تحتفلُ جزائر 2020جزائر الآفاق الجديدة الواعدة بإذن الله هذه الأيام بالذكرى ال 58 لعيد النصر المبارك الموافق ل 19 مارس 1962، وهو نصر مؤزر لا يُقدر قيمته إلاّ من اكتوى بالمعاناة والظلم والتعسف والإبادة التي مارسها المستدمر الفرنسي طيلة 132 عامًا، وبالتالي فإنّ تحقيق النصر كان بأثمان غالية وتضحيات جسام دفعها الشعب الجزائري دون كلل ولا ملل على مدى قرن و 32 سنة مُتواصلة، عبر المقاومات الشعبية والثورات التّي لم تتوقف يومًا في العديد من أنحاء الجزائر من 1830 إلى 1962، ونرى أنّهُ من الأهمية بمكان قبل التطرق إلى دور دبلوماسية الثورة في تحقيق النصر، التذكير ببعض المحطات على سبيل المثال لا الحصر التي تُشير إلى التضحيات الجسيمة التي قدمها شعبنا في مواجهة كل المخططات الجهنمية للاستدمار الفرنسي بعزيمة وإصرار غير مسبوقين،ويعود ذلك إلى أنّ ثقافة وروح المقاومة متأصلة لدى الشعب الجزائري على مر العصور. هذا الشعب الذّي كانت بلاده الجزائر سيّدة البحر الأبيض المتوسط وحامية هذه الثغور لمدة 3 قرون و نصف، وتتمتعبهيبة دولية كبيرة للجزائر الدولة والتاريخ والحضارة قبل 1830. ومن هذه المحطّات المفصلية نذكر على سبيل المثال: – المقاومات الشعبية الجهادية التي دامت 90 سنة من 1830-1920 أي مُنذ أن وطئت أقدام المستدمر الفرنسي أرض الجزائر الطاهرة عبر منطقة سيدي فرج بالجزائر العاصمة إلى غاية الاستيلاء على مدينة جانت في الجنوب الجزائري مدينة البطولات والتضحيات على غرار تضحيات باقي الجنوب الكبير وعامة أنحاء الوطن. – بسالة وشُموخ الشعب الجزائري في مقاومته لكل أنواع الإبادة البشرية مثل محرقة أولاد رياح 1844 (المتيجة) وابادة الزعاطشة عام 1848 وغيرها، حيث تتكلم المصادر الفرنسية نفسها عن قتل أكثر من نصف مليون جزائري في الفترة مابين 1866-1868. – في سياق مُتصل بمعاناة الشعب الجزائري من الاستدمار الفرنسي تم تجنيد أكثر من ربع 4/1 مليون جزائري في سنوات الحرب العالمية الأولى قتل منهم 70 ألف أو يزيد. – أمّا مرحلة الحركة الوطنية 1920-1954 فقد عرفت هي الأخرى تصفيات بالجملة من أبناء الشعب والحركة الوطنية عبر أنحاء البلاد وكذلك داخل فرنسا نفسها، ووصلت الإبادة إلى قمتها في مجازر ماي 1945 التي ذهب ضحيتها 45000 ألف شهيد حيث أُبيدت قرى كاملة لا سيما في مناطق قالمه وسطيف وخراطة وعزابة وغيرها، والسبب أنّ الجزائريين خرجوا في مظاهرات سلمية للاحتفال بانتصار الحُلفاء على النازية ولتذكير فرنسا بوعودها لهم قبل الحربالعالمية الثانية بمنح بلادهم استقلالها مقابل مشاركتهم معها في هذه الحرب فجاءالرّد إبادة مروعة كما تم ذكره،وكان القصد من هذه المجازر القضاء على روح المقاومة وإطفاء جذوتها إلى الأبد، لكن العكس هو الذي حصل حيثُ كانت هذه المجازر سببا في اقتناع الجميع بأن ما أخذ بالقوة لا يسترجع إلا بالقوة، لتدخل البلاد مرحلة جديدة 1954-1962، تمثلت بإندلاع ثورة أول نوفمبر الخالدة في الأول من شهر