يفتح الروائي عز الدين جلاوجي البوح بقول الساردة حوبة: «بلغني أيّها الحبيب الوسيم ذو القلب السليم أن... «. تحكي عن هروب شخصية البطل العربي مع حبيبته حمامة إلى مدينة سطيف من رجال القايد عباس، الذي كان يود الزواج من حمامة لفظ بكارتها فقط والاستمتاع باللذة فهو متزوّج بأربع نساء: «ليس لي به طاقة، وأخشى أن يلحق بنا العار، متزوّج من أربع نساء ويريد الخامسة، لعنة الله عليه». وهذه الظروف المحيطة بشخصية العربي أدت به إلى اختيار أصعب الطرق وهي المغامرة والاختفاء من أعين القايد عباس وشياطينه، وبذلك سبقه البطل العربي، فشخصية العربي بد في أول الأمر يحاول التمسك بقيم المجتمع لكونه إنسانا محافظا على أعرافه، إلا أن بعد اندماجه مع الحياة في المدينة ظهرت عليه ملامح التغيير، وبدأ الوعي ينمو لديه فقضية التخطيط للهروب محور أساسي في منعرج الرواية. كسر النمطية واكتشاف الآخر في شخصية البطل العربي وأناه كما تبدو قضية أخرى غير الانتقام والثأر، وهي قضية الوعي والتطور والنمو وكسر النمطية واكتشاف الآخر، ونلمس صراعا خفيا في شخصية البطل العربي وأناه، ويحرص الروائي على إبرازه في مواقف كثيرة ومنها: «أحس العربي بخدر في يده وهي تلمس لأول مرة يد يهودي، فاستعاذ في أعماقه من الشيطان الرجيم»، ومن هنا يتضح أن الأنا الأعلى والذي يمثل العقل والدين والعرف، حيث يوازي بين الذات والواقع الخارجي في القبول والرفض للإدماج المباغث بصورة خاصة، باعتبار انتمائه الحضاري، حيث شكل استقطابا واضحا للأنا في شتى نزوعها بعيدا عن صراعاتها، فالانتماء والهوية تواجه الأنا والهوية يشكل أزمة مع اللقاء بالآخر هو تحدي تواجهه الأنا، فالأمر يتعلق بالمروث الديني والثقافي والاجتماعي تشكل في ذاته «الأنا»، ويجعل الآخر هو المستعمر الذي يهتم بالقضاء عليه. شخصيتا سوزان والعربي الموسطاش ثنائية التّوازن واللاّتوازن وبما أن الهوية تمثل الانتماء إلى الوطن ولا يحتفظ بها إلا من خلال هذه الأنا بأن يتمسك الشعب بثقافته التي ورثها عن أجداده، أي في العقيدة وفي اللغة والفن والأدب والعادات والتقاليد والأعراف، وفي كثير من النظم الاجتماعية، وكما قد لا يمكن للفرد أن يكون حبيسا لها فهو يتأثر بالبيئة الثقافية، وهذا ما حدث بالذات لشخصية العربي فالمدينة غيّرت من ذاته وجعلته يكتشف من خلالها عالما جديدا خاصة بعد أن أصبح عاملا في أحد منازل المعمرين الفرنسيين أين تعرف على سوزان الفرنسية صاحبة المنزل، وكما هو معروف في الرواية العربية عامة والرواية الجزائرية خاصة لا تخلو من المرأة، فسوزان وسلافة الرومية إحدى الشخصيات الأجنبية التي نجدها في الرواية، وتمثل سلافة الرومية الأرض المنتهكة ورمت بها الحرب إلى الزمن الراهن في أحضان العنف والقمع والإنتهاك، حينما ألحق وصفها بالآخر مما سماح لأنياب الأيام أن تنبش جسدها وجمالها المنبهر، وفقدت سعادتها وضيّعت دنياها بعد موت القايد سعيد الزوج اللاهث وراء جمالها وحملها إلى الأرض الشرعية تاركة الذات لتتفاعل مع الآخر، فهي لا تملك إلا ابنها يوسف الروج الممزوج بالدم «الذات والآخر»، فهو رمز البقاء في الأرض المغايرة بعد أن انتقلت من أرضها مع الاستعمار الفرنسي والتي اعتبرت مجرد أجنبية مستعمرة عاهرة، أما سوزان هي زوجة فرانكو أحد المستعمرين الفرنسيين التي لم ترض بالرفاهية المسلوبة من أرض لا ذنب لها، إلا أنها وقعت بين نيران ملتهبة. ولوع الذّات بنفسها تزيح الآخر..