تستمر أسعار المحروقات في تسجيل تراجع يثير انشغال البلدان التي لايزال اقتصادها متعلقا بعائدات المحروقات التي تعرضت لصدمة غيرت اتجاه الأسعار نحو التنازل بشكل متسارع وهذا بداية من منتصف جوان 2014، وهو ما توقعه خبراء السوق البترولية، بالنظر لمؤشرات عديدة ارتبطت أساسا بالأزمة المالية العالمية التي أدت إلى ركود اقتصاديات بلدان صناعية عديدة وخروج عدة حقول إنتاجية ضخمة عن سيطرة الدول بفعل اتساع دائرة الحروب الإقليمية والنزاعات الداخلية في المشرق العربي، رافقه زيادات هائلة في ضخ بلدان ذات احتياطي هائل في ظل ارتباك الموقف داخل منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبيب) وأخيرا عودة إيران إلى الساحة البترولية عقب اتفاقها حول ملف النووي. وبالرجوع إلى مختلف المصادر، فإن حالة من المخاوف قد ارتسمت في المدة الأخيرة بعد رصد إمدادات عالمية كبيرة بفعل إغراق السوق النفطية بكميات أخلّت بالعرض والطلب الذي لم يتطور، مما سجل انخفاض سعر برميل خام برنت (تسليم سبتمبر) إلى مستوى 49,52 دولارا، فاقدا 7 سنتات في سوق المعاملات الآجلة العالمية للنفط بلندن، أمس الأول الخميس. كما انخفض خام غرب تكساس الوسيط ب49 سنتا ليستقر عند 44,66 دولارا للبرميل. وفي ظل هذا المناخ السلبي، قلصت الشركات البترولية العظمى الإنفاق بمقدار 180 مليار دولار أمريكي لمواجهة ركود من أسوإ ما عرفه القطاع في عشرات السنين. ومازالت هذه الشركات تعاني نزيف السيولة وتنزلق أكثر في هوة الديون كي لا تمس توزيعات الأرباح النقدية التي تصرفها للمساهمين. وبحسب توقعات المختصين، فإن انخفاض أسعار الخام - التي أصبحت بنزولها عن 50 دولارا أمريكيا للبرميل من خام «برنت» عند نصف ما كانت عليه قبل عام - ينبئ بضرورة إجراء مزيد من التخفيضات في المشاريع الجديدة والعمليات القائمة. وقد تجد الشركات، التي تحاول بيع الحقول النفطية لتدبير السيولة، نفسها مضطرة إلى البيع سريعا وبسعر أقل مما كانت تأمله. وما من مؤشر يذكر على أن سعر النفط سينقذ الشركات، حيث تواصل منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) الضخ بقوة في سوق متخمة بالمعروض وذلك ردّا على النمو الفلكي للنفط الصخري الأمريكي. ومن المتوقع، بحسب ما أظهره استطلاع أجرته وسائل إعلام بريطانية لآراء المحللين، أن يبلغ متوسط سعر برنت 60.60 دولارا للبرميل في عام 2015 و69 دولارا في عام 2017. وكانت وكالة الطاقة الدولية قالت في فبراير 2015، إنها تتوقع أن يتعافى السعر إلى 73 دولارا أمريكيا في عام 2020 مع انحسار تخمة المعروض ولكن ببطء. وبحسب المحللين في بنك الاستثمار «جيفريز»، فإن شركات النفط العالمية خفضت نقاط تعادل الإيرادات والتكاليف لديها عشرة دولارات للبرميل بعد الجولة الأخيرة من تخفيضات الإنفاق، لكنها مع ذلك بحاجة إلى سعر يبلغ 82 دولارا للبرميل في 2016 لتغطية الإنفاق والتوزيعات التي كانت نقطة الجذب الرئيسية للاستثمار في القطاع لعقود. «ثلاثية» تأكيد بناء اقتصاد متنوع ومتحرر من المحروقات من الطبيعي أن يزداد تركيز الجزائر (خاصة الحكومة إلى جانب الفاعلين