نوفمبر التي لم تكن إلا خلاصة وعصارة نضالات الحركة الوطنية وتجاربها العديدة وبالتالي كانت ثورة شاملة في كل أرجاء البلاد مستخلصة الدروس من ثغرات كل المقاومات والثورات السابقة، وبهدف محدد بدقة في بيان أول نوفمبر 1954، تمثل في تحقيق الإستقلال الوطني التام وإسترجاع السيادة التي غُيبت قسرًا عبر الكفاح المسلح وكُل وسيلة أخرى داعمة ومُساندة لذلك. – وفي مُحاولات يائسة لإيقاف مسار هذه الثورة المباركة قامت القوات الاستدمارية بكل أنواع القهر والإبادة الجماعية والمجازر في كل أنحاء البلاد. – وضع أبناء الشعب الجزائري في محتشدات ومعسكرات الموت واستخدام القنابل الغازية والنابالم وممارسة كُل صنوف التعذيب وإقامة خط موريس المكهرب الذّي انطلقت الاشغال به في اوت 1956 وانتهت في سبتمبر 1958 وهو يمتد على مساغة 750 كلم من عنابة شمالا الى نقرين جنوبا بعرض من 30 الى 60 م بخصوص الحدود الشرقية، وعلى الناحية الغربية امتد هذا الخط على نفس المسافة 750 كلم من الغزوات شمالا إلى بشار جنوبًا،أمّا خط شال فقد أُقيم بالجهة الشرقية سبتمبر 1959 خلف خط موريس لتدعيمه من أجل منع مرور المجاهدين وبنفس تقنيات الخط الأول وأخذ مساره بالتوازي معه ويتراوح عرضه بين 12 الى 400 م بهدف حصار الشعب الجزائري وجعله كله في سجن كبيروعزله عن تونس شرقا والمغرب غربا لمنع تموين الثورة لا سيما بالاسلحة في محاولة خائبة لخنقها لكن إرادة الشعوب من إرادة الله وإرادة الله لا تُقهر وفقا لقول الشاعر أبو القاسم الشابي إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بُد أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر
ورغم كل أنواع الإبادة التي قام بها المستدمر للاحتفاظ بالجزائر فقد كان صمود الشعب الجزائري بمقاوماته وثوراته المتواصلة أسطوريا حيثُ تم تسجيل أروع ملاحم التضحية والفداء لدحر الاستدمار، وقد كان من أسباب القوة والنجاح التي أخذت بها ثورة أول نوفمبر المجيدة زيادة على الكفاح المسلح في الداخل من خلال ثورة شعبية بكل المعاني إعطاء الأهمية اللازمة للساحة الدولية وفقا لبيان أول نوفمبر الخالد الذي حدد الهدف بوضوح وهو الاستقلال التام، والوسيلة الكفاح المسلح وكل وسيلة أخرى مكملة وتخدم الهدف ذاته، حيث تم التوجه إلى الساحة الدولية بالتوازي مع اندلاع الثورة وقاد المعركة الدبلوماسية التي لم تقل في شراستها عن الكفاح المسلح مناضلون أقول عنهم دائما أنهم فتية آمنوا بربهم وبعدالة قضية شعبهم و ألغوا كلمة “مستحيل” من قاموسهم ووصلوا إلى أصقاع المعمورة لإسماع صوت ثورة شعبهم، وتفنيد حجة المستدمر الفرنسي بأن الجزائر مقاطعة فرنسية وكان مؤتمر باندونع 18- 24 أفريل 1955 هدية من رب العالمين لم تفوتها قيادة الثورة، وأسمع وفدها صوت الجزائر المكافحة وافهام العالم بأن الجزائر ليست مقاطعة فرنسية كما يزعم الاستدمار الفرنسي، وأنّ ما يجري داخلها ثورة شعبية عارمة من أجل التحرر وإستعادة السيادة والإستقلال