ولا مثالية للأنا تكشف رواية «حوبة ورحلة البحث عن المهدي المنتظر» عن سوزان الشخصية الفرنسية الفاتنة بالجمال والرقة مثل حديقتها المزعومة، والعربي المستاش الشخصية الجزائرية والمنتمي إلى أصول أمازيغية وعربية، الذي هرب بزوجته إلى المدينة ذلك العالم الغامض والمستقبل المجهول دفاعا عن شرفه، إلا أنه وقع أسير هذا الجمال الأجنبي الذي تمتزج فيه اللذة والألم والخوف والفرحة والحزن، وكما وقع في حب الفرنسية وهي المرأة الغربية التي ليست سوى حدقة للآخر، فهذه المرأة الفاتنة والقوية والممثلة لمجتمعها وحضارتها وغربها تقع كذلك أسيرة رجولة وسحر وشرف هذا الرجل الأمازيغي والعربي، وبعد هذا الحب الذي وقع صنع بينهما صراع وقلق وخوف، وهنا يوحي بعدم الاستقرار في موضع ثابت تحت الممنوع، وهذا يدل على غلبة الأنا على الغرائز المرتبطة باللاشعور وتمثل غريزة البقاء الحب وتمثل غريزة الموت الحرب، فكيف يعبر العربي جسرا قائما بين دوافع حفظ الذات ودوافع الميل إلى الآخر، إذ أن الذات في أثناء ولوعها بنفسها تسعى إلى إزاحة الآخر، وهذا ما حدث للعربي عندما استحضر صورة زوجته حمامة في الموقف الذي وجد نفسه فيه، لكن الأنا بشكل أو بآخر تتحول عبر فضاء ما أو إحساس أو إدراك ما، فهي لن تكون مستقلة في الشعور بل تتجاوز حدها للوصول إلى حالة لاشعورية ولا مثالية للأنا. توظيف الأنثى للوصول إلى السلطة يحضر العنف باعتباره فعلا يمس كيان الإنسان يلحق بالغير ضررا ماديا أو جسديا أو نفسيا أو فكريا يستخدم لإلحاق الضرّر بالذات أو بالآخر، ولهذا شجّع أحد الأصدقاء العربي بالقيام بهذه العلاقة انتقاما لفرنسا التي اغتصبت الأرض لكن العربي صارع ذاته ويصر على أنها علاقة حب وليست علاقة انتقام، ويستشهد بالقرآن الكريم في الآية الكريمة {وانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع}، وهذا دافع آخر للعربي أن يطمئن باله من خلال العلاقة التي أقامها مع سوزان، واستطاعت تيمة الحب هنا أن تهزم تيمة الحرب، ومن الطبيعي أن يدرج الأنا والآخر في رواية «حوبة ورحلة البحث عن المهدي المنتظر»، فالأدب يفصح باستمرار على الذات والآخر عبر امكانيته السردية والجمالية من خلال اللغة وما يتعلق بها من مكونات سردية كالاسم والضمير والحوار. الدّعوة للانفتاح والمغامرة في دخول عوالم الآخر يبدو أن الاتصال الجنسي بين العربي وسوزان في الرواية أنه لا يعني المتعة بقدر ما يحمل طابع الانتقام، والكاتب يتحدث عن امرأة غربية جاءت مع الاستعمار فهي تمثل فرنسا ويمثل الانتقام رد فعل البطل العربي الذي تعد على شرف الفرنسيين الذين اغتصبوا حبيبته المتمثلة في الوطن، وهذا حسب المرجعيات أو الخلفيات أو المسببات النفسية والتاريخية والسياسية والثقافية والفكرية بحكم أن علاقة العربي بالفرنسية غير مشروعة ومرفوضة، ولكن الساردة حوبة أصرت وصرّحت عن المسكوت عنه رغم الأسئلة التي تطرح حول هذه العلاقة، وتجرأت الساردة على كشف وخلق احتمالات في عمق الذاكرة، ممّا يفتح المجال للأدوات النقدية لتحديد طبيعة سياقه والغوص في الكشف عن دلالته، ممّا يعني أن النص الأدبي خاضع لجملة من الاحتمالات وليس شيئا ساكنا انطلاقا من منطلقات معرفية واعية مرهونة باستجابة القارئ الذي يحمل في أفكاره للوصول إلى الجمالية الفنية المنشودة في أبعاد كثيرة ولا يمكن وجودها في النص باعتبار النص يحمل سياقه واتجاهه العلمي والإدراكي التدوالي والثقافي، وتمثل هذه الاحتمالات