عرفت الجزائر، على مدار 50 سنة من استقلالها، مراحل تطورية مختلفة تخللتها عدة أحداث تدخلت في تحديد المسار السياسي للبلاد، وكان لها الأثر البالغ في ضبط السياسات العامة التي تبنتها الدولة، سواء لمعالجة الأزمات التي عصفت بها أو في إطار التقويم الوطني وتعزيز المكاسب الديمقراطية التي تحققت للشعب الجزائري مع نهاية عقد الثمانينيات، لتصل الجزائر اليوم إلى مرحلة تعميق الإصلاحات السياسية التي ستكللها عملية تعديل الدستور من قبل لجنة الخبراء التي تم تنصيبها رسميا صبيحة أمس، لتتولى بالتالي صياغة المشروع التمهيدي لثامن دستور في تاريخ الجزائر. فهذا المشروع التمهيدي الذي سيضبط المعالم الكبرى لأعلى قانون في الدولة، سيكون بعد تزكيته الأخيرة سواء من قبل البرلمان بغرفتيه أو عبر عرضه على الاستفتاء الشعبي، الدستور الثامن للجزائر منذ الاستقلال، والرابع في صيغته القائمة على أساس التعديلات التي طرأت على دساتير 1988، 2002 و2008.
دستور 8 سبتمبر 1963.. تكريس التوجه الاشتراكي أنشأت الجزائر بعد الاستقلال مباشرة هيئات مؤقتة للإشراف على مرحلة بناء الدولة الجزائرية المستقلة، حيث تم بعد ترسيم الاستقلال نقل السلطة في البلاد إلى الهيئة التنفيذية المؤقتة المشكلة من رئيس و10 نواب، حددت لها مهمة الإشراف عن الشؤون العامة إلى غاية تنصيب السلطات الجزائرية. وفي 20 سبتمبر 1962، تم انتخاب المجلس الوطني التأسيسي الذي انتقلت إليه كل السلطات التي كانت بيد الهيئة التنفيذية المؤقتة ومؤسسات الثورة، وشملت مهام المجلس الذي كان يتشكل من 196 نائبا، تعيين الحكومة التي تم تنصيبها في اجتماع 26 سبتمبر 1962، والذي تم خلاله تعيين الراحل أحمد بن بلة رئيسا لها. وقام المجلس بمحاولات لإعداد مشروع الدستور، لكن تبين للمكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني ولرئيس الحكومة أن النقاش الدائر في المجلس، لا يعبر عن مبادئ الثورة ومضمون برنامج ميثاق طرابلس الهادفة إلى إرساء ديمقراطية شعبية، ولذلك، تم تكليف لجنة خاصة بإعداد مشروع الدستور الذي تم إقراره من قبل المجلس الوطني التأسيسي في 28 أوت 1963، قبل عرضه على استفتاء شعبي في 08 سبتمبر 1963، ليكون بذلك أول دستور في تاريخ الدولة الجزائرية المستقلة.وبني النظام السياسي الجزائري في ظل دستور 1963 على أساس النظام الجمهوري في ظل الديمقراطية الشعبية، مع إقرار النظام الاشتراكي أسلوبا لتنمية البلاد وترقية الشعب وحصر أداته في الحزب الواحد المتمثل في حزب جبهة التحرير الوطني. كما أقر دستور 1963 حقوق وحريات الأفراد من منظور التوجه الاشتراكي وحدد ممارسة السيادة في البلاد من خلال ثلاث هيئات هي المجلس الوطني، السلطة التنفيذية، وجهاز العدالة، مع الإشارة إلى أن السلطة التنفيذية طبقا للنص، يتولاها رئيس الجمهورية الذي ينتخب بالاقتراع العام ويجمع بين منصبي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، ويعد مسؤولا أمام المجلس الوطني.
