شكلت الأسطورة في كلّ الآداب العالمية ظاهرة قوية وشبه أبدية في الكتابات الإبداعية وخاصة في الشّعر والرواية والمسرح. فكيف حضرت الأسطورة في الأدب الجزائري وفي الرواية على وجه التحديد. وكيف تم توظيفها أو تمثّلها. وهل كان هذا التوظيف وفق سياقات أدبية جزائرية خالصة؟ حول هذا الشأن «الأدب والأسطورة»، يتحدث بعض الكُتّاب والنقاد الأكاديميين في ملف «كراس الثقافة» في عدد اليوم، وكلٌ من زاويته الخاصة وحسب وجهة نظره. فالدكتور عبد الحميد بورايو يقول: «لقد كانت الرواية الجزائرية في بداياتها أقرب إلى تصوير الواقع ومحاكاته بلغة مباشرة، قريبة من لغة التواصل اليومي، وبالتالي لا نجد في الأعمال الرائدة الأولى سوى بصمات محدودة من الأسطرة التي تتمثل في الصور الرمزيّة». مؤكداً في ذات المعطى أنّ الأسطرة في الأدب الروائي الجزائري تكون مُؤشّراً واضحًا على تطوره من مرحلة إلى أخرى. أمّا الدكتور محمّد كاديك. فيرى أنّ الأسطورة تبقى مصدراً مُلهمًا للأعمال الروائية الحديثة؛ ذلك أنّ الموروث الثقافي الإنساني له تأثيراته المُباشرة على الحياة بحكم البراديغمات التي اِصطنعها على مدار التاريخ. في حين يقول الدكتور عبد الحميد ختالة أنّ تراكم التجربة الروائية الجزائرية أسهم في بروز توجه الروائي الجزائري نحو الإرث الأسطوري الإنساني والعربي والجزائري، حيث يمتد حضور الأسطورة في الرواية الجزائرية إلى مرحلة البدايات وصولاً إلى الجيل الجديد. مضيفًا أنّ اِستخدام الأسطورة في الرواية يأتي وفق نسق ثقافي يتآلف مع البيئة المكانية والطقس الاِجتماعي الّذي ينتمي إليه. مستدركا من جهة أخرى أنّ الرواية الجزائرية حرصت على تخييل الأسطورة لترقى إلى مستوى الرمز رغم سقوط بعض النصوص في الاِستخدام المُسطح للأسطورة خاصةً ما تعلق منها بالشخصيات الروائية. إستطلاع/ نوّارة لحرش من جهته يرى الدكتور عابد لزرق أنّ الكثير من الكُتَّاب يَعْمدُون إلى توظيف الأساطير في أعمالهم الشِّعرية والسردية للاِستفادة من عنصر الترميز الدلالي الّذي تمتاز به هذه الرموز قصدَ شَحْن معانيهم وفتح عوالمِ نصوصهم مِمّا يستلهِمُونه من دلالاتٍ خارجية تحتويها هذه الأساطير. في حين تقول الدكتورة فريدة إبراهيم أنّ الكاتب الجزائري وظف الأسطورة بمحمولاتها الرمزية، من خلال أسطرة شخصيات الرواية. عابد لزرق الأسطورة حضرت في روايات التأسيس الجزائرية وفي الرواية الجديدة لستُ هنا بصدّد البحث عن تعريفٍ دقيقٍ للأسطورة أو الحديثِ عن خصوصياتها الفنية والأدبية بوصفها حكاية واقعية أو خيالية غير معروفة المؤلِّف تتحدث عن الوجود، أو في اِرتباطها بشخصيات ذات حُمولات دلالية رمزية، أو تفسيراً لظواهر كونية وإنسانية، ولكن لمحاولة الإجابة عن سؤال حضور الرمز الأسطوري والأسطورة في الأدب الجزائري؛ شعراً ومسرحًا وسرداً، وكيفية تَمثُّلها وتوظيفها فنيًّا. يَعْمدُ الكُتَّاب إلى توظيف الأساطير في أعمالهم