سيظل شهر مارس في الذاكرة الجمعية للجزائريين، مرتبطا بالنصر المبين وبإذلال الغزاة وكسر جبروتهم وسحق أمانيهم. هو شهر التضحية والوفاء والصبر والشجاعة والإيثار والنضال.. وشهر الشهداء الذي سقط فيه نخبة من خيرة قادة الثورة التحريرية ورموزها في ميدان الشرف والعزة وفي ساحات الوغى، بعد أن آثرونا على أنفسهم لكي ننعم نحن في كنف الحرية والكرامة، وقد كان منهم الأبطال: مصطفى بن بوالعيد، محمد العربي بن مهيدي، سي عميروش، سي الحوّاس، العقيد لطفي، الرائد فرّاج، علي مَلاَّح.. وغيرهم. هؤلاء الزعماء، الذين لقّنوا العدو الفرنسي وجيشه المقهور دروسا في الشجاعة والنضال والصبر، وقادوا معارك بطولية وعمليات نوعية كبّدوا فيها الجيش المعتدي خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، وزعزعوا الهالة الكاذبة التي حاول أن يظهر بها أمام جيوش العالم. فحطّم هؤلاء البواسل أسطورة (الجيش الفرنسي الذي لا يُقهر) !، وأنسته بطولاتُهم الظافرة هزائمَه النكراء في الحرب العالمية الأولى والثانية وفي الهند الصينية (الفيتنام).. هذه الأخيرة التي قال قائدها الجنرال جياب بطل معركة (ديان بيان فو) عام 1954، في خطاب تاريخي له بالجزائر في جانفي 1976 بحضور الرئيس الراحل هواري بومدين، قائلا جملته الشهيرة: "الاستعمار تلميذ غبي لا يفهم إلا بتكرار الدروس". الثمن الباهظ للنصر بالرغم أن ثمن التحرير والنصر والانعتاق من براثن الاحتلال الفرنسي كان غاليا جدا.. تمثّل في أكثر من مليون ونصف المليون من الشهداء، الذين قضوا فقط إبّان ثورة نوفمبر 1954 المجيدة طيلة (سبع سنوات ونصف)، أما الذين سقطوا منذ أن وطئت أقدام المعتدين الفرنسيين وقراصنتهم أرضنا واحتلالهم بلادنا بداية من 05 جويلية 1830 إلى غاية اندحارهم عنها في 05 جويلية 1962، فقد بلغ عددهم جميعا (5.630.000 شهيد). وهذا الرقم كانت قد صرّحت به مصالح رئاسة الجمهورية في عهد الرئيس عبد المجيد تبون، في أكتوبر 2021 ردّا على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مثلما أكّده عديد المؤرخين الجزائريين، ونخبة من المؤرخين الفرنسيين المنصفين، على غرار المؤرخ أوليفي كولور غراند ميزون، الذي كشف في أكتوبر 2020 أن فرنسا أبادت (875000 جزائري) ما بين 1830 و1872. ويندرج ضمن هذا الرقم شهداء: المقاومات الشعبية المسلحة والشهداء، الذين قضوا في الحرب العالمية الأولى (1914 1918) والثانية (1939 1945) وفي الهند الصينية في 1954.. وفي غيرها من الدول، في حروب لا ناقة للشعب الجزائري فيها ولا جمل، والتي تورّط الساسة الفرنسيون بِصَلَفهم وحمقهم وطبيعتهم الإجرامية وسلوكياتهم العدوانية في إشعالها وإذكائها انطلاقا من حقدهم الدفين على كل شيء جميل في الوجود، حيث سِيق مئات الآلاف من الشبّان الجزائريين إلى أتونها، فلم يرجع منهم إلى بلاده سوى القليل.. إلى جانب شهداء مذابح 8 ماي 1945 في سطيف وقالمة وخراطة.. وغيرها، التي سقط على إثرها أكثر من (45000 شهيد)، بينما تؤكد إحصاءات الحركة الوطنية ممثلة في حزب الشعب الجزائري الذي حُلّ عام 1939 أن عددهم فاق أل (80000 شهيد)، عدا الذين استشهدوا في المجاعات والأمراض