دستور 22 نوفمبر 1976.. إعادة تنظيم السلطة إثر انقلاب 19 جوان 1965 الذي نفذته مجموعة من الضباط بقيادة الرئيس الراحل هواري بومدين تم إصدار أمر في 7 جويلية 1965 لإعادة تحديد آليات ممارسة السلطة، من خلال جمع الصلاحيات بيد مجلس الثورة المتكون من 26 عضوا، في انتظار إصدار دستور جديد، فيما تم إقرار دور الحكومة في كونها أداة تنفيذ بيد مجلس الثورة، يرأسها رئيس مجلس الثورة، مع إنشاء هيئات استشارية منها المجلس الاقتصادي والاجتماعي. وفي سياق إعلان الرئيس الراحل هواري بومدين عن نيته في العودة إلى الشرعية الدستورية، تم بتاريخ 5 جويلية 1976 إصدار الميثاق الوطني الذي يعتبر المصدر الأسمى لسياسة الأمة وقوانين الدولة، وتزامن ذلك مع إعداد دستور 1976 الذي تم إعداد مشروعه من قبل لجنة خاصة ضمت متخصصين في السياسة والقانون في إطار حزب جبهة التحرير الوطني وعرض على الاستفتاء الشعبي بتاريخ 19 نوفمبر 1976 فوافق عليه الشعب بالأغلبية وتم إصداره رسميا بالأمر رقم 76 -97 في 22 نوفمبر 1976. وقسم هذا الدستور وظائف السيادة بين مؤسسات الدولة، وحدد ثلاث وظائف أساسية تشمل الوظيفة السياسية التي يمارسها حزب جبهة التحرير الوطني من خلال هياكله ومؤسساته، الوظيفة التنفيذية التي يتولاها رئيس الجمهورية بمفرده، ويمارس بالإضافة إليها مهام تشريعية عن طريق الأوامر، وكذا الوظيفة التشريعية التي يتولاها المجلس الشعبي الوطني.
التعديل الدستوري ل3 نوفمبر 1988، التمهيد للتحول السياسي مع ظهور بوادر التراجع عن النظام الاشتراكي في بداية الثمانينات وتجلي فكرة مراجعة الميثاق الوطني في 1986، ومع تسارع الأحداث والرغبة في دفع عجلة الإصلاحات السياسية الاقتصادية، وكذا اندلاع أحداث 5 أكتوبر 1988 التي سقط خلالها العديد من الضحايا، تم في 3 نوفمبر 1989 إجراء استفتاء شعبي حول تعديل دستور 1976، وشملت أهم التعديلات ثلاثة محاور أساسية تضمن الأول تنظيم مركز رئيس الجمهورية من حيث إجراءات انتخابه وسلطاته، فيما تضمن الثاني إنشاء مجلس محاسبة لمراقبة جميع النفقات العمومية للدولة والحزب وللمجموعات المحلية والجهوية والمؤسسات الاشتراكية بجميع أنواعها، في حين شمل المحور الثالث من التعديل إنشاء منصب رئيس الحكومة، وإحداث نظام الثنائية في الجهاز التنفيذي مع قيام مسؤولية الحكومة أمام البرلمان.
دستور 23 فيفري 1989، تكريس التعددية والنظام الديمقراطي تبعا للتعديل الدستوري لسنة 1988 تم تشكيل لجنة تقنية لإعداد مشروع دستور جديد عرض للاستفتاء الشعبي في 23 فيفري 1989، وشكل أول تحول سياسي عميق في حياة الجزائر المستقلة من خلال إقراره التعددية السياسية والإعلامية. كما كرس دستور 1989 التوجه الليبرالي كنظام بديل عن النظام الاشتراكي، وأقر مجموعة من المبادئ أهمها، تقرير مبدأ الملكية الخاصة وحرية المبادرة الفردية، مع الأخذ بالتعددية الحزبية والتراجع عن نظام الحزب الواحد، واعتماد مبدأ الفصل بين السلطات التشريعية، التنفيذية والقضائية، علاوة على إقرار حقوق وحريات الأفراد، إلى جانب تأكيد المبادئ المتعلقة بهوية الشعب الجزائري المتمثلة في الإسلام، العروبة والأمازيغية. وأنهى دستور 1989 احتكار جبهة التحرير الوطني للعمل السياسي، وفتح المجال أمام أحزاب سياسية متعددة للتنافس في الانتخابات.
