جاءت الاشتباكات المسلّحة التي اندلعت بين وحدات الجيش الليبي وعناصر تنظيم أنصار الشريعة ببنغازي لتحرك السكين المغروز في الجرح الليبي الغائر، وتقوّض بشكل كبير آمال وطموحات بناء دولة المؤسسات التي تعيد لليبيا والليبيين الأمن والاستقرار. لقد انتزعت الميليشيات والمجموعات المسلحة لنفسها بعد انتهاء ثورة 17 فبراير وضعا متميزا انطلاقا من مساهمتها الحاسمة في الإطاحة بالعقيد الراحل معمر القذافي عام 2011، غير أنّ تنامي قوتها واتساع نفوذها ودخولها في مشاحنات ونزاعات فيما بينها من جهة، وضد وحدات الجيش الوطني الذي لم يكتمل بناؤه بعد من جهة أخرى، من أجل فرض سيطرة الأقوى أضحى يثير الشكوك حول ما إذا كانت قد تحولت إلى دويلات داخل الدولة التي لم يتم بعد الشروع في تأسيسها. من الواضح أنّ اندحار الجيش الليبي وانتشار السلاح بين الأهالي بعد الثورة، لعب دورا في تنامي القلق من انهيار الأمن وتزايد قوة الميليشيات خاصة في بنغازي ومصراتة وسرت، حيث تجوب الشوارع وتفرض سيطرتها بدعوى توفير الأمن والاستقرار. بالعودة إلى الوراء قليلا نجد أنّ مجيء السلطة الانتقالية في ليبيا تميز بغياب تام وكلي لكافة مؤسسات وأجهزة الدولة على غرار الأمنية منها مثل الشرطة والجيش، واليوم تقف الكتائب المسلحة في وجه محاولة بناء هذين الجهازين، فقد قامت السلطة المؤقتة بتكوين 20 ألف شرطي لكنهم لم يستطيعوا مباشرة العمل في الميدان بسبب سيطرة المجموعات المسلحة على الأرض وكثرة انتشار السلاح وسط المواطنين والمدنيين. وأمام عجز المؤتمر الوطني العام الذي يقوم بمهام البرلمان عن تنفيذ قراره القاضي بإخلاء العاصمة طرابلس من التشكيلات المسلحة، تزايدت مظاهرات المواطنين المطالبة بتفعيل دور الجيش والشرطة وتفكيك الميليشيات المسلحة، خصوصا بمدينة بنغازي التي تشهد منذ عدة أشهر عمليات اغتيال وتفجير متكررة تستهدف المحسوبين على النظام السابق من عسكريين ورجال أمن وأئمة ومثقفين بشكل يكاد يكون يوميا. تشكيل الميليشيات بدأ مع اندلاع الثورة ومر بثلاثة مرحلة، الأولى استمرت من بداية الانتفاضة المسلحة في فبراير 2011 إلى غاية مقتل القذافي في أكتوبر من نفس السنة، وكان هدفها الوحيد الإطاحة بالنظام. وبدلا من تقنين وضع كتائب الثوار وتكوين جيش قوي وعودة المتطوعين المدنيين إلى أعمالهم تمّ الاعتماد على هذه الكتائب وهي مكونة من عناصر عسكرية ومدنية، في حفظ الأمن داخل المدن وعلى الحدود المترامية للبلاد. ومع بداية سنة 2012، بدت ملامح المرحلة الثانية بتضاعف عدد الكتائب المسلحة بعشرات المرات بفعل اتساع نطاق نفوذ وتأثير الكتائب المجودة والامتيازات التي أصبحت تتمتع بها مثل احتلال الفنادق الكبرى وقصور القذافي، وفرض الاستفادة من مكاسب لعناصرها وللجهات التي تنتسب إليها سواء كانت جهوية أو قبلية أو أيديولوجية أو غيرها. أما المرحلة الثالثة والتي لا تزال مستمرة حتى اليوم فهي تشهد الأسوأ، فبمرور الوقت انخرطت بعض هذه الكتائب والميليشيات في نشاط تنفيذ عمليات مأجورة وفق الطلب لفائدة طرف ضد طرف آخر، ووصل الأمر إلى حد محاصرة مبنى المؤتمر الوطني العام (البرلمان) لإجبار أعضائه على إقرار قانون العزل السياسي شهر أفريل الماضي. جوهر المشكلة يبدو واضحا ويتمثل في أن الميليشيات المسلحة بعدما تخلصت من القذافي راحت تتنافس بشراسة للسيطرة على مناطق نفوذ في العديد من المدن، وطفت خلافاتها النائمة إلى السطح وتصادمت بالنظر لمكوناتها الرئيسية فمنها الإسلامية المتشددة والجهوية والعشائرية والقبلية..هذه الميليشيات لا تريد لوزارة الدفاع أن تتقوى وتفرض هيمنتها على ربوع البلاد، ممّا يبعث جيران ليبيا على القلق، خاصة مع اتساع نفوذ ميليشيات الجهاديين الإسلاميين التي أصبحت تسير معسكرات تضم مقاتلين لتنظيم القاعدة من جنسيات مختلفة. استمرار الوضع الحالي كما هو عليه الآن لشهور أخرى في ظل عجز الحكومة الانتقالية منذ عام 2011 عن بناء مؤسسات الدولة، في الوقت الذي تواصل فيه الميليشيات المسلحة النمو على حساب جيش وطني موحد يمكن أن يحول ليبيا إلى صومال جديدة ومحطة رعب على ضفة البحر المتوسط حيث جنوب أوروبا ودول الجوار الإفريقي المتوتر أصلا. ذلك ربما ما يبرز ضرورة التفكير في عقد لقاء إقليمي أو مؤتمر دولي على شاكلة مؤتمر الطائف، الذي خرج باتفاق وضع حدا للحرب الأهلية بين الفصائل اللبنانية في سنة 1989، يضم قيادات الميليشيات الليبية التي تملك القوة وتسيطر على الأرض. إنّ الترنح الأمني الراهن يغذّيه المشهد السياسي الهش الذي يلقي بثقله خصوصا مع تصاعد التجاذب حول موعد انتهاء عهدة المؤتمر الوطني العام التي تنتهي في 7 فيفري القادم بموجب المادة 30 من الإعلان الدستوري، بينما لم يتمكّن من أداء مهامه المتمثلة في تسليم السلطة لبرلمان منتخب وفق دستور جديد تشرف على إعداده هيئة تأسيسية من المقرر انتخابها شهر ديسمبر القادم. ويتراوح المخرج من هذا المأزق الدستوري بين تسليم الهيئة التأسيسية مهام السلطة التشريعية، وتكوين مجلس رئاسي يتكون من عضو منتخب من الهيئة التأسيسية ورئيس المحكمة العليا ورئيس المجلس الأعلى للقضاء، وتحديد آجال ملزمة لإعداد الدستور، أو انتخاب هيئة جديدة تحدد مدة عمله يعوض المؤتمر الوطني، وتنظّم الانتخابات شهر جويلية القادم، أو تمديد عهدة المؤتمر الوطني العام والحكومة وضبط رزنامة محددة.