تعكس التعديلات الدستورية التي تم الكشف عنها مدى الأهمية التي يحظى بها المجال الاقتصادي باعتباره القاطرة التي يمكنها أن ترتكز عليها باقي الركائز ذات الطابع السياسي. فلم يعد الدستور الحديث يقتصر على إدراج شعارات مع ميل كبير للأحكام السياسية، إنما يتصدى أيضا للتحولات الاقتصادية، كونها ترتبط في الجوهر بضرورة حماية الاستقرار ومن ثمة توفير المناخ الملائم لتحقيق الأهداف الوطنية بكل تشعباتها. ولعلّ من أبرز ما يمكن الوقوف عنده في مراجعة الوثيقة تأكيد جملة من الثوابت المرتبطة بالنموذج الأصلي للدولة الجزائرية، ويتعلق الأمر بتسجيل وبوضوح حضور الدولة في الحقل الاقتصادي من حيث النص على ملكيتها للمقدرات الجوهرية للأمة واعتنائها بالتنمية من خلال الاستثمار والضبط والتنظيم، وكذا تكريس انتهاء التمييز بين المؤسسات من حيث الطابع القانوني واعتبار المؤسسة الجزائرية واحدة وتحظى بنفس المعاملة ليكون السوق هو الآلية التي تفرز بينها والقاعدة الدستورية الأكثر جدوى النص على مكافحة الفساد بكل أشكاله كونه الضامن للشفافية والحامي للثروات الوطنية. وتضع الأحكام الدستورية التي تؤكد أيضا مبدأ حماية حرية المبادرة الاستثمارية في كل القطاعات وضمانها بشكل يضع الرأسمال الاستثماري الوطني والأجنبي في مأمن من أي خطر خارج معادلة السوق التي تمثل الآلية الوحيدة للحسم في التنافسية والمشهد الاقتصادي الوطني على نفس الدرجة التي يتمتع بها المشهد السياسي والمؤسساتي. وكان لزاما أن يتم اللجوء إلى تعميق الخيارات والنص على جوانب كانت تعتبر في الماضي ضمن التفاصيل من أجل تأطير دقيق للمنظومة وإرساء ركائز دستورية توفر الأرضية على مستوى الدستور لإعادة ترتيب المنظومة القانونية العضوية ذات الصلة مستقبلا بحيث لا يمكن لها أن تنزلق إلى متاهات من خلال اللعب على فراغات أو غموض. ومن الطبيعي أن تتقدم قضايا اقتصادية على أخرى سياسية خاصة في ظل الأوضاع المحلية والعالمية التي تظهر مدى القوة التي تعود للفعل الاقتصادي (الاستثماري والتجاري) في إنتاج الفعل السياسي، وأحيانا يكون أكثر جرأة في صياغته مثلما تؤكده تطورات النظام الاقتصادي العالمي الذي يظهر مدى ارتباط الاستقرار بالنسبة للدول والأسواق بالخيارات الاقتصادية التي ترسمها الشركات العابرة للحدود وتسجل بصماتها في قرارات الدول الكبرى التي تستهدف مصادر الطاقة والأسواق الناشئة حيث الثروات تسيل لعاب الكثيرين من أغنياء وأقوياء العالم الذين لا يتركون فرصة لاقتصاديات البلدان المترددة أو التي تتأخر في مواكبة التحولات. ووردت أحكام التعديلات واضحة وفقا لبناء معادلة متوازنة تربط بين دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي وحرية المبادرة الاستثمارية للمؤسسات والمتعاملين بدون تمييز ضمن إطار تحكمه قيم التنمية وشفافية المعاملات، بحيث أكدت بقاء قطاعات لها ثقلها في المجتمع ضمن ملكية الدولة مثل المحروقات والثروات الباطنية والنقل البحري والجوي والسكك الحديدية والبريد والمواصلات. هذا الأخير الذي أنهي الجدل بشأنه- في وقت ارتفعت فيه في السابق أصوات حاولت الدفع به إلى متاهات السوق المفتوحة على أخطار بفعل جاذبيتها ونموها المتسارع- تحصل على ضمانات دستورية تدرجه في خانة الأملاك العامة التي تعود للمجموعة الوطنية بالنظر لحجم القطاع المالي والاجتماعي ودوره الحيوي في النمو، مما يجعل العاملين فيه أمام مسؤولية تاريخية تقتضي الرفع من وتيرة الأداء بالمعايير الاحترافية والتخلص من سلوكات بالية لطالما أضرت بقطاع البريد. ومن شأن الأرضية الدستورية التي تحكم الساحة الاقتصادية أن تزيل كل لبس أو تأويل بشأن الخيارات الكبرى والمحورية بحيث تجسد توجهات متوزانة تستجيب لمتطلبات الظرف وتداعياته في المديين القريب والمتوسط بالخصوص بإقحام كل الموارد الوطنية جذب الاستثمار الأجنبي المباشر الموجه للانتاج وخلق الثروة دون تفريط في المكاسب، التي لا ينبغي الاكتفاء بها كثمرة لمسار تنموي وطني طويل بقدر ما تتطلب تنميتها عن طريق رد الاعتبار للعمل كقيمة اقتصادية واجتماعية خلاقة للنمو الذي تراهن عليه الجزائر من أجل تجاوز المنعرج الخطير الناجم عن الصدمة المالية الخارجية.