دستور 28 نوفمبر 1996.. تقويم المسار الديمقراطي وضبط الحياة السياسية إثر الأحداث المأساوية التي عرفتها الجزائر بداية التسعينات مع توقيف المسار الانتخابي وانزلاق الوضع نحو العنف، تم تعليق الدستور في سنة 1992، كنتيجة للظروف الإستثنائية التي تعيشها البلاد والأوضاع المزرية المترتبة عن استقالة رئيس الجمهورية الراحل الشاذلي بن جديد، الأمر الذي دفع إلى إنشاء بعض المؤسسات الانتقالية منها المجلس الأعلى للدولة، والتحضير لإعداد دستور جديد يرمي أساسا إلى سد مجموعة من الثغرات التي تضمنها دستور 1989 وخاصة فيما يخص حالة تزامن شغور منصب رئيس الجمهورية مع حل المجلس الشعبي الوطني. وفي خضم الأحداث المريرة التي مرت بها البلاد، تم في عهد الرئيس السابق اليامين زروال، تشكيل لجنة تقنية لإدخال تعديلات جذرية على دستور 1989، تم عرضها على الاستفتاء الشعبي في 28 نوفمبر 1996. وطبقا لهذا الدستور الجديد تم حصر السلطة التنفيذية في رئيس الجمهورية والحكومة، مع تحديد كيفية وشروط انتخاب الرئيس، إلى جانب تحديد المدة الرئاسية بخمس 5 سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة.
تعديلا 2002 و2008، تغييرات جزئية استجابة لمطالب وطنية عرف الدستور الجزائري لسنة 1996 الذي أعلن رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة منذ توليه سدة الحكم في أفريل 1999، نيته في تعديله، عمليتي مراجعة جزئية في سنتي 2002 و2008، دعت إليها الضرورة الظرفية التي أملتها المطالب التي عبرت عنها شرائح كبيرة من المجتمع، حيث شمل التعديل الأول الذي تم بتاريخ 10 أفريل 2002 إدراج المادة 3 مكرر التي تنص على أن "تمازيغت هي لغة وطنية تعمل الدولة على ترقيتها وتطويرها بكل تنوعاتها اللسانية عبر التراب الوطني"، وذلك بمبادرة من رئيس الجمهورية بعد أخذ رأي المجلس الدستوري. أما المراجعة الثانية للدستور التي تمت في 12 نوفمبر 2008 فقد أقر خمسة تعديلات دستورية اقترحها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، يلغي أحدها تقييد فترات الترشح لمنصب الرئاسة المنصوص عليها في المادة 74 من دستور 1996، فيما شملت الأحكام الأخرى التي مسها التعديل حماية رموز الثورة وترقية كتابة التاريخ وتدريسه وترقية الحقوق السياسية للمرأة مع تمكين رئيس الجمهورية من الترشح لأكثر من عهدة رئاسية وإعادة النظر في تنظيم السلطة التنفيذية من خلال استحداث منصب الوزير الأول.
مشروع دستور جديد لتتويج الإصلاحات إعلان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في خطاب تاريخي للأمة في 15 أفريل 2011، عن دخول البلاد مرحلة مفصلية ومصيرية للتغيير الهادئ وتقوية دعائم الديمقراطية، من خلال تطبيق برنامج إصلاحات سياسية عميقة، جاء الإعلان عن أولى إجراءاته في مجلس الوزراء في 3 فيفري 2011 بإقرار رفع حالة الطوارئ بعد 9 سنوات من إرسائها، فيما بادر الرئيس بتعيين لجنة لقيادة مشاورات سياسية واسعة حول مختلف المحاور المحددة في برنامج الإصلاحات السياسية، قامت بالاستماع لمختلف فعاليات المجتمع السياسي والمدني في الجزائر وضبط مقترحاتها الخاصة بهذه المحاور وفي مقدمتها المحور الخاص بمشروع تعديل الدستور الذي دخل أمس مرحلة التنفيذ الفعلي بتنصيب الوزير الأول وبتكليف من رئيس الجمهورية للجنة الخبراء التي ستتولى صياغة الوثيقة التمهيدية لهذا الدستور الجديد.