رغبة في تجاوز الذات للاستفادة من الآخر أو هو الدعوة للانفتاح والمغامرة في دخول عوالم الآخر. القراءة الموضوعية لمواجهة النص بافتراضات معرفية منسجمة معه تدور علاقة الذات والآخر في بادئ الأمر في فلك الخيانة، لكن بعد قراءة متأنية وأكثر عمقا تكتشف رؤية طافحة بالرمز الذي اشتغل عليه الروائي وجعل النص ينصهر كلية في بؤرة الخيانة، ولو جزمنا على هذه الاحتمالات وقلنا إنها حقيقة فقد نكون ظلمنا شخصية العربي الذي كان أحد الفحول الذي لم يرض بالذّل ودافع عن شرفه ودخل المدينة وازداد شهامة حين التحق بصفوف الحركة الوطنية، وكان مستعدا للفداء والاستشهاد من أجل وطنه، وها هو أصبح عدوا له استسلم للآخر، وبهذا قد نشوه مسيرته التاريخية والتاريخ يبقى صامدا من أجل الأجيال اللاحقة، ومع كسر الطابوهات والسير في اتجاه آخر غير هذا الاتجاه انطلاقا من معرفة النص من داخله، وتسعى القراءة الموضوعية إلى مواجهة النص بافتراضات معرفية منسجمة مع النص بهدف الوصول إلى ما تشير إليه الموضوعات المركزة والمتداولة في النص. المتخيّل مجرد حكاية على لسان الساردة ربما هنا يتعسّر علينا الفهم والتمييز في هذه الحادثة هل هي حقيقة تاريخية أم أنها وهمية؟ لجأ إليها الروائي ليجعلها واقعا روائيا، وفي الوقت نفسه متخيلا مجرد حكاية على لسان الساردة «حوبة» ليخلق الروائي في ذاتنا رغبة جامحة لتوغل في القراءة ونطلق توقعاتنا وانتظارنا، فالجانب الوهمي والخيالي من الرواية ما هو إلاّ وسيلة لتبسيط الحقائق التاريخية وترغيب القارئ للكشف والوصول إليها، ويمثل النص جملة من الأنساق التي تتشكل من السياقات التاريخية والاجتماعية والنفسية وهو شبكة من الثغرات دور القارئ في فكها، والولوج إلى عالم النص ومشاركة القارئ لاكتمال النص، ويتذوّقه ويحقق شيئا من المتعة عبر سطور وقعت عليها الكتابة وتحديد المواضيع التي يتناولها. طبعا شخصية سوزان الفرنسية هي المستعمرة لا أحد ينكر ذلك رغم جمالها وروحها الطيبة التي لم ترض بما يفعله الاستعمار إلا أنها تبقى الآخر الملطخ بدم الأبرياء. الجانب الوهمي والخيالي من الرّواية وسيلة لتبسيط الحقائق التّاريخية لكن شخصية حمامة الجزائرية العفيفة والطاهرة هي الحب الأبدي التي تحمل رمزية الوطن والأرض هي صورة الجزائر، أما الطفلة الصغيرة التي أنجبتها سوزان الفرنسية فهي حورية الابنة الشرعية حسب ما قاله سي الرابح للعربي «إياك أن تبوح بالسر لأحد، من تنجبه هو هو ابننا»، ممّا أدّى بالعربي أن يقصد شيخ المسجد لقراءة الفاتحة على زواجه من سوزان الفرنسية، هي الحرية المسلوبة والتي يتمنى أن تولد يوما ما ويتحقق النصر للجزائر، جزائر الحرية ويفكها من أنياب المستعمر، وهذا من خلال دلالة الاسم الذي وضعه لابنته عندما تركتها سوزان الفرنسية بين يديه «سأتركها أمانة عندك...ابنتي تتركينها أمانة عندي؟...إنّها ابنتي...سأسميها حورية». الاستعلاء والتعصب وسوء التّفاهم ثلاثية الأنا في شخصيات النص أجل حورية تنتطبق على حلم البطل العربي الموستاش وحلم كل جزائري تقبع غيرته على وطنه، وكي يعزّز الروائي صورة الآخر الايجابية نجده ينسج مشهدا مؤثرا تبدو فيه سوزان الفرنسية انسانة في منتهى العاطفة والرحمة بحيث تقدمت له المساعدة للتخلص من القايد عباس الذي مارس الإجرام في حق الأبرياء من خلال إرسالها لدعوة مزورة ساعدت العربي على قتل القايد عباس، وبهذا منح الروائي للآخر جانبا روحيا وسلوكيا إنسانيا ليمحو كل