مرجعيتها العدالة الاجتماعية والتضامن في هذه الذكرى العزيزة والغالية، تعود بنا الذاكرة إلى استحضار تضحيات أبناء هذا الشعب من أجل استرجاع السيادة الوطنية، خاصة أولئك الذين سقطوا في ميدان الشرف، وأعدموا وعذّبوا حتى الموت هكذا كان ثمن الاستقلال. هذا التتويج الثوري هو ذلك العهد الذي قطعه رجال الأبرار، الأخيار والأطهار، الذين استنفروا وقرّروا طرد هذا الاستعمار الاستيطاني الغاشم مهما كان الثمن، وأول نوفمبر هو بداية هذا المسار النضالي الطويل الذي رتب الأولويات والمدخل إلى كل ذلك يكون عبر طرد الإحتلال بشكل نهائي. والقرار الوطني هذا لم يأت من فراغ، بل هو تراكمات لما تعرضت له الحركة الوطنية من ضغوط رهيبة قصد تجريدها من مضمونها الكفاحي من خلال جرّها إلى محاولات سياسية يائسة وجدت نفسها ضحية خطاب راهن على ربح المزيد من الوقت، في حين كان المناضلون في الميدان يطالبون ب «عمل تاريخي» وكان لابد من الإستجابة إلى هذا المطلب إن آجلا أم عاجلا. بيان «الفاتح» من نوفمبر أعلن الثورة على أنها شعبية مفتوحة على كل من كان ينتظر هذا اليوم الأغر، لينخرط في التنظيم الجديد «جبهة التحرير الوطني» على أساس فردي وليس إنتماءً لأي تيار حزبي معين .. وهذا في حدّ ذاته توجه سياسي فريد يعلن القطيعة مع الممارسات السابقة.. فكل من يرغب الالتحاق بالثورة عليه بالتخلي عن كل تلك القناعات العقيمة التي تضرّ أكثر مما تنفع للوصول إلى ما يعرف «بوحدة الهدف». من أول نوفمر 1954 إلى 20 أوت 1956، قرابة السنتين من عمر الثورة قرّر القادة تقييم هذه المرحلة الحاسمة من خلال وضع منطلقات أخرى تسمح برؤية تستجيب لتحديات المرحلة، تكون في مستوى الحدث الوطني، وهكذا شهدت الثورة ما يعرف بالتنظيم والتقنين (التقسيم، الرتب، المهام، الأولويات...). ومن مؤتمر الصومام إلى إتفاقيات إيفيان، أبلى فيها المجاهدون البلاء الحسن من خلال المعارك الحاسمة وإحباطهم لكل المخططات الجهنمية (خطا شال وموريس)، بالرغم من سياسة الأرض المحروقة، والمحتشدات والعزل كل هذا من أجل محاولة ضرب الثوار في الصميم لكنها فشلت فشلا ذريعا. وجاءت تلك الاتفاقيات لتؤكد حقيقة مفادها أن الإستقلال الوطني تحقّق بالتضحيات الجسام المقدرة بحوالي مليون ونصف مليون شهيد، وفق ما ورد في بيان أول نوفمبر التاريخي الذي حدّد مفهوم الدولة الوطنية المتولدة عن الثورة. ونسجل هنا ذلك الإنسجام والتوافق في المواقف والنظرة تجاه بناء الدولة التي جاءت تتويجا للكفاح الوطني يكون مضمونها الطابع الشعبي بامتدادته الإجتماعية والتضامن والعدل. هذه المبادىء الأساسية هي مرتكزات الشروع في إقامة المؤسسات ما بعد الثورة. هي قناعات راسخة، وقيم ثابتة لا يمكن التنازل عنها أبدا أو السعي لوضعها جانبا من أجل خيارات أخرى، هذا ما شدّدت عليه المواثيق الأساسية للثورة، التي صدرت في أواخر مرحلة الكفاح المسلّح والتي كانت واضحة في هذا الشأن، على أن تكون المرجعية قائمة على كل ما هو اجتماعي في الأبعاد الإقتصادية. ولابد من التأكيد هنا بأن للثورة الجزائرية تجربة رائدة في إدارة شؤونها من خلال المؤسسات التي حقّقت الإستقلال (مجالس الثورة، حكومات مؤقتة..). هذه الخبرة المكتسبة لم تمنع أبدا من دخول معترك تسيير شؤون الدولة الوطنية الفتية، وفق سياقات تلك المرحلة المتسمة آنذاك بسياسة القطبين (الاتحاد السوفياتي، والولاياتالمتحدة) .. غير أن الطابع الثوري والتحرري هو الذي كان يهيمن على العلاقات الدولية، في