يعتني الدستور بانشغالات وتطلعات المجتمع في ضوء مرجعيته التاريخية والحضارية ولذلك تنصب أحكامه أساسا على تنظيم وضبط المؤسسات التي تتكفل بإدارة الشأن العام للبلاد وفقا للخيار الديمقراطي التعددي وفي ظل تكريس مبادئ تضمن الحريات الفردية والجماعية وتصون موارد ومقدرات الأمة. من الطبيعي أن تتضمن التعديلات الواردة في المشروع التمهيدي لمراجعة الدستور أحكاما تذهب في بعض المجالات إلى تعميق الخيارات وتدقيق المهام قصد تعزيز البناء المؤسساتي وإعطاء قابلية التجسيد لمجموعة القيم والخيارات ومن ثمة سد ثغرات وإنهاء تأويلات للتفرغ أخيرا إلى مواجهة التحديات التي تلقي بظلالها على المشهد الوطني وخاصة التصدي لتداعيات انهيار أسواق المحروقات وتراجع إيرادات البلاد بالعملة الصعبة. ويقود هذا البناء القانوني لدستور يتجاوز بكثير الطابع التشريعي ليطرح برنامجا يستجيب للاحتياجات ويوفر الأرضية لتصحيح وتقويم مجموعة قوانين عضوية حتى ترتقي للتطلعات وتواكب التطورات التي عرفها المجتمع. ومن هنا تمت تسوية كافة الجوانب المتعلقة بالهوية الوطنية والحسم في مسار اقتصاد السوق الاجتماعي باعتماد حرية المبادرة وتأكيد ملكية الدولة للموارد الأساسية ذات الطابع الاستراتيجي والوقوف في وجه الفساد خاصة بدسترة مجلس المحاسبة. بلا شك لا يمكن إرساء دستور شكلي ذي طابع عام في مرحلة تتطلب إرساء أحكام تحمل دلالات تتجاوز الظرفية وتهيئ المناخ للأجيال القادمة لمواصلة البناء المؤسساتي التعددي وفقا للآليات الديمقراطية التي تضمن للإرادة الشعبية الحسم في الخيارات الكبرى ضمن ضوابط السلم والأمن الذي أصبح بمثابة القاسم المشترك اليوم ينبغي أن تتظافر جهود الجميع للحفاظ عليه خاصة في مرحلة تواجه فيها البلاد تحديات البناء الوطني بكل ما يقتضيه من عزيمة وإحباط ما يدبر في مخابر أجنبية بالتزام اليقظة والتحلي بروح المواطنة التي لم يتأخر الشعب الجزائري في التعبير عنها كلما تطلب الأمر ذلك. وفي ضوء كل هذا جاءت التعديلات الدستورية أيضا لتضفي انسجاما بين المؤسسات الدستورية وتوازنا بين السلطات والارتقاء ببعض الهيئات التي تلعب دورا في الحياة الوطنية لمختلف القطاعات مثل الشباب والاقتصاد والهوية ومن ثمة إسقاط كل ما من شأنه أن يلوث ساحة الحوار أويمتطيه البعض من أجل بلوغ مصالح فئوية أوذاتية، لتتفرغ البلاد لخوض معركة التنمية المستدامة التي تحتاج إلى تعميق الانفراج وتوسيع مساحة المشاركة الوطنية فيجد كل واحد موقعه في الساحة للمساهمة في البناء. ومن الطبيعي أن تكون للدستور في أي بلد بطبيعة الحال خصوصية مجتمعه ولذلك كان للخصوصية الجزائرية أثرها في التعديلات بما يستجيب للانشغالات الكبرى والتطلعات المشروعة الأمر الذي لا يمكن تجاهله أو تغييبه بقدر ما يستحسن تنمية روح بناءة من كافة الشركاء من حيث إدراك الرهانات والشعور بثقل التحديات، ذلك أن الطبقة السياسية التي خصّتها الأحكام الجديدة في وثيقة مراجعة الدستور باهتمام معتبر يشكل لبنة جديدة في تعزيز دور المعارضة السياسية التي لا يجب أن تنزوي في قوقعة ضيقة بقدر ما يليق بها أن تنخرط في مسيرة البلاد على اعتبار أن المعارضة البناءة قيمة مضافة للديمقراطية.