اللذين غيبهُما الاستدمارُ عُنوة وقسرًا مُنذ 1830، وفي الوقت ذاته السعي لكسب الدعم للثورة بكل أشكاله السياسي و المادي وغيره، وجاء أول دعم للشعب الجزائري لتقرير مصيره من هذا المؤتمر الذّي يُعتبر بمثابة أول نوفمبر جديد على المستوى الدولي وهو بحق كذلك حيث كان البوابة الأولى لتدويل القضية الجزائرية بما وفره من فضاء دولي مهم للتعريف بقضية الجزائر و عدالتها و السعي لتفنيد وتكذيب إدعاء فرنسا بأنّ الجزائر مقاطعة فرنسية، ونتيجة لهذا المؤتمر طُرحت قضية الجزائر في شهر جويليه 1955 على الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها ال 10 من طرف مجموعة دول أفرو آسياوية ورغم عدم قبول تسجيلها رسميا في هذه الدورة بعد انسحاب الوفد الفرنسي غاضبًا ومُحتجًّا بذريعة أنّ قضية الجزائر هي مسألة داخلية فرنسية فإنها حظيت باهتمام الوفود الدولية المشاركة وشكل هذا الحراك انتصارا للقضية ولدبلوماسية الثورة وكانت خطوة مهمة بنى عليها أبطال دبلوماسية الثورة مدعومين بالأشقاء والأصدقاء لخوض معارك كثيرة وشاقة إلى أن كُلّلت الجهود المباركة بتسجيل القضية رسميا على جدول الجمعية العامة، وبالتوازي مع هذه التطورات المهمة انعقد مؤتمر الصومام 20 أوت 1956 الذّي مهما قيل عنه فقد خرج بقرارات تنظيمية ومؤسساتية هامّة ووضع ميثاق الصومامالذّي هو بمثابة منهاج ودستور للثورة وعلى المستوى المؤسسي أقر المؤتمر تشكيل لجنة التنسيق والتنفيذ (CEE) وهي المكلفة بالإشراف على الجهاز السياسي والعسكري والمخولة بتشكيل الحكومة المؤقتة ثم أقرّ المؤتمر أيضًا تشكيل المجلس الوطني للثورة الجزائرية ويُعتبر الجهاز التشريعي الذّي يُوجه سياسة جبهة التحرير الوطني الداخلية والخارجية ومخوّل البتّفي القرارات المصيرية مثل قرار إيقاف القتال، وبهذا أصبحت الثورة أكثر تنظيمًا وهو ما أعطى لها زخمًا قويًّا، وجاء تشكيل الحكومة المؤقتة يوم 19 سبتمبر 1958 ليُعطي هو الآخر دفعًا قويًّا لمسار الثورة ويُبطل حجّة المحتل بعدم وُجود محاور للتفاوض معه، رغم أنّ هذه الذريعة كانت محاولة للتهرب من الحقائق على الأرض ومن واقع الحال في سعي رديء كان مآلهُ الفشل أمام إصرار الثورة ووُضوح الهدف الوطني وقد قامت الحكومة المؤقتة بنشاطات دبلوماسية مُكثفة في أنحاء العالم كُلّلت أغلبها بالإعتراف بها والحصول على الكثير من أشكال الدعم للثورة المستمرة في الداخل، وقد بلغ عدد المكاتب الخارجية لوفد جبهة التحرير الوطني في الخارج ثُم الحكومة المؤقتة 18 مكتبًا لدى الدول العربية وبعض الدول الإفريقية والآسيوية، وعلى مستوى الأمم المتحدّة وجامعة الدول العربية وذلك في شهر ديسمبر 1959، ولم تكتف هذه المكاتب وممثلي الثورة في الخارج بالتمثيل السياسي بل تعدّاه إلى عقد الندوات والمحاضرات في المعاهد والجامعات وغيرها، واغتنام أي فرصة أو نشاط آخر للتعريف بقضية الجزائر، وكسب مزيد من الأنصار سواء على المستوى الرسمي أو على مستوى الرأي العام وكانت