الشِّعرية والسردية للاِستفادة من عنصر الترميز الدلالي الّذي تمتاز به هذه الرموز قصدَ شَحْن معانيهم وفتح عوالمِ نصوصهم مِمّا يستلهِمُونه من دلالاتٍ خارجية تحتويها هذه الأساطير، ولتكثيف التجربة الشِّعرية بالدلالات والتعبير عن الموقف الشِّعري والتجربة الإنسانية بإيجاز من خلال ما يُحيلُ إليه اللفظُ المُوظَّفُ والمعنى الأسطوريّ من إشعاعاتٍ خارجية وحَكايا ووقائع وتجارب خيالية أو واقعية حدثت، والاِستفادة من جماليات الرمز الأسطوري وقيمه الفكرية لتوظيفها وفق رؤية فنية إبداعية، فلا يخفى ما للأدب من صلةٍ وثيقة بالأسطورة، كما لا تخفى صلةُ النقد الأدبي بالنقد الأسطوري، إذ لطالما شكّل الأدبُ ذلك القالبَ الفنّيَّ والخطابَ الّذي وصلتنا من خلاله كثيرٌ من أساطير الحضارات الأولى والبدائية. حضرت الأسطورة في روايات التأسيس الجزائرية مع جيل الرواد من خلال اِستلاهمهم من التراث الشعبي وقصصه العجائبية وأساطيره كما في رواية «الجازية والدراويش» لعبد الحميد بن هدوقة، ورواية «السيمورغ» لمحمّد ديب عبر اِستحضاره للرمز الأسطوري المُجسّد في طائر العنقاء أو طائر الفينيق الّذي يرمز إلى فكرة الموت والاِنبعاث في الكون ويُعيد إنتاجها من جديد، وحضور شخصية البطل الأسطوري في رواية «الحوات والقصر» للطاهر وطار، ورواية «ألف وعام من الحنين» لرشيد بوجدرة، و»سيدة المقام: مراثي الجمعة الحزينة» و»رَمْل الماية: فاجعة الليلة السابعة بعد الألف» لواسيني الأعرج...إلخ، أذكر هذا من باب التمثيل. كما حضرت في الشِّعر الجزائري الفصيح؛ حديثه ومعاصره، وفي الشِّعر الشعبي والملحون أساطيرُ من ثقافات مختلفة خصوصًا من الثقافة الإغريقية والعربية القديمة ومن الثقافة الجزائرية المحلية؛ أذكر هنا قصيدة «حَيْزِيَّة» للشاعر الشعبي «محمّد بن قيطون»، والتي نظم عنها لاحقًا الشاعر الفلسطيني الراحل «عز الدين المناصرة» سرديةً شعرية عبر قصيدته الموسومة ب»حيزيَّة عاشقة من رذاذ الواحات». يظهر كذلك حضور الأسطورة في الرواية الجزائرية الجديدة وتوظيفُها فيما يُعرف برواية التجريب، أذكر على سبيل التمثيل لا الحصر نصوص «عز الدين جلاوجي»، فهو من الروائيين الذين يستلهمون كثيراً في أعمالهم من التراث والأساطير الشعبية ويُوظفها ليُضفي عليها طابعًا عجائبيًا، يظهر ذلك في رواية «العشق المدنس» و»الفراشة والغيلان» في الاِستلهام من شخصية الغول الأسطورية، وفي رواية «سرادق الحلم والفجيعة» من خلال توظيف المُتخيّل الشعبي الأسطوري، وكذلك ما يصدره الروائيون الشباب اليوم بالأخص الذين يشتغلون على ما صار يتشكّل في الأدب الجزائري وما يُعرف بباب الخيال العلمي من خلال توظيفهم لرموز وفضاءات أسطورية منها: أسطورة ليليث، زرادشت، النجمة الخماسية بتندوف، مدينة سيفار... وغيرها.