والأوبئة التي ارتبطت بوجود الاحتلال الفرنسي بالجزائر وجرائمه بها منذ القرن ال 19 الميلادي.. إلى جانب تأسيس نظام التعذيب الذي أقر به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. دون إغفال مئات الآلاف من أرامل الشهداء وأبناء وبنات الشهداء والمعاقين والمشوّهين والمعطوبين واليتامى والمفقودين والمهجّرين والمعتقلين، ومئات القرى والمداشر المدمّرة، بل ان منها من أُزيلت نهائيا من على الخريطة وسُويّت بالأرض كأنها لم تكن شيئا مذكورا. إضافة إلى أكثر من عشرة ملايين لغم زرعها العدو وتركها على حدودنا الشرقية والغربية ضمن خطّي شال وموريس الملغّمين والمكهربين.. وداخل مدننا وقرانا وأريافنا، وهذا الرقم يماثل عدد سكان الجزائر عام 1962، وكأنّي بالإجرام الفرنسي قد خلف وراءه (لغما واحدا) لكل مواطن جزائري! إنها لغة الأرقام.. وقد كان لهذه الألغام نصيب في استشهاد وإعاقة الآلاف من أبناء الجزائر إيغالا من الفرنسيين في الإجرام والسلوك العدواني.. مع بقاء الإشعاعات النووية، التي لوّثت صحراءنا وبيئتنا بعد التفجيرات النووية السطحية برقان بولاية أدرار، بداية من 13 فيفري 1960، والتفجيرات الباطنية بجبال إن يكر بتاوريريت بولاية تمنراست وما تلاها من تفجيرات، مما يستحيل معه تنظيف صحرائنا على الأمد القريب.. وزاد في إجرامه امتناعه عن تسليم خرائط الألغام المزروعة وأرشيف التفجيرات النووية وكل أرشيف الدولة الجزائرية قبل عام 1830 وبعدها. وبالمحصّلة فإن للمحتل الفرنسي ببلادنا تاريخٌ حافلٌ بالجرائم والإبادة الجماعية والهمجية العمياء المقنّنة والممنهجة.. وبالرغم من ذلك تبقى فرنسا ويظل ساستها إلى اليوم يرفضون الاعتراف بجرائمهم وجرائم آبائهم وأجدادهم الجلاّدين ويمتنعون عن تقديم اعتذار رسمي، مع عدم التفكير بتاتا في التعويض.. ركون ديغول إلى طاولة مفاوضات إيفيان ارتبط شهر مارس كذلك في الذاكرة الجزائرية بالتوقيع على اتفاقيات إيفيان، التي تُوّجت بوقف إطلاق النار بين جيش التحرير الوطني الجزائري المنتصر وبين الجيش الفرنسي المنهزم، هذه المفاوضات التي مرّت بمراحل عسيرة ومحطات شاقة، مفادها النّدّية ومقارعة الخصم بالحجة، في حرب دبلوماسية شرسة لا تقل ضراوة عن المعارك التي قادها مجاهدونا البواسل في ميدان الرجولة والسلاح.. وقد استطاع مفاوضونا بالرغم من قلّة تجربتهم ونقص حنكتهم إرغام ديغول، والجانب الفرنسي على الاعتراف بحقوق الشعب الجزائري كاملة غير منقوصة وباستقلاله ووحدته الترابية ودولته الواحدة الموّحدة ككلٍّ لا يتجزأ عقب استفتاء 1 جويلية 1962، الذي كان من مُخرجات المفاوضات، ليعلن قادة الجزائر آنذاك من خلال رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة بن يوسف بن خدة، استقلال وطنهم، أو بالأحرى استرجاع سيادته في 05 جويلية1962، وهو الموافق لليوم المشؤوم الذي اقتحم فيه المعتدون بلادنا الآمنة في 5 جويلية1830، وغيّبوا دولتنا لعقود من الزمن. بالرغم من مراوغات المفاوض الفرنسي وتضييعه الوقت ووضعه العراقيل الواهية ومحاولاته اليائسة والبائسة لفصل الصحراء عن الشمال، لاسيما بعد أن سال لعاب الساسة الفرنسيين عقب اكتشاف