الانطلاقة بدعم من حلفاء الثورة الطبيعيين الأقطار العربية وبعض البلدان الإسلامية والعمل على تنظيم الجالية الجزائرية في الخارج لدعم الثورة مادّيا ومعنويًا، وإنشاء شبكاتالدعم لتزويد الثورة بالمال والسلاح، وكان الاهتمام أيضًابتوظيف اللعبة الأكثر شهرة في العالموشكل لهذا الغرض فريق جبهة التحرير الوطني لكرة القدم الذي كان لهُ دور مهم في التعريف بقضيةالجزائرورفع رايتها الوطنية خفاقة في العديد من دول العالم، إضافة إلى كل النشاطات الأخرى الثقافية أو الاجتماعية أو غيرها التي كانت ضمن نشاطات دبلوماسية الثورة بشكل دائم ودون انقطاع ، ونتيجة لهذا التناغم في الاداء بين الداخل والخارج تحققت الانتصارات المتتالية التيكان لها آثار موجعة ومؤلمة على فرنسا الاستعمارية سواء بضربات الكفاح المسلح في الداخل أو على مستوى الأداء المميز لمناضلي دبلوماسية الثورة في الخارج وأدّى ذلك إلى إسقاط 7 حُكومات فرنسية من نوفمبر 1954 إلى ماي 1958 بحيثُ لم تُعمّر أيّ من هذه الحكومات إلاّ بضعة أشهر وتسقط. إلى حين تأليف الجنرال ديغول حكومته الأولى في 4 جوان 1958 ووضع دستورا جديدا تم التصويت عليه يوم 28 ديسمبر 1958 وأصبح يُعرف بدستور الجمهورية الخامسة بمعنى أنه تمّ أيضا إسقاط الجمهورية الرابعة بفعل تداعيات ثورة الجزائر على فرنسا. وأمام الكفاح في الداخل وأداء دبلوماسي مُشرف على الصعيد الدولي اضطر الجنرال ديغول في النهاية إلى الإعتراف بجبهة التحرير الوطني ممثلًا وحيدًا للشعب الجزائري والتفاوض معها في خطاب ألقاهُ يوم 14 جوان عام 1960، بعد أن فشل فشلًا ذريعًا في إقحام ما أسماها بالقوة الثالثة في التفاوض وهو ما رفضتهُ جبهة التحرير رفضًا قاطعا، وكذلك رفض فكرته المعروفة بسلم الشجعان الذّي كان مضمونه أن يضع جيش التحرير الوطني سلاحهُ ويتم بعد ذلك التفاوض، وكان مصير هذه الفكرة الرفض التام كذلك من جبهة التحرير. وهنا يُمكن الإشارة إلى أنّ القضية كانت تحت الملاحظة والنضج في دورات الجمعية العامة اللاحقة ولا سيما منذ الدورتين الثالثة عشرة والرابعة عشرة لعامي 1957 ، 1958 حيث بدأ يتبلور الاتجاه نحو تأكيد مسؤولية الأممالمتحدة في قضية الجزائر لاسيما بعد تسجيلها رسميا وخلال الدورتين الخامسة عشرة والسادسة عشرة لعامي 1960، 1961 تم تأكيد مسؤولية الجمعية العامة للأمم المتحدة في ايجاد حل للقضية يمكن الشعب الجزائري من تقرير مصيره وذلك أمام إصرار الرجال وعزيمة شعب بأكمله وبعد كل المحاولات اليائسة والحيل البائسة للوقوف أمام عجلة التاريخ، اضطر الجنرال ديغول للقول:
بأننّا بعد أن كنا نسلّط القمع على الجزائريين أصبح القمع يسلّط علينا حيث بدأنا نفقد حتى حلفائنا على المستوى الدولي وذلك بفعل حكمة دبلوماسية الجزائريين، وبالفعل وفي ظل التناغم والتكامل بين الثورة في الداخل والعمل الدبلوماسي في الخارج استطاعت دبلوماسية الثورة التعريف بالقضية الجزائرية و كسب الدعم الدولي بكل أنواعه، وإبلاغ العالم بحقيقة الوضع في الجزائر في جهد معاكس لوسائل إعلام المحتل ودبلوماسيته المعاديتين كما وظفت وتوظف ما ينظم من احتجاجات شعبية ضد المستدمر في الداخل، وفي هذا السياق وكما تم توظيف هجومات الشمال القسنطيني أوت 1955 ضد العدو وإضرابات 1958 على المستوى الخارجي خدمة للهدف المركزي للثورة كان الأمر ذاته بالنسبة لمظاهرات 11 ديسمبر 1960 بما حملته هذه المظاهرات من شعارات أكدت اصرار الشعب الجزائري على حقه في تقرير المصير والاستقلال ورفض سياسة ديغول المغلفة بالشعار المخادع الجزائر جزائرية والرّد على مقولة المعمرين بأن الجزائر فرنسية وتم ايصال أصداء هذه المظاهرات الشعبية العارمة إلى أروقة الأممالمتحدة المنعقدة جمعيتها العمومية ال 15 وهو ما كان له تأثيره الإيجابي في اعتماد اللجنة السياسية قرارها رقم 1514 (14 ديسمبر 1960) المتعلق بحق الشعوب في تقرير المصير والاستقلال وفي 20 من الشهر ذاته أصدرت الجمعية العامة لائحة تؤكد حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره و بهذا الإصرار والوضوح وبعد فشل كل محاولات المماطلة والمراوغة من طرف الجنرال ديغول بما في ذلك شعار سلم الشجعان الذّي يهدف في الحقيقة إلى إجهاض الثورة. وفي هذا السياق، يمكن إدراج مفاوضات إيفيان الأولى والثانية وقد سبقتهما كما هو معروف منذ 1956 عدّة اتصالات سرية والتي تكررت في فترات متقطعة ما بين 1956-1959، وكان مآلها الفشل بسبب تعنت الجانب الفرنسي الذي تبين أنّهدفُه كان فقط جس النبض والبحث عن مكامن نقاط الضعف لدى الجانب الجزائري لا أكثر ولا أقل. فبالنسبة لمفاوضات إيفيان الأولى، فقد جرت في الفترة ما بين 20 جوان )يونيو( و13 جويلية )يوليو( 1961،وقد ترأس الوفد الجزائري كريم بلقاسم، في حين ترأس الوفد الفرنسي لوي جوكس، ثُم توقفت واُستؤنفت مرّة أخرى في لوغران، وأخفقت أيضًا بسبب إصرار الفرنسيين على فصل الصحراء عن الشمال هذه الصحراء التي اُكتشف بها البترول عام 1956،ممّا زاد من أهميتها لدى إدارة الإحتلال، إضافة إلىالمطالبة بالحفاظ على امتيازات المعمرين الفرنسيينوالمستوطنين الأوروبيين ووضع جيش التحرير الوطني السلاح وقد سعت الحكومة الفرنسية بين إيفيان الأولى ولوغران إلى تضليل الدُول الإفريقية المجاورةوتأليبها ضدّ الثورة الجزائرية بزعم أنّها تهدف إلى الهيمنة على الصحراء، وفي الوقت نفسه عملت جاهدة على إيجاد مفاوضين جزائريين من خارج جبهة التحرير الوطني من الموالين لها ولكن خاب مسعاها في الأمرين، وعلى إثر ذلك تم استئناف المفاوضات مرّة أخرى في قرية لي روس على الحدود الفرنسية- السويسرية في الفترة ما بين 11-19 فيفري 1962، وفي هذه الأثناء تم الاتفاق مبدئيا على وقف إطلاق النار والشروع في تحرير النصوص الأولية، وفي الوقت نفسه كانت المنظمة السرية الفرنسية(OAS)، الموالية لأطروحة الجزائر فرنسية وستبقى فرنسيةتقوم بمحاولات بائسة لإيقاف عجلة التاريخ بسفك الدماء والتدمير، وقد قدرت بعض المصادر التفجيرات