بأنّ كلّ ما يمثل تاريخا مشرقا في الجزائر إنما مردّه إلى الوعي الإيديولوجي أولا وآخرا، ف«اللاز" - على سبيل المثال - وهو بطل رواية الطاهر وطار الذي أراده أن يكون رمزا للشعب الجزائري في مسيرة كفاحه ضدّ المحتل، لم يبلغ درجة الوعي ولم يخرج من حالة الجهالة والطيش والعبث إلا بعد أن صار شيوعيا. جماليات الخطاب الروائي الواقعي قد لا نجانب الصواب إذا قلنا إنّ سمة القطيعة مع الخطاب الروائي الإصلاحي كانت مهيمنة على خطاب الرواية الواقعية السبعينية في الجزائر، شكلا ومضمونا ورؤية، لذلك تجد هذه الرواية قد نأت بجانبها عن جماليات الرواية الإصلاحية، ومارست نوعا من التجديد والتجريب، يتلاءم مع روح المرحلة وطبيعة التحديات، فعمدت إلى : الإيهام بواقعية القصة والحدث وإخضاع كلّ ذلك لمقتضيات المنطق والواقع، فلا خرافة ولا صدف ولا عجائبية ولا خوارق. رسم الشخصيات رسما واقعيا حيث يراعي الكاتب المكانة الاجتماعية والفكرية لشخصياته وتسخير ذلك لخدمة سير الحدث وتطوره، فلا تنطق الشخصية إلا بما يقتضيه مستواها الفكري في النص. هيمن الراوي العليم على مجربات السرد، وذلك يعود بالأساس إلى البعد التلقيني لهذه الرواية، فالكاتب ينظر إلى عمله الروائي على أنّه رسالة تربوية تعليمية تلقينية توجيهية للمجتمع، فهي تصدر من ذات عالمة تمثل الراوي العليم إلى المتلقي بغية التأثير فيه وإعادة توجيه سلوكه، وقد أشار محمد مصايف إلى ذلك في سياق تحليله لنص "ريح الجنوب"، مؤكّدا على مبالغة الكاتب في تقمّص دور المعلم.. لقد سمح الكاتب لنفسه أن يكون حكما أو مدرسا يحاضر.. احترام خطية الزمن في الغالب مع الحرص في بعض الأعمال الروائية على الزمن الماضي من خلال تقنية الاسترجاع، خاصة تلك التي تعيد مناقشة قضايا التاريخ وأحداثه. تحوّلات الخطاب الروائي الجزائري ما بعد الواقعية بدأت الرواية الجزائرية تتجه نحو التجديد مع نهاية الثمانينيات، فقد جدّت كثير من الحوادث على الساحة الاجتماعية والسياسية كانت شديدة التأثير على حياة الجزائري وعلى يومياته، بداية من الأزمة الاقتصادية التي ضربت بأطنابها في البلاد حتى صارت الطوابير الطويلة هي السمة البارزة في الشارع الجزائري من أجل الخبز والحليب والزيت والصابون إلخ، ذلك أنّ شحّ الموارد المالية أدّى إلى العجز عن توفير الضروريات للجميع، فكان ذلك بداية لتململ اجتماعي بدأت معالمه تظهر في إضراب العمال والمعلمين واحتجاجات الناس هنا وهناك.. لقد كان لهذه الهزات الاجتماعية أثرا بالغا على الحياة السياسية، حيث بدأت الأفكار المعارضة تظهر للعلن معلنة عن رغبتها في المشاركة الفعلية في الحياة السياسية، ولعلّ ظهور التيارات السياسية المختلفة، كالتيار اليساري والتيار الإسلامي والتيار اللبرالي كانت بداياته من زمن الثمانينيات كنوع من النزعة الاحتجاجية على تقهقر الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وقد رافق ذلك تراجع كبير عن المشروع الاشتراكي الذي تغنّت به الرواية الجزائرية لفترة من الزمن، خاصة بعد الهزات العنيفة التي عرفها المعسكر الشرقي من انهيار جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه إلى دويلات صغيرة متناحرة ومختلفة الولاءات والإيديولوجيات. في مثل هذا الوضع بدأ كتّاب الرواية يستشعرون ضرورة التحول من تلك الكتابات المقولبة والجاهزة المبشرة والمساندة والمكافحة عن توجه فكري واضح المعالم، إلى كتابة قلقة تطرح الأسئلة المحيرة، والمصيرية حول مآلات المجتمع الجزائري وعوامل فشل التجربة الاشتراكية رغم ما حظيت به من مساندة وترويج منقطع النظير من السلطة والنخبة المثقفة. كان الكاتب عبد الحميد بن هدوقة في هذه الفترة قد ألّف روايته "الجازية والدراويش" التي تعدّ بحق نقطة تحوّل في الخطاب الروائي عنده، وفي الرواية الجزائرية عموما إذا اختلطت مشاريع تطوّر مختلفة ومتعدّدة، فكان الشكل الروائي في الجازية والدراويش هو الأنسب لمعالجة هذا الواقع روائيا. لقد تخلت هذه الرواية عن البطل الثوري الذي ملأ صفحات الروايات الواقعية ضجيجا، واستأثر بالحصة الكبرى لاهتمام الكتاب والروائيين والنقاد، وقد أعلنت رواية "الجازية والدراويش" موت هذا البطل الثوري مؤكّّدة نهاية زمن البطولة المطلقة وبداية التعدّد والتنافس من أجل تحقيق الأهداف والتمكين للأفكار، فرغم القوّة والهيمنة التي ميزت الشخصية الثورية ممثلة في الطالب الأحمر صاحب الحلم الأحمر إلا أنّ نهايتها كانت مأساوية "الأحمر هو اسمي الحقيقي هو لوني هو لون أحلامي". يتفاجأ القارئ للرواية بهذا البطل مضرّجا بدمائه وقد ابتلعته الهاوية، ولعبت به دسائس ومؤامرات خصومه.. مات الطالب الأحمر - الدرويش - دفعه مجهول أو سقط على صخرة. الحلقة الثالثة