الاقتصاديين والماليين) على تقلبات أسعار المحروقات وتداعيات انهيار أسعارها من أجل رسم تصورات واقعية تسمح بتقليل حدة الصدمة التي تنجر عن تقلص الإيرادات (مع تسجيل انكماش احتياطي الصرف بالعملة الصعبة) وتعميق خيارات ترشيد النفقات من أجل تجاوز المنعرج بأقل الخسائر الممكنة. وقد سجلت عدة مؤشرات إيجابية تؤكد وجود أكثر من فرصة للاقتصاد في الإنفاق العمومي، خاصة على صعيد الضغط في اتجاه التقليل من الاستيراد دونما التأثير على المشاريع الاستثمارية التي انطلقت وتحتاج إلى مرافقة على مستوى التسيير تحسبا لحدوث تأخير في الإنجاز تكون له كلفة مالية إضافية أو وقوع فجوات (مختلف أشكال الفساد) تضيع من خلالها موارد ثمينة. وضمن هذا التوجه، الذي يتم في صيغة هادئة بعيدا عن التهويل، مع تمام الإدراك بثقل التحديات وخطورة المؤشرات إذا لم تتخذ التدابير الملموسة في الوقت حينه بالاعتماد على المؤسسة الجزائرية الإنتاجية وحوكمة التسيير لدواليب المنظومة الاقتصادية والمالية الشاملة، يرتقب أن تقود الثلاثية المقبلة، المقرر انعقادها في ولاية بسكرة، التي تركز على وجود قدرات بناء اقتصاد متنوع ومتحرر من المحروقات تتقدمها الفلاحة والصناعة الغذائية والسياحة، بحيث أصبح المشهد الاقتصادي مفتوحا على أفق جديد يضع المؤسسة والمسير والمبادرة باتخاذ القرارات الناجعة في الصدارة. فقد اتخذت جملة من الترتيبات التشريعية والتنظيمية التي توفر المناخ المناسب لإطلاق المشاريع وفقا لمعطيات السوق ومن أبرز ما تحقق على هذا الصعيد، تحفيز استقطاب الموارد المالية الهائلة التي تتداول في السوق الموازية ورفع التجريم عن أفعال التسيير، إلى جانب التنظيم الهيكلي الجديد للمؤسسات العمومية التي أدمجت في شكل مجمعات قطاعية متحررة من أي وصاية تعيقها وتكبح نموها. وبهذا الصدد (إطلاق المجمّعات الصناعية)، لم يكشف إلى اليوم عن النتائج التي يفترض أن تكلل أعمال مجالس الإدارة الجديدة التي نصّبها وزير الصناعة والمناجم قبل أشهر مضت، ويجهل تماما إن كانت هناك مؤشرات تنبئ بانطلاق فعلية وناجعة أم لاتزال البيروقراطية والذهنيات البالية تحاصر بعض من كلفوا بتحريك تلك المجمعات لتكون قاطرة تسحب وراءها المنظومة الصناعية إلى مستوى النمو المطلوب، من خلال تلبية احتياجات السوق المحلية بالإنتاج الجزائري والانفتاح على جبهة التصدير إلى الأسواق الخارجية، تمهيدا لانتهاء مرحلة المساعدة والتطهير المالي وكافة أشكال الدعم. وفي ظل كل هذه المخاوف، يرصد بالمقابل وجود حركية صناعية يمكنها أن تحمل حلم بناء اقتصاد متنوع، كما هو مسطر، تتمثل، إضافة إلى مشاريع صغيرة ومتوسطة، في أخرى بالشراكة بدأت تعطي ثمارا ملموسة، على غرار مصنع رونو بوهران ومختلف وحدات الصناعة العسكرية الموجهة للاستعمال المدني التي تعتبر بالفعل إنجازا بديلا ومكملا يعزز المشهد الصناعي الوطني، في انتظار استكمال مشاريع ضخمة أخرى، على غرار مركب إنتاج وتحويل الحديد والصلب بجن جن ومصانع النسيج بالغرب التي ينبغي أن تتقدم أشغالها في الآجال لتدخل مرحلة الإنتاج وبالتالي تدعيم مسار النمو خارج المحروقات.