التّي نفذّتها هذه المنظمة ب 4000 وإغتيالات بلغت حوالي 900، ومجمل ضحايا جرائم هذه المنظمة ومن يقفُ وراءها في هذه الفترة أكثر من 12000 قتيل. ورغم هذه المحاولات الشنيعة والأعمال الإجرامية لإفشال المفاوضات إلا أنّ انتصار الثورة على كُل الجبهات على أرض ميدان المعركة أو على مستوى الأداء الدبلوماسي وإدارة المفاوضات أجبر القوة الإستعمارية على التعامل مُرغمة مع مطالب الثورة وهي ضرورة الإستجابة للأهداف المحددة في بيان أول نوفمبر وفي مقدمتها الاستقلال الوطني التام الذي يشمل كل أنحاء البلاد من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال، بمعنى الإعتراف بالإستقلال والوحدة الترابية ووحدة الشعب الجزائري. وفي ضوء ما ذكر أعلاه جاءت مُفاوضات إيفيان الثانية والنهائية التي كانت امتدادا لايفيان الأولى وجَرت في الفترة ما بين 7- 18 مارس 1962 وانتهت كما هو معروف بالتوقيع على اتفاقية وقف إطلاق النار بداية من يوم 19 مارس، وكان هُناك اعتراض داخل فرنسا مما اضطر الجنرال ديغول إلى إجراء استفتاء حولها في 8 أفريل 1962 أسفر عن موافقة 91 % من الفرنسيين على اتفاقيات إيفيان التي تمّ بموجبها استعادة الجزائر لاستقلالها وسيادتها، وانبلج فجر الحرية ساطعًا. ومن يطلع على كتاب مُفاوضات إيفيان في أرشيف الدبلوماسية الفرنسية 15 جانفي 1961- 29 جوان 1962 يُدرك مدى عظمة الرجال الذين شاركوا في هذه المفاوضات من حيثُ الفطنة والذكاء وحُسن الإدراك وكيف تصدّوا بكل حكمة وحجج بالغة على كل ادّعاءت الجانب الفرنسي إلى أن أجبروه في النهاية بالتسليم بحق الجزائر في تقرير المصير والسيادة الكاملة. وقد جرى استفتاء تقرير المصير بالجزائر في أول جويلية 1962 وأعلنت النتائج في اليوم الموالي وبينت أنّ 97.5 % من المشاركين أيّدوا الاستقلال، ويوم 3 جويلية 1962 أعلن الرئيس الفرنسي الجنرال ديغول الاعتراف رسميًا باستقلال الجزائر واختار قادة الثورة وقتها يوم 5 جويلية 1962 تاريخا رسميا لإعلان الاستقلال لأنّهُ يُصادف ذكرى الاحتلال الفرنسي للجزائر يوم 5 جويلية 1830 لمحو هذه الذكرى الأليمة وتكريس استعادة الاستقلال والسيادة الوطنية. ومما سبق فإنّ الجزائر لم تسترجع سيادتها واستقلالها بسهولة بل كان ذلك مقابل ثمن غال ونفيس من التضحيات الجسام وملايين الشهداء الكرام عبر 132 سنة من المقاومة والجهاد والكفاح دون هوادة، وهي تعمل مُنذ استعادة سيادتها الوطنية عام 1962 وإنخراطها في المنتظم الأمميمن أجل عالم أكثر عدالة وتكافؤ في علاقاته الدولية وفقًا لمبادئ سياستها الخارجية الثابتة والتّي منها: * حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها. * عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدُول. * حق الشعوب والأمم في السيطرة على مقدراتها الاقتصادية وغيرها. * عدم اللجوء إلى استخدام القوة أو التهديد بها في حل النزاعات الدولية، وإعتماد الحوار والحلول السياسية كسبيل وحيد. د. مُصطفى بوطورة