هو المثقف والكاتب والدبلوماسي والإعلامي الذي لم يكلّ ولم يملّ.. سليل العلماء ورفيق العلماء ثم المسؤول عن تنشئة مشاريع العلماء.. هو محمد براهيمي الميلي، الذي فقدناه في نهاية سنة أليمة، ذهبت بأسماء لا تعوّض في المشهد الثقافي الجزائري.. محمد الميلي، الذي أقعده المرض وحال بينه وبين نشاطه الفكري والإبداعي الدؤوب، ينتقل إلى رحاب الله عن عمر ناهز 87 عاما، عمر قضاه في طلب العلم ونشره، وفي خدمة الكلمة الصادقة والإعلام الهادف والمسؤول. في التعزية التي أبرقها بهذه المناسبة الأليمة، وصف رئيس الجمهورية الفقيد محمد الميلي «لقد كان الفقيد جم الأدب عالي الخلق، حلو الشمائل، لطيف المعشر، ذا علم غزير وباع طويل في التأليف والكتابة، ولا غرو ذلك فهو سليل أسرة علمية ترعرع في حضن والده العلامة المؤرخ الكبير الشيخ مبارك الميلي رفيق درب العلامة المصلح الكبير عبد الحميد بن باديس، عليهما رحمة الله، وتشرب منه الخلق الحميد والنزاهة الوطنية الصرفة». وذكّر رئيس الجمهورية بجهاد الفقيد إبّان الثورة التحريرية، التي كان فيها «ينافح بالكلمة والقلم»، ثم في معركة البناء والتشييد حينما أسهم الفقيد في «بناء الدولة الحديثة بتوليه العديد من المسؤوليات في داخل الوطن وخارجه، وكان على حمل المسؤوليات قادرا، وفي أداء المهمات نشيطا». المثقف الثائر محمد براهيمي الميلي من مواليد 11 نوفمبر 1929 بمدينة الأغواط، أخذ الفقه عن والده وتلقى علومه بالمدرسة الفرنسية والمدرسة العربية «حياة الشباب» بميلة، والتي أنشأها والده الشيخ مبارك الميلي.. وحينما بلغ الخامسة عشرة توفي والده، فأرسله خاله إلى جامع الزيتونة ومعهد الصادقية بتونس ليتخرج سنة 1950. بعد تخرجه بشهادة الليسانس في التاريخ والجغرافيا، انخرط في جمعية «شباب العلماء المسلمين» وكان أستاذ اللغة العربية في معهد «ابن باديس» بقسنطينة، الذي أسسه الشيخ العربي التبسي. انضم إلى الثورة سنة 1955، وفي صفوف الكفاح تعرف إلى عدد من أعلام الثورة الجزائرية على غرار الشهيد عبان رمضان. وفي هذا الصدد يقول الفقيد محمد الميلي في واحد من حواراته: «من بين الثوار الذين كانت تربطني بهم علاقة متينة الشهيد عبان رمضان، باعتباره شخصية متواضعة وقوية من أروع ما يكون، فهو الذي خطط لمؤتمر الصومام لتوحيد القيادة». كما منحت للفقيد المجاهد ميدالية مقاوم أثناء الثورة التحريرية، ووسام الاستحقاق الوطني سنة 1984. الإعلامي الفذّ والدبلوماسي المحنك تولى الفقيد مهام التحرير الصحفي بجريدة المجاهد ومنذ سنة 1957، اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني، قبل أن يعيّن مديرا لنفس الجريدة. غداة الاستقلال، عيّن محمد الميلي مديرا لجريدة «الشعب»، ثم مديرا في الشؤون السياسية لجريدة «المجاهد»، وبعدها مدير المدرسة العليا للصحافة سنة 1967، ثم مدير إعلام بوزارة الإعلام، ليجد نفسه على رأس وكالة الأنباء الجزائرية مابين 1974 و1977. وعن الصحافة قال الفقيد: إنها «كل شيء في حياته، وهي من جملة الهوايات التي ورثها عن أبيه». واعتبر بأن «تحقيق توازن أي مجتمع متوقف على الدراسة المعمقة والنقدية للتاريخ والواقع بصورة تفضي إلى نقاش واسع مسؤول».. نقاش يساعد على صياغة حلول تفضي بدورها إلى «تشكيل القرار المطلوب والملائم، في إطار سياسة تقترح ولا تملي، توجه ولا تفرض، تقنع ولا تقمع». كما كان محمد الميلي نائبا بالمجلس الشعبي الوطني ومسؤولا عن ملف التربية والإعلام والثقافة، قبل تعيينه عضوا في اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني، ما بين 1977 و1979، وهي السنة التي عين فيها سفيرا للجزائر باليونان، قبل أن يصير مندوبا دائما للجزائر في منظمة اليونسكو، ثم سفيرا للجزائر بالقاهرة، فوزيرا للتربية الوطنية. حينما يُسكت المرض لسان المبدع ترك الميلي وراءه العديد من المؤلفات في السياسة والتاريخ والثقافة، مثل «الفاشية العالمية الجديدة»، «تاريخ الجزائر ما بين 1963 - 1964»، «الجزائر في مرآة التاريخ»، «ابن باديس»، «المواقف الجزائرية»، «المؤتمر الإسلامي الجزائري»، «الشيخ مبارك الميلي حياته العلمية ونضاله الوطني»، «حق المعرفة وحق الأمل». ولم يُخفِ الفقيد، الذي عرفت عنه صراحته المتناهية، امتعاضه من الركود الذي يميز الساحة الثقافية الوطنية، حينما اعتبر منذ حوالي 6 سنوات بأنه «لا توجد حياة ثقافية بمعنى الكلمة»، ورأى بأن الثقافة «هي في أتعس أحوالها».. كما لم يتوان الفقيد في المرافعة من أجل البحث والتنقيب وإظهار الحقيقة، معتبرا ذلك حقا من حقوق الشعوب: «من حق شعوبنا أن تعرف ما ينتظرها دون تزييف»، حقٌ الهدف منه هو الأمل، من خلال إشراك الشعوب وإسهامها «في تحقيق برامج تنبع من الأمل في مستقبل أفضل». وكانت الكاتبة والإعلامية زينب الميلي قد تحدثت في مرات عديدة للصحافة عن مرض زوجها محمد الميلي، وأكدت أنه عانى في السنوات الأخيرة من عدة أمراض ألزمته الفراش وغيّبته عن الساحة الثقافية، التي لطالما ساهم فيها بغزير أعماله وكتاباته.