ومع ذلك يبدو أنّ توظيف الأسطورة في الأدب الجزائري عمومًا، وفي الرواية خصوصًا، بعيد عن اِستحضارها وفق سياقات أدبية وثقافية جزائرية محضة وخالصة، ولم يستفد الكُتّاب الجزائريون من الإرث الثقافي الأسطوري والإرث الشعبي المحلي في نصوصهم بالقدر المُناسب، ربّما لغلبة الموضوعات الاِجتماعية والتاريخية على الرواية الجزائرية وطغيانها عليها، فحتّى التاريخية منها قد سلّطت الضوء على مراحل وفترات زمنية من التاريخ الوطني وتاريخ ثورة التحرير دون حضور واضح للتاريخ المُتخيّل ذي العوالم الأسطورية، على الرغم مِمّا يكتنزه البلد من إرث ثقافي وجغرافي أسطوري، سواء في أمكنته المُترامية أطرافها عبر صحرائنا الشاسعة ذات الفضاءات الأسطورية والرمزية، كالطاسيلي ناجر، وتاغيت، وسيفار، وجبل عنتر، وفي بقية المُدن الشمالية...إلخ، وفي الشخصيات الرمزية التاريخية كالرجل الأزرق والتوارق، والشخصيات والرموز الدينية خصوصًا الصوفية منها بِمَا تُحيل إليه من طابع عجائبيٍّ وخوارقَ متوارث ذكرُها، وفي التاريخ الثقافي الأسطوري والشعبي العربي والأمازيغي عمومًا على حد سواء. فريدة إبراهيم توظيف الأسطورة كسر جمود السرد التقليدي الّذي ميز مرحلة النشأة إذا تساءلنا عن توظيف الأسطورة في المتن السردي الجزائري، باِعتبارها جزءا من التراث الإنساني المُشترك، المُرتبط بالحقائق المُطلقة الخارقة وبكلّ ما يفوق العقل البشري، يمكننا اِستحضار روايات الطاهر وطار «الحوات والقصر»، عبد الحميد بن هدوقة «الجازية والدراويش»، واسيني الأعرج «نوار اللوز»، عبد الملك مرتاض «صوت الكهف»، لأنّها أولى النماذج السردية الجزائرية المكتوبة باللّغة العربية التي اِستلهمت هذا النمط التعبيري الحكائي، كمرجع مُهم للاِستفادة من مقوماته الرمزية. وظف الكاتب الجزائري الأسطورة بمحمولاتها الرمزية، من خلال أسطرة شخصيات الرواية مثلما نجده عند عبد الملك مرتاض في رواية «صوت الكهف»، وعند وطار في رواية «الحوات والقصر»، حيث كشف وطار عن نموذج بشري خارق يكتنز بالدلالات الموحية، مُحققًا بذلك مقولة «جاك لومبار» من أنّ الأسطورة لا تكتفي بوظيفتها المعرفية، بل تؤدي وظيفة الكشف عن النماذج المُثلى لأنواع الطقوس والنشاطات البشرية ذات الدلالة والمغزى، «فالحوات والقصر» وإن تميزت بشكلها التقليدي، إلاّ أنّها اِعتمدت على الأسطورة بشكل كلي، ولم تكتف بالسياق الأدبي المحلي، بل اِستلهمت مراحل رحلة البطل الخارق في الأساطير العالمية المعروفة، وفي أغلبها هي رحلة ذات أهداف أخلاقية وإنسانية سامية، هدفها محاربة الشر والاِنتصار للخير، وهو ما جسده بطل وطار بمساعدة طرف خارجي خارق مكنه من كشف قِوى الظلم والفساد، والاِنتصار عليهم. واعتمدت روايات أخرى على خصوبة الأسطورة بِمَا تتمتع به من رموز ودلالات مُوحية في سياقها الأدبي المحلي، وبشكل جزئي، كما في رواية «نوار اللوز» التي اِستلهمت ملامح تغريبة بني هلال باِستحضار شخصية «الجازية» و»أبو زيد الهلالي»، كما اِستحضر السرد في رواية «الجازية والدراويش»، شخصية «الجازية» بحمولتها