آسيا، الثورة الفيتنامية، أمريكا اللاتينية الثورة الكوبية وإفريقيا استقلال قرابة 16 بلدا في بداية الستينات هكذا كان المشهد الدولي آنذاك .. والخيار الجزائري لا يخرج عن هذا النطاق .. أي البقاء في دائرة كل ما هو دعم للحركات التحررية، وتصفية الإستعمار خاصة مع اللائحة المشهود لها 14 / 15. المسيرة الوطنية الجديدة وهكذا بدأت مسيرة الجزائر ما بعد الإستقلال بتولي الرئيس أحمد بن بلة مقاليد الحكم في ظروف خاصة وحسّاسة في آن واحد.. عرفت تطبيق ما يعرف ب «التسيير الذاتي» إلا أن هذه العمل لم يستمر نظرا لقصر الفترة 1962 - 1965 ..ليحلّ محلّه الرئيس هواري بومدين عنوانه «التصحيح الثوري» ومن 1965 إلى غاية 1978، سعى الزعيم الراحل إلى إرساء قواعد بناء الدولة الوطنية القادرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية. وكانت الأولوية للتنمية الشاملة التي تعتمد على الثروات ال 3، الزراعية والصناعية والثقافية، والمخططات والبرامج الخاصة، وهذا لوضع قاعدة واسعة وأرضية صلبة في استحداث ذلك التنسيق في المنظومة الإقتصادية. وهذا التوجه كان خاص بالتعجيل في تغيير الأوضاع رأسا على عقب بعد الإستقلال وهذا من خلال الشروع في الإهتمام بالريف الجزائري، وسكانه (القرى الفلاحية) و(التعاونيات).. وبالتوازي مع ذلك استفادت الجزائر من سلسلة من المصانع عبر كامل التراب الوطني (الحجار، سوناكوم ومركبات البترول والغاز). هذا لم يمنع أبدا من التأطير السياسي المبني على وضع أسس السعي للخروج من الشرعية التاريخية إلى الشرعية الشعبية أي بالعودة إلى مبدأ الإنتخابات، وهذا من خلال المجالس الشعبية البلدية، الولائية، والوطنية وتعزيزها بمراجع فكرية (الميثاق الوطني، والدستور). هذه الحركية توقّفت في 1978 إثر وفاة قائدها لندخل فترة جديدة تحت رئاسة الشادلي بن جديد الذي أشار في خطاباته لأولوية إلى بوادر التغيير في نمط التسيير وهذا باستعماله مصطلحات «التركة الثقيلة» ، «التراجع والمراجعة» بالرغم من أن التوجه العام كان يجنّد أو بالأحرى فارضا آنذاك الإستمرارية في النهج.. هذا التحوّل لم يحدث إلا في 1988 من خلال أحداث الشارع ومن هنا بدأت بوادر الخروج على ما يعرف بالإشتراكية والذهاب إلى الإصلاحات السياسية (التعددية الحزبية والإعلامية) سارت إلى جانبها النقلة الإقتصادية بإعادة الهيكلة وتقسيم المؤسسات عندما تبين أن رأسها أكبر من جسمها و»جتث تحت الإنعاش» هكذا كان الخطاب يصفها. والممارسة الميدانية كانت مكلفة جدّا عندما اعتمد حزب ديني وهكذا دخلت البلاد في مرحلة صعبة، وقاسية في آن واحد، وكادت الجزائر أن تنهار جراء الإرهاب الهمجي الذي دمّر البشر والحجر، وتعطّل العمل السياسي والاقتصادي نظرا لتعقد الوضع، بالرغم من وجود دستور 89 الذي أقر بكل تلك الإصلاحات. وتجسدت فكرة الحكم الجماعي (المجلس الأعلى للدولة) برئاسة المرحوم علي كافي، ثم نودي على بوضياف الذي جاء في ظروف استثنائية حاملا معه جزائر الثورة في رأسه ولم يكن السياق موات لأي مبادرة. واضطر السياق إلى التفكير في إنهاء كل ما هو انتقالي والذهاب إلى الإستقرار النهائي في تثبيت المؤسسات من خلال الرئيس اليمين زروال الذي جاء بدستور 1996، الحامل لمضمون بناء هياكل جديدة، وإعادة تنظيم الحياة السياسية والممارسة اليومية من أجل استحداث التوازنات الكبرى، ووضع حدّ لأي تجاوزات تذكر في الاستحواذ على السلطة من خلال الصندوق ولابد من الإشارة هنا إلى أن الوضع الأمني كان في