البترول بجنوبنا الكبير.. إلا أن جميع مماطلاته باءت بالفشل الذريع، وازداد هذا الدخيل يقينا أنّ لا مكان له على أرض غيره وما عليه سوى الرّحيل عنها إلى غير رجعة، لاسيما بعد فشل الحل العسكري، الذي كانت تراهن عليه السلطة الفرنسية وعلى رأسها الجنرال ديغول، وإخفاق أدائها الدبلوماسي في الخارج، ووقوف دول العالم الحر والقوى المُحبة للسلام ويقينها بالجرائم الفرنسية ببلادنا. وإيمانها المطلق بعدالة القضية الجزائرية وبضرورة تصفية الاستعمار.. هذه المفاوضات، التي وقعت عليها في 18 مارس 1962 بمدينة إيفيان على الحدود السويسرية الفرنسية، ليدخل وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ في اليوم الموالي في 19 مارس 1962. وقد مثّل الجانب الفرنسي فيها الوزير لوي جوكس، رفقة نخبة من دهاة الاستعمار الفرنسي كان منهم روبير بيرون وبرنار تريكو.. وعن الجانب الجزائري وتحديدا الحكومة المؤقتة قاد المفاوضات كل من: كريم بلقاسم، سعد دحلب، محمد الصّديق بن يحيى، لخضر بن طوبال، رضا مالك، امحمد يزيد، عمار بن عودة. المنظمات الإرهابية الفرنسية وشهر مارس 1962 من جهة أخرى، ارتبط شهر مارس كذلك في الذاكرة الوطنية بتكثيف الأعمال الإجرامية التي كانت ترتكبها المنظمات الارهابية الفرنسية بإيعاز وتوجيه وتموين ودعم من قبل السلطات الفرنسية وأجهزتها العسكرية والأمنية والاستخبارية؛ على غرار منظمة الجيش السري الفرنسي (OAS) التي تأسست بتاريخ 11 فيفري 1961 في عز المفاوضات. إضافة إلى منظمة اليد الحمراء.. وغيرها من العصابات الإرهابية لاسيما خلال شهر مارس 1962 وبعده، بغية ترهيب الجزائريين من خلال عمليات الاختطاف والقتل والإعدام العشوائي للمدنيين وملاحقة المناضلين داخل السجون، وتخريب مقرات الدوائر والبلديات وإضرام النار بمصالح الأرشيف والمدارس والمستشفيات ومصالح البريد وتحطيم القدرات الاقتصادية، وحرق المؤسسات وتدمير الجسور والسكك الحديدية قُبيل رحيلهم.. وبالرغم من ذلك إلا أنهم غادروا بلادنا عقب هزيمة جيشهم بعد أن قذف الله في قلوبهم الرعب والفزع ففروا وولوا مدبرين وهم لا يلوون على شيء. 19 مارس إذن ذكرى خالدة في مسيرة الكفاح الوطني وجهاد أمّتنا، وهو ثمرة مقاومات مسلحة خاضها شعبنا ضد المجرمين المحتلين، أعقبها بحركة وطنية بروافدها المتعددة والتي امتد نشاطها المتميز طيلة النصف الأول من القرن العشرين، إلى غاية لهيب ثورة نوفمبر 1954 المسلحة، الملحمة الفاصلة التي غيّرت مسار التاريخ الجزائري المعاصر وكانت إيذانا بتحرير الشعوب المقهورة من بقايا الاحتلال الأوروبي الغاشم.. مقاومة جزائرية خالصة امتدت (132 سنة) في مواجهة الاستعباد والتقتيل والتشريد والتهجير القسري والتغيير الديموغرافي والفقر والجهل والتنصير والفرْنَسَة، ومحاربة الإسلام واللغة العربية ومحاولة مسخ الشخصية الوطنية وتدجينها، والسعي العملي الحثيث لتشويه تاريخنا المجيد، وما تخللها من جرائم ضد الإنسانية وحرب الإبادة وتكريس سياسة الأرض المحروقة التي انتهجها الاحتلال الفرنسي ببلادنا طيلة وجوده بها؛ وهي جرائم دولة بامتياز وكاملة الأركان ولا تسقط أبدا بالتقادم طال الزمن أو قَصُر.