الرمزية، ويأتي اِستحضار هذه الشخصيات بِمَا تحمله من رموز موحية، للتعبير عن مفارقات الواقع المُتأزم، وتمرير رسائل النقد، لرفض الظُلم والفساد. في الأخير يمكن الإشارة إلى أنّ توظيف الأسطورة في الرواية الجزائرية، أسهم في إثرائها جماليًا، من خلال كسر جمود السرد التقليدي الّذي ميز مرحلة نشأتها. عبد الحميد ختالة الرواية توسلت الأسطورةَ في تأثيث خطاباتها جماليًا ومعرفيًا إنّ الّذي وجب الاِتفاق عليه بدءًا هو أنّ الأسطورة عند مختلف الشعوب والحضارات تُشكل مستوى من التفكير البشري، عمل من خلالها عقل الإنسان على تقديم تفسير للمعتم والغامض والمستعصي في حياته، وهي على ما يُحيط بها من عجائب إلاّ أنّها تعكس جانبًا من المُقدس وفق ما يراه فراس السواح، فالأسطورة حكاية مقدسة ذات مضمون عميق يدل على جملة من الإشارات الدالة على فهم الكون والوجود والحياة، وقد وثقت الأسطورة حكاية البدايات لدى كلّ الأُمم فاتحةً مساحات شاسعة من المُدهش والعجيب والخارق، وهذا بالذات الّذي اِستثمر فيه الفن بعامة عندما حاول تقديم إجابات لسؤال الأسطورة، ولم يتأخر الدرس النقدي في الإعلان عن المنهج الأسطوري اِعترافًا منه بالحضور القوي للأسطورة في مختلف الأجناس الأدبية. ولقد توسلت الرواية على غرار الأجناس الأدبية الأخرى الأسطورةَ في تأثيث خطاباتها جماليًا ومعرفيًا، كما أسهم تراكم التجربة الروائية الجزائرية في بروز توجه واضح للروائي الجزائري نحو الإرث الأسطوري الإنساني والعربي والجزائري، حيث يمتد حضور الأسطورة في الرواية الجزائرية إلى مرحلة البدايات مع رواية «نجمة» لكاتب ياسين، ورواية «الجازية والدراويش» لعبد الحميد بن هدوقة، وروايتي «الليلة السابعة بعد الألف» و»سيدة المقام» لواسيني الأعرج، وصولاً إلى الاِستلهام المُتميز للأسطورة في رواية «عناق الأفاعي» للروائي عز الدين جلاوجي. الحقّ أنّ الرواية الجزائرية لم تتأخر كثيراً في إرساء هوية لخطابها، وقد تمثّل الكثير من الروائيين الجزائريين مقولة عبد الحميد بن هدوقة «عالميتي تنطلق من محليتي»، عندما برز صوت الأسطورة بملامح البيئة التي تنتمي إليها الرواية الجزائرية، من مثل شخصية الدرويش عند بن هدوقة والبشير الموريسكي والمجذوب عند واسيني الأعرج، وشخصيتي شامخ وشامخة عند عز الدين جلاوجي، كما تأثثت الرواية الجزائرية بالاِحتفالات الطقوسية والزردة والعدد سبعة الأسطوري، فيما قدم الخطاب الروائي الجزائري فهمه للعُمق اللاهوتي في الإنسان فاستحضر الطاهر وطار أسطورة «أوزوريس» وتمثل بن هدوقة القرابين في تحديد علاقة الصراع الوجودي للإنسان. تجدر الإشارة إلى أنّ بعض الأساطير لم تبقَ محافظة على محدودية هويتها بل أصبحت تنتمي إلى الموروث الإنساني، مثل أسطورة «أوديب» التي تمثلها الطاهر وطار في شخصية «علي الحوات» في روايته «الحوات والقصر»، كما تجزأرت شخصية «المجذوب» في رواية «رمل الماية» لواسيني الأعرج، والشاهد