فكرة الاستعلاء والتعصب وسوء التفاهم، ممّا يفصح عن تبني القيم النبيلة فسوزان لم تكن يوما راغبة في اغتصاب الأرض والتعدي عليها، فالأرض تحن على الأرض وتتحد معها في حب وسلام وولاء فليس الحب والعلاقات الخاصة سوى جسور موصلة لمعرفة طبيعة النظام والحياة، فلا يكفي أن تجد نفسك فيه أينما كنت لكن الطبيعة البشرية سلطت عليها الصراعات النفسية والفكرية والمادية ليقدم كل طرف ما لديه من قوة وعتاد وكيد وجلاد، لينتصر المصارع على مصارع آخر. ورغم الاستيطان الفرنسي والأجنبي الذي قدّم الكثير من الأوروبيين ليعيشوا وسط الجزائريين وعلى أرضهم المغتصبة، وفي وقت ألهبت الحرب نيرانها استشهدت سلافة الرومية في إحدى شوارع سطيف أين كانت المظاهرات السلمية التي تنادي بالحرية الجزائرية، كانت سلافة جنبا إلى جنب مع الجزائريين وكيف لا وهي من تعلّقت بأرضها وترابها رغم المعاناة التي تلقتها من القايد عباس، هي أيضا رمز للمرأة التي أنجبت على هذه الأرض ولدا وكان له شأن عظيم في مسيرة الحركة الوطنية ولطالما كانت الرغبة في التخلص منها باعتبارها المرأة الغربية التي اندمجت وترعرعت بين أحضان هذا الوطن، وأحبته بإخلاص حتى لفظت أنفاسها برصاصة المستعمر الذي تمثله باسمها فقط، أما الروح فكانت مع الأرض المسلوبة، هنا يتجلى موقف الإنسانية الصادقة والنابعة من القلب. «حوبة» الوجه الآخر من الكتمان والحب الخالد حوبة أفصحت عن المسكوت عنه رغبة وإيمانا ووعيا على الانفتاح والحوار والتمسك بالقيم الإنسانية في ظل الحرية التي تبني جسر التواصل، لترتقي النزعة الانسانية بعيدا عن الحروب القاتلة والانفتاح على العالم الخارجي بفضل القيم الخالدة، التي يجسدها الحب والخير والصدق والعدالة والتسامح، لتزيل الكراهية والحروب والاعتداءات دون إلغاء الذات ودون امتلاك الآخر بعيدا عن ميراث الكراهية، وبعيدا عن مظاهر التخلف والتبعية واستمرار العلاقات بين الأنا والآخر في الحاضر والمستقبل في عالم يتسم بالمثالية. بين رحلة البحث عن الخلود جعل التحدي الذي رفعه البطل العربي منحصرا في حدود عالمه الصغير، عالم الذات الذي يحاول الإفلات منه وجعله الروائي عز الدين جلاوجي نقطة أساسها التطلع إلى غد أفضل، وهي النقطة التي تعظم في مخيلة الإنسان ووجدانه وتشكل الذات الإنسانية المحور الأساسي الذي تدور حوله الرواية، لكن تحقيق هذه الذات تبقى رغبة دفينة مقترنة بآلام الإنسان وآماله، فرحلة البحث قد تجعل مسار حياته شبه خرافة: «أنا لا أمن بالمهدي المنتظر هو مجرد خرافة رسمها خيال العامة...»، وكأنّ الروائي بنى أسلوبا حكائيا ساخرا من هذا المنطلق وبدا مستهزئا من أسطورة المهدي المنتظر، إلا أنه منح لها دلالة معاصرة يتيح من خلالها فتح مجال التأويلات وصور فيها الذات الإنسانية وأعاد للحكاية القديمة الاعتبار والكشف عن آمالها وأمانيها التي ترجوها وتنتظرها يوما على أرضها المجيدة، بعيدا عن الحرب والقتل وسفك الدماء، في فضاء يزرع وينمو فيه الوعي والأمل عند الأجيال القادمة. ويقول الروائي في الأخير: «انسحبنا عائدين يلفنا الصمت، وتحلق بنا خيالاتنا تسترجع أحداثا جليلة وقعت ذات سنوات في هذا الوطن الغالي، وحمدت الله أن حوبة قد نقلتها رواية، وكان لي فضل تدوينها حتى لا تضيع من الذاكرة فيلعننا التاريخ والأجيال القادمة ومددت يدي أضغط أصابع حوبة، فأشرقت على محياها ابتسامة خفيفة، خيل إليّ أنها بستان ربيعي يتعانق فيه الغيث وإشراق الشمس».