أوجه.. لا داعي للبكاء على الأطلال. النظرة الصارمة لبناء المؤسسات وهكذا دخلت الجزائر مرحلة جديدة وهذا بانتخاب السيد عبد العزيز بوتفليقة رئيسا للجمهورية، الذي بدا لأول وهلة أنه حقا حاملا لمشروع بناء الدولة الوطنية من خلال الأهداف المسطرة ألا وهي: ^ إطفاء نار الفتنة ^ التكفل بالاقتصاد الوطني ^ إعادة الجزائر إلى الحضور الدولي وبالتوازي مع ذلك إشتغل على ملفّات قوية في مضمونها وتتعلّق ب: ^ إصلاح العدالة ^ إصلاح المنظومة التربوية ^ إصلاح مهام الدولة. هذه الملفات كانت ضمن الأولويات الراسخة لدى الرئيس لاستدراك تأخر في البلد دام قرابة 20 سنة، والمقاربة المتبعة في المقام الأول هي «لا تنمية بدون أمن» وهكذا بدأ مشوار استعادة الاستقرار إلى ربوع الوطن من خلال الجرعة الأولى الوئام الوطني.. نزول حوالي 6 آلاف شخص من الجبال واستعادة 18 ألف قطعة سلاح.. وكان لابد من الجرعة الثانية «المصالحة الوطنية في 2005 هي تتويج لحب الجزائريين للأمن. وأشرف رئيس الجمهورية شخصيا على التحسيس لهذا المشروع السلمي في كامل ربوع الوطن متحدّيا الأصوات الهامشية بوقله «إن كان لديكم خيار آخرا، فأروني إياه» وهذا إشارة قوية لتقبّل الجزائريين واحتضانهم لهذا العمل السلمي القائم على الصفح الجميل تجسد في ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، الذي أصبح نموذجا للشعوب المضطربة.. وهكذا فصل الشعب وقال كلمته على أنه يجب الإطمئنان والسكينة. وبالتوازي مع ذلك تحركت الآلة الإقتصادية وهذا بإعادة التنمية إلى الولايات (سكنات، مدارس، مسشفيات، جامعات، طرقات، سدود...) وهذا بتزويدها بمشاريع جديدة حسب الاحتياجات المستعجلة.. وما يزال هذا النشاط حتى الآن وبقوة وفي نفس الإطار كان هناك اهتمام خاص بالعدالة من خلال المورد البشري والتكوين وإصلاح النصوص ونوعية الأحكام وعدم الإفراط في الحبس الإحتياطي، وتوسيع فضاءات السجون، نفس الإنشغال كان في التربية. وأهم إنجاز قام به الرئيس بوتفليقة هو محوه لديون الجزائر الخارجية التي كانت تثقل كاهل أي مبادرة في هذا الإطار، بتقليصها إلى مستويات منخفضة جدّا سواء لدى الأفامي أو النوادي الخاصة.. والأكثر من هذا منحت الجزائر 5 ملايير دولار لصندوق النقد الدولي. واستعادت الجزائر هيبتها دوليا بفضل الرئيس بوتفليقة الذي تنقّل إلى كل العواصم الكبرى وشارك في أكبر ملتقيات العالم لإبلاغ الحضور من صنّاع القرار برسالة الجزائر. وسعى الرئيس بوتفليقة جاهدا من أجل إدخال تعديلات على مواد الدساتير السابقة وهذا بدعم وتعزيز مضمونها باتجاه الأفضل. ففي كل مرة يكون التوجه نحو إضفاء طابع تكييف محتوى أسمى وثيقة مع التطور الكبير والهائل التي عرفه المجتمع بإدخال آليات جديدة بمثابة تحصين لأداء المؤسسات إنطلاقا من قناعة مفادها أن الدستور هو ضمان للحقوق والواجبات والحريات والصلاحيات بدقة متناهية، لم يأت للأحزاب وإنما هو لسان كل أفراد هذا الشعب ومؤسساته. وعهدة الرئيس بوتفليقة هي الأكثر ثراءً وحضورا من أجل تقوية ركائز الدولة من كافة النواحي في إطار الوضوح وهذا بتحديد المهام بشكل دقيق والإنخراط في نسق منظومة حكم مرجعيتها المؤسسات .. ويتجلى هذا في دستور فيفري الذي أرسى أسس الدولة الوطنية الواردة في بيان أول نوفمبر بأبعادها العدالة الاجتماعية والتضامن الوطني.. هذه القيم لا تخلو من أي خطاب لرئيس الجمهورية أو بيانات مجالس الوزراء أو الرسائل الموجهة للجزائريين في كل مناسبة أو التعلميات للحكومة.