هنا أنّ اِستخدام الأسطورة في الرواية يأتي وفق نسق ثقافي يتآلف مع البيئة المكانية والطقس الاِجتماعي الذي ينتمي إليه، فالاِستنكار الّذي واجهه سلوك علي الحوات والحُكم عليه بفقء عينيه ورميه خارج القرية في رواية «الحوات والقصر»، حتّى وهو يمثل اِستحضاراً لأسطورة «أوديب» إلاّ أنّه في الحقيقة موافق تمامًا للعُرف الاِجتماعي والخلفية العقدية للمجتمع. لا يخفى أنّ الذاكرة الجزائرية قد أسطرت الكثير من القَصَص التُراثي حتّى ذاك الّذي ينتمي إلى دائرة العقدي، فامتزج الديني بالأسطوري في المخيال الجمعي وهو الّذي حضر في الرواية الجزائرية بأشكال متنوعة، وقد حرصت الرواية الجزائرية على تخييل الأسطورة لترقى إلى مستوى الرمز رغم سقوط بعض النصوص في الاِستخدام المُسطح للأسطورة خاصةً ما تعلق منها بالشخصيات الروائية. إنّ الّذي يُخوّل لأي أديب أسطرة خطابه هو أنّ العقل البشري مستمر بلا توقف في تفسير عالم الموجودات على شساعته، وهو في كلّ مرحلة في مواجهة مباشرة مع الكثير من القضايا المُستجدة فلما لا يجد للظاهرة تفسيراً علميًا دقيقًا يلجأ إلى أسطرته كمخرج حتمي من حالة التيه التي تعتريه، كما أنّ علاقة الإنسان المتوترة مع عالم الغيبيات تُتيح له الخروج إلى حالة من التأويل تُتاخم حدود الأسطورة. عبد الحميد بورايو الروايات الأكثر إيغالاً في الْأَسْطَرَة هي روايات الجيل الجديد يتعلق السؤال بتداخل خطابين هُما الأسطورة والرواية. في البداية لابدّ من الإشارة إلى أنّنا إذا ما نظرنا إلى تاريخ الأنواع الأدبيّة من حيث تطورها؛ سنجد أنّ البشر أبدعوا الأسطورة في العهود الغابرة في التاريخ، حيث كان الوعي البشري يتصور وجود الإنسان مُندرجًا في دائرة وجود الآلهة، وكانت حينئذ وظيفة الأسطورة مُتمثلة في كونها تمثل النص الاِعتقادي (الديني) الّذي يطرح هذه الرؤية، فيقدم الإنسان في خضوعه للآلهة وفي تماثله معها (خضوعه لها) واِختلافه عنها (أو صراعه معها).. وبالتالي تُقدم الأسطورة أساسًا الإنسان في علاقته بالعالم الآخر. في مرحلة تالية من التطور البشريّ ظهرت الملحمة لتخلف الأسطورة وتعبّر أساسًا عن علاقة البشر ببعضهم، وخاصةً علاقة الأعراق باِعتبارها جماعات قومية فيما بينها. ظلت علاقة الإنسان بالعالم الآخر حاضرة في الملحمة، غير أنّ صراع الأقوام البشرية كان يمثل محورها الأساسيّ. في العصر الحديث فصّل الدارسون المختصون في الرواية من أمثال هيجل وديميزيل القول في علاقة الرواية بالملحمة، باِعتبارها وريثة لها، مع تحوّل المنظور الوجودي من علاقة الجماعات البشرية ببعضهم إلى علاقة الفرد بالجماعة، وعلاقة الأفراد ببعضهم البعض باِعتبارهم كيانات فردانيّة. اِنطلاقًا من هذا المنظور التطوري (diachronique) يمكن القول بأنّنا أمام ثلاثة أنواع أدبية مُتناسلة ومرتبطة فيما بينها بمسار تطور وعي الإنسان. أمّا من منظور تزامني (synchronique)، فيمكن القول بأنّ هناك ظاهرة بنيويّة توحّد بين هذه الأنواع الثلاثة تتمثل في «الأسطرة». والأسطرة هنا غير الأسطورة، تُمثل رؤية للوجود نجدها حاضرة في الأنواع الثلاثة المذكورة. إنّها سَنَن (code) سرديّ يعتمد على اللّغة. تتمثل وظيفته في صياغة علاقة الإنسان بواقعه، ورؤيته لهذا الواقع وللتاريخ بأدوات تغرف من الاِستعمالات المجازية والاستعارية للغة (وهو مجال يتعلق بالشِّعر أيضا). هذا يجرّنا إلى ظاهرة «الأسطرة» في الرواية الجزائريّة. لقد كانت الرواية الجزائرية في بداياتها أقرب إلى تصوير الواقع ومحاكاته بلغة مباشرة، قريبة من لغة التواصل اليومي أو ترجمة لها، وبالتالي لا نجد في الأعمال الرائدة الأولى سوى بصمات محدودة من الأسطرة التي تتمثل في الصور الرمزيّة (أسطرة شخصية العجوز رحمة صانعة الفخار في رواية عبد الحميد بن هدوقة. وأسطرة شخصيات «اللاز» و»زيدان» والشهداء في رواية اللاز للطاهر وطار. وأسطرة شخصية بطل رواية «نوّار اللوز» لواسيني الأعرج. وفي مرحلة تالية من تطور الرواية الجزائريّة نعثر على توسّع للأسطرة، وإيغال في اِستخدام الرموز من أجل التعبير عن الواقع؛ نجد ذلك واضحًا في رواية عبد الحميد بن هدوقة «الجازية والدراويش»، ورواية «الحوّات والقصر» للطاهر وطار، ورواية «إغفاءات حوّاء» لمحمّد ديب. وتجدر الإشارة هنا إلى الأسطرة الطاغية على أعمال رشيد بوجدرة كلها منذ السبعينيّات. شملت الأسطرة التاريخ والواقع الّذي أراد الروائيّ أن يُقدّمه في شكل أكثر رمزيّة مِّمَا قدمه في رواياته الأولى. يمكن الإشارة هنا إلى بعض الروايات الأكثر إيغالاً في الْأَسْطَرَة مثل روايات الجيل الجديد الّذي برز في العقود الأخيرة مثل عبد الوهاب بن منصور. هكذا تكون الأسطرة في الأدب الروائي الجزائري مُؤشّراً واضحًا على تطوره من مرحلة إلى أخرى. يتطلّب الإنتاج الخيالي قدراً كبيراً من الأسطرة، لكي يُوغل في الوعي بالوجود سواء كان واقعًا أو تاريخًا، وكلما تحكّم الروائي في أدواته الإبداعيّة، كلما وجد الروائي نفسه مُنحازا للأسطرة نظراً لعلاقتها الوثقى بالخطاب الأدبي؛ فالباث والمُتلقي كلاهما في حاجة ماسة إلى الوعي الشامل بالحياة في مُختلف نواحيها، وهو وعي لا يمكنه أن يتجسّد في عمل إبداعي إلاّ من خلال الأسطرة. محمّد كاديك الرّواية الجزائرية –عمومًا– لم تهمل توظيف ما هو أسطوري يجب أن نتفق –في البداية– أنّ الحديث عن سياقات جزائرية خالصة في توظيف الأسطورة، صعب نوعًا ما، ولا تختلف الحال بالنسبة للسياقات العربية عمومًا، ذلك لأنّ الرّواية العربية في مجملها، فتيّة بالنّسبة لعمر الرواية الّذي يعود إلى القرن الخامس عشر، ثمّ إنّ مسألة الأدوات والإجراءات وتقنيات الكتابة تحتاج إلى تأسيس نظري له خلفياته الفلسفية التي يرتكز عليها، ولا نجد –مع الأسف- شيئًا من هذا في واقعنا المعيش.. ثمّ نتفق، في مستوى ثان، بأنّ «الأسطورة»، تنتمي إلى الحاضنة الحضارية الشّفاهية، بينما تنتمي «الرواية» إلى الحضارة الكتابية، ما يعني أنّنا حين نُوظّف أسطورة بعينها، في عمل روائي، إنّما نمنحها وظيفة مُختلفة عن تلك التي تأسّست لأجلها.. وفي مستوى ثالث، ينبغي أن نتفق كذلك على أنّ الدّراسات النقدية، كثيراً ما تخلط بين ما هو أسطوري، وما هو عجائبي، رغم اِختلافهما، فالأسطوري يُمثل بنية تخييلية شارحة للظواهر الكونية، بينما يُخلط العجائبي الواقعي بالخيالي بأسلوب مُفاجئ، ولا يبحث عن تسويغ عالمه، كما أنّه لا يقصد شرح الظواهر الكونية، من هنا، يمكن أن نقول –على سبيل المثال- إنّ «الحوّات والقصر» للطاهر وطار، تنحو منحى عجائبيًا لا منحى أسطوريًا، وكذلك الحال بالنسبة لروايات جزائرية كثيرة. يجب ألا نضع من حسباننا كذلك، أنّ التراث الأسطوري الجزائري لم يحظ بالعناية اللازمة، لولا أعمال الدكتور عبد الحميد بورايو الّذي سجل عدداً من الأعمال الشّعبية، والدكتور شريف مريبعي الّذي حقّق «سيرة الملك سيف التيجان»، وهي عمل ملحمي أسطوري باِمتياز، إضافةً إلى أعمال الدكتورة زهية طراحة التي جمعت أساطير جزائرية من منطقة القبائل، وهناك ملاحم وأناشيد مآثر كثيرة تنحو المنحى الأسطوري في التّراث الجزائري، ذكر عدداً منها جوزيف ديبارمي في مقال له بالمجلة الإفريقية، ولكنّ هذه الأعمال الأسطورية ما تزال في معظمها في حُكم النسيان، كمثل «سيرة السيد علي وراس الغول». ومع هذا، أي مع شحّ الموارد التراثية الجزائرية المحققة، فإنّ الرّواية الجزائرية –عمومًا– لم تهمل توظيف ما هو أسطوري، فهذا، تحتاجه البنية السّردية الرّوائية في تمرير رسائلها التي قد تتعالى على قدرات السّرد الواقعي لأسباب أو لأخرى، ثم إنّ إقحام الأسطوري في النّص الرّوائي يستبعد كلّ ما يمكن أن يحول دون إحكام النظر العقلي، من خلال فسح المجال لأعمق العواطف كي تصبح مسوّغات خطابية رمزية، فهذه الرموز تمنح قوّة إضافية إلى الخطاب السّردي، وتُمرّره مشفوعًا بتجربة إنسانية اكتسبت في زمنها قيمة المعرفة المطلقة. لعلنا –في هذا المقام– نضرب مثلاً برواية «جلجامش والراقصة» لربيعة جلطي، فهي تُحيل إلى أوّل ملحمة أسطورية في تاريخ البشرية، وتُعيد قراءتها بِمَا يُوافق رسالتها المؤسسة، ورؤيتها لما ينبغي أن يكون عليه الواقع (بحكم أنّ الرواية طبعها النقد)، كذلك الحال في إحالات «نجمة» كاتب ياسين، وأعمال أخرى لجأت إلى الإحالات الأسطورية لأنّ السّرد الواقعي لا يمكنه أن يُراجع واقعية العالم، كما يقول جان إيف تيديي في كتابه «السرد الشِّعري»، ذلك لأنّ السرد الواقعي يتقبّل العالم المُغلق، بينما يتجاوزه الأسطوري إلى عوالم مُمكنة تُقارب الحقائق المُطلقة. بناءً على ما سبق، ينبغي أن نُسجّل مع بيار باردال بأنّ الأسطورة تبقى مصدراً مُلهمًا للأعمال الروائية الحديثة؛ ذلك أنّ الموروث الثقافي الإنساني له تأثيراته المُباشرة على الحياة بحكم البراديغمات التي اِصطنعها على مدار التاريخ.